مبدأ الفصل بين السلطات والأنظمة المتفرعة

الشيخ فاضل الصفّار

والبحث فيه يستدعي تقديم بعض المقدمات:

 المقدمة الأولى: في لزوم الانفتاح بين الحكومة والشعب

لا بد من إقامة علاقات بين الحكومة والشعب، وتنظيم هذه العلاقات بموجب قواعد قانونية تحدد سلطات كل من أعضاء الدولة، وقد عرفت أنه يمكن أن تتسم هذه العلاقات في صورها الحسنى في أشكال عدة تشكل أصنافاً من الحكومات يتم اختيارها عبر اختيار الشعب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فإن شكل الحكومة يدل على مكانة السلطة، ويدل أيضاً على كيفية توزيع الوظائف بين السلطات السياسية، وهذا التوزيع هو المعبر عنه بمبدأ فصل السلطات في الدول.

 المقدمة الثانية: في لزوم التعاون بين السلطات

ان القول بمبدأ الفصل بين السلطات لا يلغي التعاون والتكامل، بل يستدعيه؛ إذ المراد من الفصل هو عدم تأثير إحدى السلطات في الأخرى بالقوة والهيمنة بحيث تسلب استقلالها، ولا مانع في أن تتعاون أو تتفاهم معها، بل يجب ذلك إذا كان من مصاديق التعاون على البر والتقوى؛ لقوله تبارك وتعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}[1] ولما يترتب على هذا التعاون من حفظ التوازن وإقامة العدل وضبط النظام، بل التعاون والتنسيق هو الأسلوب الأمثل لحفظ التوازن واستمرارية العمل بمبدأ الفصل، وإلا وقع نظام الحكم بين هوتين متناقضتين:

 إحداهما: النزاع والتخاصم، وذلك لو أرادت كل قوة أن تحفظ استقلالها وتتصادم مع القوى الأخرى لحفظ هذا الاستقلال.

 وثانيتهما: الاستبداد والتفرّد فيما لو سيطرت إحدى السلطات على الأخريين، وهذا نقض للغرض، واختلال للنظام، فلم يبق إلا الفصل القائم على التعاون والتنسيق.

 المقدمة الثالثة: في طرق الفصل بين السلطات

إن لفصل السلطات طرقاً عدة ناشئة من اختلاف طرقا ممارسة السيادة؛ إذ غالباً يوجد طرفان متناقضان في هذا المجال.

 أحدهما: السيادة الشعبية المطلقة، وهي فيما إذا كان الشعب هو الذي يمارس سيادته، وفي مثله قلما يعمل بمبدأ فصل السلطات؛ لأن الشعب هو الذي يجمع بين يديه السلطات كافة، ومعه لا خوف من الاستبداد حتى نحتاج إلى الفصل.

 ثانيهما: النظام السياسي المستبد، وهو على طرف مناقض للأول تماماً؛ لأنه يجمع كافة السلطات المطلقة في الدولة في فرد واحد وهو الملك أو الامبراطور أو الرئيس أو السلطان ما شئت فعبر، فهنا كذلك لا فصل بين السلطات لتنافيها مع النظام الاستبدادي الحاكم، وبين هذين النظامين هناك أنظمة وسطى يتراوح فيها مبدأ الفصل بين السلطات في تجاه نسبي من نظام لآخر، لكن في مجموعها لا تعطي الشعب السلطات كلها، ولا تنتزعها منه بأكملها، وإنما هناك حد وسط هو أنها تعطي الشعب الحرية في التعبير عن إرادته في اختيار سلطاتٍ أقامها لتمثيله في إدارة شؤونه، وهذا هو الأسلوب الغالب في الأنظمة الديمقراطية في العالم اليوم على ما يعبرون.

 ومن الواضح أن هذا الحد الوسط لا يكون وسطاً ما لم يفصل بين السلطات؛ لأن الواقع يدلنا على أن كل نظام حر وكل نهج شوري أو ديمقراطي فعال على اختلاف التعبير يقوم على مبدأ توزيع السلطات، وتقسيم مراكز القدرة، وإلا تمركزت في يد واحدة وتحول النظام إلى استبدادي متفرد.

 المقدمة الرابعة: في طرق حفظ التوازن بين السلطات

ان حفظ التوازن بين السلطات يتم عبر طرق، منها إعطاء القدرة والصلاحية لكل واحدة من السلطات لشلّ أعمال السلطة الأخرى عندما تمارس عملاً له علاقة بأعمال السلطة الأخرى عن طريق منح كل عضو سلطة الحكم وسلطة الردع معاً، وهي من وسائل العمل التي من شأنها أن تمنع تنفيذ القرارات الخاطئة الصادرة عن السلطة الأخرى، فيتولى العضو الأول الوظيفة التقنينية، والثاني تنفيذها، والثالث فصل الخلافات التي تنجم عنهما، ومن هذا التعاون والتكامل تتفرع ثلاثة أشكال من أنظمة الحكم، فإنه إذا كانت السلطة محصورة بيد السلطة التنفيذية أو تميل لصالحها كان النظام رئاسياً، وإذا كانت الغلبة من شؤون الحكم لصالح السلطة التشريعية اتصف نظام الحكم بالشكل المجلسي، وإذا كان هناك تعاون وتوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية كان النظام نيابياً، وهو ما يصطلح عليه بالنظام البرلماني، وربما يسمي البعض حكومته بحكومة الرأي العام. هذا ومع أن الصور والأشكال أكثر من ذلك إلا أن هذه الثلاثة هي أبرز الأنظمة الحاكمة في العالم اليوم، والتي لها دول وحكومات قائمة، ولتوضيح بعض ملامحها يستدعي الأمر التعرض إليها.

أشكال الأنظمة الحاكمة

الحديث عن أشكال أنظمة الحكم يتم تارة من حيث الموضوع وتارة أخرى من حيث الحكم، أما من حيث الموضوع فالظاهر أن أبرزها ما ذكرنا، وهذه الصيغ استقرائية خارجية وليست حصرية عقلية؛ ولذا لا تنفي ما عداها، ولا تبطل غيرها، بل هي أفضل ما وصل إليه أهل الخبرة من فقهاء القانون الوضعي في تشخيص موضوعاتها التي تجمع بين حق ممارسة السلطة وحق الحرية، ولتوضيح الأمر في هذا نتعرض إليها بشيء من الإيجاز.

أما النظام النيابي فعلى الرغم من صعوبة حصر القواعد التي ترسم ملامح هذا النظام بشكل محدد نظراً لتنوّع الأنظمة النيابية واعتمادها على طرق تطبيقية مختلفة باختلاف الدول ورأي الناس فيها غير أن هناك جملة من المبادئ الأساسية التي لا يمكن استثنائها من أي نظام نيابي، وبها يمكن أن نرسم الجوهر، ويبقى الشكل راجعاً إلى الطبيعة المرنة نسبيا لهذا النظام، و التي قد تقبل الانطباق على أي صيغة من صيغ الفصل بين السلطات إذا ارتضاها الشعب.

ملامح النظام النيابي

 من أهم هذه الملامح ما يأتي:

 1. أن تعيين رئيس الحكومة يتم عبر تعيين رئيس الدولة. نعم لا يحق للرئيس أن يتجاوز الحدود المرسومة من قبل الشعب عبر القانون ونحوه، وفائدة ذلك هو إشراك رئيس الدولة مع المجلس النيابي في إدارة القضايا السياسية عن طريق حكومة مسؤولة أمام الاثنين.

 2. موافقة المجلس على تعيين الحكومة؛ وذلك لتدخله في إطار حكومات الرأي العام، وعليه فإن مشروعية الحكومة مشروطة في أن تنال ثقة المجلس عند تشكيلها وأن تستمر هذه الثقة فيما بعد، لكن حيث إن حق الرئيس في الاختيار مقيد بما ينسجم مع الوضع السياسي القائم وتكتل الأحزاب والجماعات التي تكوّن جوهر المجلس فغالباً ما تضمن الحكومة الثقة نتيجة لاختيار الوزراء من الأغلبية داخل المجلس.

 3. على الحكومة أن تتمتع بثقة الشعب، و هذه الثقة تخول اختيار قائد الحزب أو الجماعة المنتصرة رئيساً للحكومة كما تجيزها إلى اللجوء إلى حل المجلس النيابي.

 4. يرتكز هذا النظام على ثلاثة مبادئ هي:

أ. المساواة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ب. التعاون والتنسيق بين السلطتين.

ج. إيجاد سبل وآليات من شأنها السماح لكل سلطة بالتأثير على الأخرى، والذي يضمن هذا التوازن القائم بين السلطات هو رقابة الرأي العام، ومن هنا نشأت تسمية هذا النظام بحكومة الرأي العام.

 5. العنصر العام في إيجاد التعاون بين السلطتين هي الحكومة ؛ وذلك لكونها تشكل طريق التواصل بين رئيس الدولة والمجلس، حيث يتولّى رئيس الدولة تعيين الحكومة، ثم تصبح هي الأخرى مسؤولة عن سياستها أمام المجلس، وفي نفس الوقت يحظى الرئيس بكرامة وميزة تخوّله بحفظ التوازن بين ممثلي الأمة في المجلس؛ ولذلك فإن لطريقة انتخابه أهمية خاصة ؛ لكونه ينتخب من قبل الشعب لا من المجلس، بداهة أنه لو كان للمجلس انتخابه لظهر أكثر طواعية واستجابة لضغوطات أعضاء المجلس والكتل النيابية فيه في ممارسة السلطة، وبهذا يتوازن المجلس والرئيس معاً ؛ إذ الرئيس غير مسؤول سياسياً أمام المجلس، فيحدّ من جموح السلطة التشريعية، لكن الحكومة التي يعينها الرئيس ينبغي أن تحظى بموافقة المجلس فيحد هو الآخر من جموح السلطة التنفيذية، وبذلك تنشأ علاقات توازن تقوم على تعاون وتنسيق وتفاهم بين السلطات في ممارسة السلطة.

وبالتالي: فإن هناك رقابة دائمة ومتواصلة بين السلطتين؛ إذ مسؤولية الوزارة وحل المجلس هما الدعامتان الرئيسيتان لبناء هذا النظام؛ وذلك لأنهما تخولان كلاً من السلطتين التقنينية والتنفيذية ممارسة الرقابة على الأخرى، وإقامة تعاون متبادل من أجل مصلحة الأمة، ففي حال حجب المجلس ثقته عن الحكومة كلاً أو بعضاً على هذه الأخيرة أن تخضع لإرادته، وتقدم استقالاتها كلاً أو بعضاً، لكن بوسعها هي الأخرى أن تطلب إلى رئيس الدولة حل المجلس إذا ما رأت أن الأخير يعارض سياستها، ويعرقل خططها التي تراها أنها في خدمة البلد والأمة.

وهذا التواصل في القدرة هو الذي يعطي الحكم طابعه الحر، ويظهر أهمية دور الشعب في أن يقول كلمته الأخيرة في حسم النزاع القائم بين السلطتين، فترجع حينئذٍ شؤون السلطة والحكم إليه من حيث تكوين الحكومة أولاً، وتنتهي إليه آخراً.

ملامح النظام الرئاسي

وأما النظام الرئاسي فمن سماته الفارقة عن النظام السابق أن مبدأ الفصل فيه جامد ؛ إذ تنفرد كل سلطة فيه بممارسة وظائفها بالاستقلال عن السلطات الأخرى، بخلاف النهج الأول، فإن الفصل قائم على أساس التعاون والتنسيق بينها، والفكرة الجوهرية فيه لا تنحصر بفصل السلطات فقط، وإنما عزلها عن بعضها البعض مع تحقيق المساواة والتوازن بينها، وفكرة العزل هذه ترجع إلى السعي لإزالة كل وسائل الضغط التي قد تلجأ إليها بعض السلطات وتمارسها على غيرها.

نعم، قد يكفل القانون ونحوه بعض الوسائل والآليات ذات الأثر المحدود في إيجاد علاقات متبادلة بين السلطات بما لا يخلّ بمبدأي المساواة والتوازن، ومن أهم المبادئ التي يقوم عليها هذا النظام ما يأتي:

 1. أن انتخاب الرئيس يكون من قبل الشعب، والسلطة التنفيذية تنحصر به، فالرئيس المنتخب يجمع بين صفتي رئيس الدولة ورئيس الحكومة، والوزراء يخضعون خضوعاً تاماً للرئيس الذي هو الآخر له الحق المطلق باختيارهم أو عزلهم.

 2. تخصيص وظائف الدولة وتوزيعها على السلطات وعزل السلطات عن بعضها عزلاً تاماً، بحيث تتصرف كل واحدة منها في النطاق المخصص لها مع كامل الصلاحية والقدرة، فالسلطة التشريعية تنحصر بالمجلس والتنفيذية بالرئيس.

 3. انعدام سبل التعاون المتبادل بين السلطات في الغالب لمنع عناصر الضغط التي قد يلجأ إليها أحد الأعضاء للتأثير على الأخرى، ومن هنا فإن المجلس لا يمكنه حل الحكومة، كما أن الحكومة لا تقدر على حل المجلس.

4. تقوم المساواة بين السلطات عبر طرق عدة:

 أحدها: النقض الرئاسي ضد القوانين التي يصوّت عليها المجلس.

 ثانيها: إمكان المجلس أن يكسر هذا الحق ـ فيما لو استعمله الرئيس ـ إذا صوّت عليه مجدداً بالأكثرية المطلقة أو النسبية.

 ثالثها: بإمكان الرئيس أن يقيم توازناً مع المجلس عن طريق الوزراء الذين يعينهم، ولا يحق للمجلس عزلهم، كما أن بإمكان المجلس أن يهدد الرئيس باتهامه، أو يطلبه للاستجواب، كما يحق له محاكمته أيضاً.

ملامح النظام المجلسي

وأما النظام المجلسي فيتميز عن سابقيه بأنه يدمج السلطتين التقنينية والتنفيذية في هيئة واحدة تتمثل في المجلس، ودمج السلطات في المجلس لا يعني غياب السلطة التنفيذية بالكامل، وإنما هذه الأخيرة تكون تابعة للمجلس أو منبثقة عنه، وتعمل بحسب رغبات هذا الأخير وتوجيهاته، ومن أهم المبادئ التي تميز هذا النظام ما يلي:

 1. أن هذا النظام يحدد من صلاحيات السلطة التنفيذية إلى حد كبير بالقياس إلى سابقيه؛ لأنه يجعل منها مجموعة من الوزراء اختارهم المجلس بقصد تنفيذ قراراتها، فسلطتهم لا تتمتع بسلطة إصدار الأوامر والقرارات وإنما التطبيق والتنفيذ فقط.

 2. الوزراء متساوون في الحقوق والواجبات أمام المجلس لكنهم لا يشكلون وحدة متضامنة يمكنها أن تقدم استقالتها جماعة حين رغبتها بذلك، فإن هذا الحق محظور عليهم.

نعم بإمكانهم التهديد بالاستقالة، وبواسطته يضغطون على الجمعية، ويحدون من سلطاتها غير المحدودة، وبخلاف ذلك فإن بوسع المجلس أن يعزلهم متى شاء؛ ولذا فإنه ليس بوسعهم إلاّ إيجاد صيغ للتوافق مع المجلس وتوجيهاته، ومن هنا قلنا: إنه يحدد من صلاحيات السلطة التنفيذية إلى حد كبير.

 3. قوة المجلس ناشئة من قوة الشعب الذي يخضع له؛ إذ منه يستمد قوّته، وهو بدوره يقوم بمراقبته بصورة دائمة عبر حق الاقتراع التشريعي الشعبي، ومنه يأخذ النظام سمته الشعبية الحرة لكون الشعب هو سيد الحكومة والمجلس على السواء.

 4. أن هذا النظام مهدد بالجنوح نحو الاستبداد عادة، وذلك لإمكان اتخاذ مبادئ الحرية وطرق الضغط والرقابة بين المجلس والحكومة وسيلة للاستبداد، وفرض إرادة إحدى القوتين أو جماعة من إحدى القوتين على الأخرى بشكل خفي أو غامض على الناس، فيشكل بالتالي استبداد الأمر الواقع ؛ إذ قد تجمع السلطة بين عدد ضئيل من أعضاء المجلس من الأقوياء أو أصحاب النفوذ نيابة عنه بسبب انقسامه أو وقوعه في مهاوي الفوضى، أو النقاشات غير المنضبطة وانقسام الآراء حول القرارات، الأمر الذي يؤدي إلى شلل عمل الحكومة والدولة، فيبرز الاستبداد بقوة ليضع حداً لهذا النزاع، ويملأ الفراغات التي يتخبط بها المجلس، وتاهت بها الأمة، وهذا ما وقع بالفعل في بعض دول العالم الغربي على ما ذكرته بعض المصادر.

هذه أهم أشكال الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم اليوم، القائمة على مبدأ فصل السلطات، وعلى الرغم مما عرفت من وجود بعض التمايز بينها من حيث سعة الحرية وضيقها وقوة مباشرة الشعب لممارسة سيادته من ضعفها من نظام لآخر إلا أن الجميع يهدف إلى أمر واحد هو إيجاد توازن بين السلطات الثلاث للمنع من الاستبداد واحتكار السلطة الذي هو من الملاكات الهامة التي يستقلّ بحسنها العقل، ويحكم العقلاء بلزوم العمل به وذم من تخلف عنه.

هذا من حيث الموضوع، وأما من حيث الحكم فبغض النظر عن الإشكالات التي تورد على كل واحدة من هذه الصيغ الثلاث للأنظمة فإنك قد عرفت بأنها صيغ استقرائية لا حصرية عقلية، تعرضوا لها من باب انها المصداق الأفضل المتطور من قبل أهل الخبرة لضمان أكبر قدر ممكن من الحرية والتوازن بين القدرات، ويمنع من احتكار السلطة والاستبداد بها، وعليه فهو لا يمنع من ابتكار صيغ أخرى تعطي المزيد من هذه الضمانات، وحيث إن هذا من الموضوعات المستنبطة التي لم يرد فيها نص خاص من الشريعة يعين كيفيته فإنه يجوز أن يتمسك في أي طريقة مبتكرة أو مقترحة تجمع بين الحقوق المتقدمة تمسكاً بأصالة الجواز؛ وذلك لأنه الأصل حيث لا دليل. نعم ينبغي توفر شرطين اثنين في تشخيص مشروعية أي نظام حكم هما: رضا الله تعالى بتوافر الشرائط الشرعية المنصوصة أو المستنبطة، ورضا الناس.

 وعليه فإنه إذا شخّص أهل الخبرة شكلاً لنظام الحكم يجمع بين حق الحرية ووجوب الشورى وضرورة السلطة وتوفّرت فيه الشرائط الشرعية ورضي به الناس جاز الأخذ به من حيث الأصل الأولي لوجود المقتضي وانعدام المانع، وحينئذ فإن كان هو الشكل الوحيد وجب الأخذ به تعييناً، وإن كان من ضمن بدائل متعددة وجب تخييراً، وإن كان هناك أفضل استحب الأخذ به إن كانت البدائل الأخرى تحقق نفس الغرض إن قلنا باستحباب توفير الزائد من الحقوق، وإلا وجب أيضاً، فتأمل.

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: في وجوب قيام السلطات بحفظ الاسلام

مجلس الفقهاء والسلطات الثلاث كسائر المكلفين مأمورون بحفظ الإسلام والمسلمين وإقامة الدولة الإسلامية الخالية من النواقص والتطبيقات الخارجة عن موازين الشريعة؛ وذلك لإطلاق قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»[2] فإن اختصاص جماعة بشيء لا ينافي وجوب شيء آخر عليها.

وعليه فليس لأية سلطة من السلطات الثلاث أن تهتم بما يتعلق باختصاصها من التأطير أو القضاء أو التنفيذ أو الإفتاء وتتعلل بهذا الاختصاص لتتخلى عن مسؤوليتها الشرعية في الشؤون الأخرى، فإن إطلاقات الأدلة وتضافرها في أكثر من مجال يدل على وجوب تحمّل الجميع مسؤولية حفظ الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية العادلة، منها أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها أدلة إرشاد الجاهل وهداية الضال وتنبيه الغافل، ومنها أدلة الدعاء إلى الإسلام والدعوة إلى الخير، ومنها سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وغيرهما من قادة الإسلام، فإنها طراً تفيد مسؤولية الجميع عن السلطة والحكم، وتخصيص الوظائف لا يوجب تخصيص المسؤولية الشرعية. نعم يمكن لكل سلطة أن تصحح الفاسد، وتنهى عن المنكر الواقع في شؤون السلطة الأخرى، إما بالمباشرة باستخدام مبدأ الفصل الذي يعطي صلاحية الحكم والردع معاً كما قدمنا، أو بالواسطة عبر الوسائل والآليات الأخرى.

المسألة الثانية: في مسؤولية الحاكم

الحاكم الإسلامي سواء إنحصر في فقيه واحد وجوداً أو تقليداً وهي حالة قد تكون نادرة حدثت في زمان شيخ الطائفة والمحقق والعلامة والشيخ المرتضى والسيد المجدد ونحوهم قدست أسرارهم في برهة من الوقت، أو كانت الرئاسة للشورى من الفقهاء وهو الذي يقتضيه الدليل في صورة تعدد الفقهاء وتوزيع التقليد بينهم، وهو الغالب وقوعاً، فإنه هو المسؤول الأول عن كل ما يجري في البلاد الإسلامية لكونه مقتضى الاستخلاف المستفاد من مثل قوله تبارك وتعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض}[3] بعد فهم الاطلاق او عدم فهم الخصوصية او تسليم ان خصوص المورد لايخصص الوارد وعمومية الخلافة في الأرض تقتضي المسؤولية، كما أنه مقتضى الولاية العامة، مضافاً إلى بعض الأدلة الخاصة التي تضع السلطان في موضع المسؤولية العامة حتى عن مثل البقاع والبهائم[4]، لكن حيث إنه لا يمكن للفقيه أو المجلس القيام بمهام الإدارة على الوجه الشرعي التام منفردين كان لابد لهما من الأعوان وتوزيع المهام والسلطات.

 وعليه فإنه إذا رأى الفقيه الجامع للشرائط أن توزيع السلطات هو الأسلوب الأمثل لحفظ النظام وحفظ حقوق الناس أو أرادت الأمة توزيع الحكم بين السلطات الثلاث واشترطت ذلك على الفقيه إنشاءً أو ارتكازاً وجب العمل بمقتضاه لإطلاق دليل: «المؤمنون عند شروطهم»[5] ولأدلة وجوب حفظ النظام وتطبيق العدل وحفظ حقوق الناس وما أشبه ذلك في الفرض الأول، وربما يستأنس له بمثل اشتراط شيء على إمام الجماعة كشرط لحضور جماعته حتى إذا كان الحضور واجباً كما في فرض وجوب صلاة الجمعة على بعض الأقوال[6]، ونحوها من الصور[7] فيما إذا كان من يقيمها بشرائطها متعددا، وكذلك بمثل الرجوع إلى القاضي إذا كان متعدداً [8]، والفقيه في شؤون التقليد لو تعدد[9]، كل ذلك لإطلاق الدليل المتقدم بعد عدم المحذور.

 وعليه فلو قيل لفقيه جامع للشرائط مع وجود غيره: إنا نقلدك أو ننتخبك رئيساً بشرط أن توزع القدرة على السلطات الثلاث وجب عليه الالتزام بحسب الشرط. نعم فيما لو كان الأمر منحصراً في فقيه واحد فالظاهر عدم صحة الشرط؛ لأنه يستلزم تحليل الحرام وتحريم الحلال، وقد ثبت في محله من أن من أمارات صحة الشرط هو عدم تحليله للحرام وتحريمه للحلال[10]. وإنما قلنا: انه يستلزم هذا المحذور لأنه في صورة انحصار الفقيه في واحد في الأمة مع عدم وجود غيره فإنه يجب على الأمة اتباعه تعييناً؛ لأنه المنصوب من قبل الإمام المعصوم(عليه السلام) بمقتضى أدلة النيابة العامة.

كما أنه إذا لم تشترط الأمة ذلك لم يجب عليها التنفيذ، ولو تخلف عن الشرط امكن القول بجواز تخلفها ايضا، وإن كان ربما يقال بالوجوب مطلقاً حتى في صورة عدم الالتزام بالشرط بالعنوان الثانوي؛ وذلك لكونه الأسلوب الأفضل لحفظ الحقوق وتوفير الأمن والسلامة؛ إذ من الواضح وجوب عمل الحاكم الإسلامي بالصيغة الصالحة للأمة، ويحرم عليه مخالفته لاستلزامه بطلان الحقوق أو تضييعها أو تضييع من يعولهم، وفي الأدلة المتضافرة: «ملعون ملعون من ضيّع من يعول»[11] واللعن ظاهر في الحرمة، كما أن المنصرف من المسؤولية في مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»[12] هو السؤال في موقع المحاسبة المستظهر منها في صورة التخلف عن الوجوب. ومن الواضح ان التخلف عن الشرط لايسقط وجوب الالتزام من الامة لحفظ حقوقها، فتأمل.

المسألة الثالثة: في مرونة صيغة الحكم

 لو فرض وجود صيغتين صالحتين للحكم إحداهما تقوم على توزيعه على السلطات الثلاث والأخرى تقوم على غير ذلك كان للحاكم في صورة عدم الاشتراط اختيار ايتها شاء، كما أنه لو فرض وجود صيغة واحدة أكثر صلاحاً من التوزيع الثلاثي المعروف وجب على الحاكم اتباعها، وعلى هذا فلا يقال: لم يكن في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)توزيع للحكم على السلطات الثلاث، وعليه فلا شرعية له، فإنه يقال فيه نقضاً وحلاً.

 أما النقض فما تواتر نقله في التاريخ والأخبار من أن الرسول الأعظم وأمير المؤمنينعليهما السلام كانا يعينان أفراداً للقضاء[13]، ورؤساء للجيوش[14]، وعمالا للصدقات[15]، وأمراء للعشائر والقبائل، وأمراء للبلاد[16]، وربما جعلوا في البلد الواحد والياً وقاضياً ومحتسباً[17]، فما ذكر من عدم وجوده محل تأمل.

وأما حلاً فان مقتضى التأسي به (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يفهمه العرف هو التأسي في الكليات، لا في تعيين المصاديق؛ لخضوع المصداق الى شروطه وظروفه الخاصة، الاّ ما خرج بالدليل، وهذا ما تشهد له السيرة، فقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جملة من شؤونه الكثير من التطبيقات بحسب الظروف والمتطلبات التي تفرضها طبيعة الحياة والمجتمع، ويجب أن تكون في كل ظرف بحسبه، وعليه فإن بعض تطبيقاته كانت متغيرة لا ثابتة، وهذا هو مقتضى طبيعة الحكم والسلطة، وهو مقتضى السيرة العقلائية التي طابقتها سيرة الشارع.

 ومعنى كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة ليس الموافقة الحرفية في كل التفاصيل، فإنه خلاف ما يتلقاه العرف، ويتبادر إلى ذهنه من الاسوة، وإلا لزم التالي الفاسد في أكثر من جهة، بل اخذ الاصول وايكال التطبيق الى اهل الخبرة؛ لخضوع كل قضية الى الملابسات خاصة، فمثلاً: أمّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسامة بن زيد  لأنه في برهة او واقعة رآه صالحاً للإمارة، فإذا مضى على عمر أسامة مائة سنة بعد ذلك وحدثت حرب فهل نؤمر نحن أسامة غير الصالح الآن بسبب شيخوخته أو مرضه أو ما أشبه بحجة الاقتداء بسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو نؤمر من كان بمنزلة أسامة في صلاحيته؟ فإن الأسوة عقلا وعرفا تقتضي الثاني، فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنه لخليق بالإمارة»[18] يتلقى عرفاً أنه كذلك بشرط الموضوع، وعليه فإذا انتفى الموضوع انتفت الجدارة منه شخصاً، لكن حيث بقي الملاك في لزوم جعل الجدير فيمكننا أن نختار نحن الجدير بها.

وبعبارة اخرى العرف يرى ان الملاك في التأسي والاتساء في مثل ذلك هو توافر الخصوصيات والمزايا، فيفهم عدم صحة التوقف على الشخص والجمود على اسمه او رسمه، بل يعمم ذلك لكل من توفرت فيه المزايا. هذا بلحاظ طول الزمان، وأما بلحاظ عرضه فكذلك لا يجب تأمير أسامة خاصة إذا بقي على الصلاح مع فرض وجود صالح آخر في عرضه، أو كان غيره أصلح منه، فإنه في الأول يختار الحاكم أيهما شاء لوجود الملاك فيهما بعد فهم عدم الخصوصية في الشخص، وفي الثاني يختار الثاني بفرض أنه اصلح.

هذا وقد نظّر له بعض الفقهاء بمثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):«الخيل معقود بنواصيها الخير»[19] وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):«الجنة تحت ظلال السيوف»[20] فإنه إذا تبدلت الخيل والسيوف إلى الدبابة والبندقية كان مقتضى التأسي به (صلى الله عليه وآله وسلم) هو اتخاذهما لا اتخاذ الخيل والسيف.

والحاصل: إن المعيار هنا هو الصلاحية الجهوية لا الشخصية؛ ولذا لم يستشكل الفقهاء في تأسيس المدارس وطبع الكتب، وإنشاء المكتبات، وإصدار الجرائد والصحف، ونصب الإذاعات المرئية والصوتية، والسفر إلى الحج بالوسائل الحديثة، وجعل أنظمة للشرطة والمرور، وبناء المستشفيات والمطارات إلى غير ذلك، بل يجدون كل هذه الأمور من صغريات الكليات الإسلامية المنطبقة عليها بحسب الزمان والظروف والأحوال وإن لم تكن موجودة في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن وضع الكليات وتشريعها موكول إلى الشارع، وأما تطبيقها وتعيين مصاديقها موكول إلى العرف، واختيار صيغة الحكم وشكل نظامه كذلك مادام لم يلزم منه محذور عقلي او شرعي.

المسألة الرابعة: في لزوم الأخذ برأي الأمة

إن حق الحاكمية في الدولة يعطيها صلاحيات كثيرة تتوزع على سلطاتها الثلاث على حسب مبدأ الفصل لو قررت الأمة هذا المبدأ، لكن ينبغي أن يكون ذلك بحسب رأي الأكثرية في المجلس إذا كانت الانتخابات غير مباشرة، أو أكثرية الأمة إذا كانت مباشرة.

وعليه فللدولة بهذا الحق صلاحيات واسعة تبيح لها وضع الضوابط والأنظمة والقوانين التطبيقية والتأطيرية التي تراها في مصلحة النظام والبلاد، كتنظيم المحاكم، وتنفيذ الأحكام، وفرض الضرائب وجبايتها، والمنع عن جباية المال للأفراد والجماعات إلا بإذنها، وإلزام الناس بالخدمة العسكرية او بوضع قوانين لها، أو تنظيمات خاصة، وكذلك أعمال الشرطة وشؤونها، والمحافظة على الأمن بمختلف المسائل والوسائل، والاخذ بقانون العقوبات وتنفيذها بحق المجرمين، واتخاذ التدابير الدفاعية ونحوها، خصوصاً في ظروف الحرب والفوضى والاضطراب، وإصدار قرار منع التجول، وجعل القوانين المراعية لحق الملكية الفردية والجماعية، وكذا الاستيلاء على أرض الغير في حالات الاضطرار، كالشؤون العسكرية في حالات الحرب والحصار مع تعويض أصحابها ببدل الإيجار أو بدل الملك تعويضاً عادلاً، ومصادرة ما تصح مصادرته كأدوات الجريمة مثل ما يستعمل في الاعتداء، أو يهدد أمن وسلامة المجتمع، وتشريع قوانين السجون وتنفيذها بحق بعض المجرمين، وإدارة الأشياء التي لا مالك لها، أو القصّر الذين لا ولي لهم، وإعطاء العقود الصيغة الرسمية، وترسيم المعاملات، والوقوف دون نقل بعض الثروات كالآثار العتيقة والحيوانات النادرة والكتب المخطوطة إلى غير ذلك مما ينبثق عن سيادة الدولة من مجموعة التصرفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمكافحة المشكلات، ولتوجيه الحياة وتنميتها.

وكذلك تقوم الدولة ببذل الجهود للسلام العالمي والمحلي إذا قامت الحرب بين دولتين، أو نشبت حرب أهلية في دولة واحدة، وبالعمل لإزالة التفرقة العنصرية واللونية واللغوية والعرقية وما أشبه، وكذلك لأجل تحسين الجوار بين الدول، ولأجل المصالحة الوطنية بين الدول وشعوبها، ولأجل تخفيف المرض والجهل والجريمة التي ربما تعانيها بعض الامم وهكذا.

ولا يخفى أن الدولة الإسلامية تعمل لكل هذه الأمور لكن بشروط عدة:

الأول: ملاحظة قانون «الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم»[21] فكل ما ينافي هذا القانون يكون من باب الضرورة، وهي تقدر بقدرها، وبذلك يظهر أن الاستثناءات لها صفة التوقيت لا الدوام.

الثاني: لزوم كون القوانين تشريعاً وتنفيذاً في الإطار الإسلامي الذي استقي من الأدلة الأربعة.

الثالث: لزوم كون التنفيذ مشتملاً على شرطين:

أحدهما: ولاية الفقيه، بمعنى أن الرئيس الأعلى للدولة هو الفقيه الجامع للشرائط، او من ينوب عنه لكونه وحده الذي له الحق في إدارة البلاد وتوجيه العباد، فلا يجوز لغير الفقيه ادارة البلاد بالعنوان الاولي حتى وإن طابق الشروط السياسية؛ لما عرفت من موضوعية الولاية في الحكم، وذلك لمثل قوله (عليه السلام):

«فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»[22] فكل ما يخالف ذلك ينتهي إلى الاجتهاد في مقابل النص.

ثانيهما: كون الفقيه الصالح منتخباً من قبل أكثرية الأمة، وعليه فإنه إذا كان هناك فقيهان جامعان للشرائط انتخبت الأمة أحدهما، فإنه لا يحق للآخر تولي الشؤون كما هو مقتضى دليل الشورى والمنساق من مثل قوله(عليه السلام):«انظروا إلى رجل منكم..»[23] إلى غير ذلك من الأدلة، وبذلك يظهر أنه لا ولاية للفقيه خارج الإطار الإسلامي، فإن الفقيه هو الذي يراعي أحكام الإسلام في إقامة الدولة والنظام، لا الذي يعمل خارج نطاق الإسلام، كما تبين أيضاً أن لا سلطة للفقيه خارج انتخاب الأمة بالنسبة إلى التصرف في شؤون البلاد العامة.

المسألة الخامسة: اشكالات على ولاية الفقيه وفصل السلطات

قد يتوهم البعض أن صيغة ولاية الفقيه حتى في مثل مبدأ فصل السلطات تستلزم محذورين في الحكم والسلطة:

الأول: من جهة أن صيغة نظام الحكم في الدولة الإسلامية ينبغي ان تكون مشتركة بين المسلمين لكونها دولة يقطنها مسلمون ينتمون إلى مذاهب مختلفة، سواء في الكلام او الفقه، بينما ولاية الفقيه نظرية قائمة على ضوء قواعد الفقه الامامي؛ لكونها عبارة عن النيابة العامة عن الإمامة المعصومة التي لا يسلم بها علم الكلام الأشعري والمعتزلي ومذاهب الفقه العامي، وعليه فإن تطبيق هذه النظرية على المؤمنين بها يوجب الاختلاف والفرقة، وتطبيقها على الجميع يوجب إما فرض الإرادة وإكراههم على خلاف ما يعتقدون وهو منافٍ لسلطنة الناس على أنفسهم، أو يوجب اختلال النظام والهرج والمرج.

الثاني: لو سلمنا فهي نظرية عامة لا تختص بشيعة بلد واحد، أو مسلمي بلد واحد، بل تقتضي طاعة وانقياد المسلمين عامة، سواء أكانوا داخل حدود سلطتها أم كانوا خارجها كالذين لا ينتمون إلى أرضها، وهذا يتنافى مع الوضع الدولي القائم كما يتنافى مع اختيار الناس لمرجعيات أخرى من غير المتصدية للدولة أو متصدية لغيرها.

وعليه فهي بالاعتبار الأول تسبب أزمة الحكم، وبالاعتبار الثاني تسبب أزمة الطاعة؛ إذ حتى لو سلّم المسلمون أو الشيعة منهم بشرعية هذه الصيغة فربما لا يسلمون بوجوب الطاعة لها خارج نطاق تطبيقها وخارج حدود شعبها وأرضها، بينما هي بحكم كونها صيغة الولاية النائبة عن المعصوم تستدعي الطاعة المطلقة، كما لو كان الإمام المعصوم (عليه السلام) بنفسه على رأس سلطة الدولة الإسلامية المعاصرة.

هذا وربما يمكن الاجابة عن هذين المحذورين بوجهين:

الاول: الولاية المشروطة باختيار الامة، وهو ما ذكره بعض الأعلام من أن الحكومة الإسلامية على صيغة ولاية الفقيه هي ليست حكومة الامام المعصوم، ولاتثبت لها عمومية ولاية الإمام المعصوم، بل هي حكومة نائب الإمام، فلا يثبت لها إلا القدر المتيقن من السلطة في الأمور المنوب عن الإمام في ممارستها وإعمال الولاية بشأنها، والمعيار في ذلك هو دليل نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم (عليه السلام) في الشأن السياسي السلطوي والتنظيمي.

ويمكن تقرير الجواب المذكور ببيان آخر حاصله: أن سلطة الفقيه لهذا المعنى تنشأ من احد امرين:

اولهما: الاعتبار العقلي، وذلك من جهة وجوب حفظ النظام العام لحياة المجتمع.

ثانيهما: الادلة اللفظية التي يدّعى دلالتها على النيابة العامة عن الإمام المعصوم (عليه السلام)، فإذا كان دليل الشرعية هو وجوب حفظ النظام فمن المعلوم أنه دليل عقلي لبّي لا إطلاق له، ولا يمكن التمسّك به إلا بالمقدار المتيقن منه، وكل مورد يشك في اندراجه فيه يكون خارجا عنه في مقام العمل، والقدر المتيقن من الدليل في مقامنا هذا هو كون الفقيه ولياً في نطاق شعب الدولة الإسلامية وأرضها، ولا تتعدى سلطته هذه الحدود إلى ما وراءها من المسلمين الذين لا ينتمون إلى هذه الدولة، ولم يستوطنوا أرضها.

وأما إذا كان دليل الشرعية هو الدليل اللفظي فالظاهر أن عمدة النصوص التي تذكر عادة في الاستدلال على الولاية العامة للفقيه في عصر الغيبة لا إطلاق فيها من ناحية الولاية السياسية على كل المسلمين، بل الظاهر اختصاصها بمن تصدى لإقامة الدولة الإسلامية ونصب الحكومة الإسلامية فيها بعد رضا الناس به.

ولعل من عمدة ما يذكر في الاستدلال على الولاية العامة للفقيه ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}[24]» قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منا فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله»[25].

ووجه الاستدلال: أن مفاد قوله (عليه السلام):«ينظران إلى من كان منكم» مفاد العلة؛ لقوله:«فإني قد جعلته حاكما» فيكون جعله حاكماً فرع نظرهم واختيارهم، وهذا الجعل إذا يختص بمن نظر واختار دون من لم ينظر فتختص ولاية الفقيه بأهل ذلك البلد الذين نظروا واختاروا، وأما أهل سائر البلدان الإسلامية الذين لم ينظروا ولم يختاروا هذا الفقيه فلا ولاية له عليهم، لأنه لم يجعل حاكماً في حالة عدم النظر، فلو نظر أهل بلد آخر من بلاد المسلمين إلى فقيه آخر واختاروه لكان هو المجعول حاكماً دون الفقيه الذي كانت حاكميته في بلده نتيجة لنظر واختيار أهل بلده.

والخطاب في هذه الرواية ونظيراتها ليس للأمة على نحو إنشاء الحاكمية للفقيه، وإنما هو لمن نظروا واختاروا، وهذا يقتضي أن تقتصر الولاية عليهم ولا تتعداهم إلى غيرهم، وإذا كان في الروايات الأخرى التي يستدلّ بها على ولاية الفقيه إطلاق فيجب تقييده بهذه الرواية في خصوص من نظروا واختاروا، على أن القول بالإطلاق في غيرها فيه مجازفة واضحة، ولا أقل من إجمال الروايات من هذه الجهة على فرض دلالتها على أصل الولاية، فيقتصر فيها على القدر المتيقن وهو خصوص شعب الدولة التي يحكمها الفقيه دون غيرها من شعوب الدولة الإسلامية. هذا ما ربما يمكن ان يقال في تقريب الجواب المتقدم.

لكن ربما يناقش فيه من جهات عدة، منها: القول بأن المشهور بين الفقهاء هو القول بولاية الفقيه من جهة الأدلة اللفظية، والظاهر من مثل المقبولة المتقدمة هو جعلها أولاً من قبل المعصوم (عليه السلام) لمن توفرت فيه شرائط الحاكمية، لكن حيث أن من تتوفر فيه الشرائط عادة متعدد والموضوع لا يستوجب الأكثر أوكل الخيار إلى الناس، وعليه فالاختيار متفرّع عن الولاية وليست الولاية متفرعة عن الاختيار، وذلك لقرينتين:

إحداهما: فاء التفريع.

وثانيتهما: الظهور في علية الإرجاع إليه وحرمة الرد عليه، فإنه لولا ولايته لما أرجع إليه، ولا أقل من الاحتمال الذي يخلّ بالظهور فيما ذكره أو ذكرناه، فحينئذٍ تقصر دلالة الرواية عما ذكره للإجمال، بل قد يقال بأن ما ذكره من التوجيه قد يستلزم المحال من جهة شبهة الدور.

وبيانه أن نقول: إن صحة رجوع الناس إلى الفقيه متفرع عن ولايته وحكومته؛ بداهة أن في غيرها تكون القضية سالبة بانتفاء الموضوع، فإذا قلنا: أن حكومته متفرعة عن اختيار الناس له لزم الدور؛ لتوقف الشيء على ما يتوقف عليه. نعم يمكن رفع هذه الشبهة بالتفريق بين رتبتي الشأنية والفعلية بدعوى ثبوت شأنية الحاكمية لمن توفرت فيه الشرائط، فإذا ارتضاه الناس واختاروه تكون فعلية، والفرق بينهما أن على الأول ليس لأوامره ونواهيه الحكومية تنجيز وإلزام شرعي في الطاعة وإن كانت أحكامه الفقهية في التقليد حجة، بخلافها على الثاني لما عرفت من إمكان التفكيك بين شؤون التقليد وشؤون الحكومة؛ لعدم الملازمة الدائمة بينهما، وبهذا يرتفع الإشكال أيضاً؛ بداهة أن وجوب الطاعة ينحصر بأهل البلد الذين اختاروا فقيههم، ولا يشمل غيرهم. نعم إلا أن يقال بجريان العادة الاجتماعية، بل والسيرة قديماً وحديثاً على أن اختيار الناس للفقيه يتفرّع عن التقليد، ولا يختلف الحال عندهم في هذا الاختيار بين الشؤون الخاصة أو العامة.

وعليه فإن من اختار مقلّده في العبادات يكون قد اختاره ارتكازاً في الشؤون السياسية أيضاً، بل ولعله المتلقى عرفاً كذلك؛ لعدم الفصل بين الدين والدولة في الإسلام، وشؤون التقليد لا تنحصر في بلد أو شعب أو قومية، خصوصاً في المرجعيات العامة واسعة الانتشار.

وعليه فإنه لو تصدى الفقيه الجامع للشرائط في بلد لإقامة الدولة وأقامها بالفعل فإنه يعود الكلام من جديد بالنسبة لأحكامه وقراراته العامة التي تشمل كل مقلديه وإن ارتفع الإشكال بالنسبة إلى القرارات الخاصة والمحصورة.

نعم، إلا أن يقال بأن قراراته في البلدان التي لا تخضع لنفوذه وسلطنته غير منجزة على مقلديه؛ وذلك لجهة عدم القدرة على الامتثال بحسب العناوين الأولية، لجهة عدم وجود موضوعها، كلزوم المشاركة في الانتخابات، أو التصدي لتولي الوظائف الحكومية في الدولة، أو الدفاع بحسب الوجوب الكفائي عن الدولة الإسلامية المتعرضة إلى الحرب وهكذا، أو بحسب العناوين الثانوية في الأمور الأعم، كما لو كانت طاعته تسبب النزاع والاضطراب واختلال النظام وسفك الدماء وهتك الأعراض وهدر الأموال ونحو ذلك من المفاسد العظيمة الخطيرة، فإن قانون الأهم والمهم وأدلة رفع الضرر والحرج حينئذٍ تمنع من منجزية وجوب الطاعة لحكومتها عليها.

الثاني: اعتماد منهجية شورى المذاهب؛ وذلك لإمكان الالتزام بتعميم الأخذ بنظام الشورى ووضع نظام الدولة بما ينسجم مع مختلف مذاهب الشعب، سواء في قمة الحكومة أو في مجالسها جمعاً بين الأدلة والحقوق، فإن ولاية الفقيه حجة على الشيعة الذين يلتزمون بالنيابة العامة للمعصوم (عليه السلام) ؛ فلذا يلزمون بها، كما أن المذاهب الأخرى يلزمون بما يلتزمونه في ذلك، سواء في نظرية أهل الحل والعقد أو البيعة وما أشبه.

ويمكن حينئذ تشريكهم في الحكم في هيئة عامة تضم ما يرتضونه حاكماً وما يرتضيه الشيعة، ويأخذون بأكثرية الآراء في الشؤون العامة للبلاد ضمن ضوابط تحفظ نسبة كل طرف في الامة بالعدل والانصاف، وأما في الشؤون الخاصة فلكل مذهب أو طائفة زعيمهم أو زعمائهم الذين اختاروهم في الوظيفة والقرار بحسب قانون الإلزام، وهذا يجري أيضاً بالنسبة إلى الأقليات وأهل الأديان الأخرى، وبذلك يتوحد المجتمع، وتحفظ الحريات، وتصان الحقوق، ولا يبقى مع ذلك مجال لأزمة حكم أو أزمة طاعة.

نعم، الحاكم الأعلى للبلد ينبغي أن يكون من الأكثرية الشعبية؛ لما هو مقتضى اللابدية العقلية والسيرة العقلائية على ما فصلناه سابقاً. هذا بالنسبة إلى مواطني البلد الواحد، وبذلك يظهر أيضاً الحل بالنسبة لمسلمي البلدان الأخرى بحسب العنوان الأولي والثانوي. هذا بناء على ثبوت ولاية الفقيه.

وأما بناء على عدم ثبوتها فيمكن ان يقال: بان الفقيه يقيم الدولة من باب سيادة الأمة على نفسها إذا اختارته حاكما،ً أو من باب انه الصيغة الأقرب إلى التقوى والطاعة والأحوط للدين التي تقتضي تصدي الفقيه لها بالعنوان الثانوي، فحينئذ لا تؤدي إلى أزمة حكم ولا إلى أزمة طاعة؛ وذلك لأن هذه الصيغة تجيز أن يشرع كل شعب من الأمة اقامة نظامه الخاص به في نطاق وحدة الأمة في صورة انطباق الشرائط الشرعية عليه. نعم لو تعددت البلاد الإسلامية فإن أمكن رفع الحدود الجغرافية بينها وجعلها بلداً واحداً وجب ذلك؛ لأدلة الأمة الواحدة وحرمة التفريق والتقسيم، ولأنه الأصل الأولي في الأرض الإسلامية والأمة المسلمة، وإن لم يمكن ذلك لأسباب وموانع يعسر حلها في الحال الحاضر أمكن إقامة نظام شوري يجمع بلاد المسلمين في نظام يشترك في السياسات العامة، ويختص كل بلد بما يرتبط بشؤونه، فيكون من بعض الوجوه نظير النظام الفدرالي على مايعبر به البعض، وربما ينظّر له بمثل الجمع بين أدلة الشورى والتقليد، فإن أبناء البلد الواحد يرجعون إلى حكم الشورى في الشؤون العامة، ويرجعون إلى مقلديهم في الشؤون الخاصة؛ لكون هذا هو مقتضى الجمع بين الأدلة، وحكومة أدلة الشورى على أدلة التقليد في شؤون المسلمين العامة، واذا لم يمكن ذلك فلا مانع من حكومة الشورى أو الفقيه على الشعب الذي قلده أو انتخبه حاكماً ريثما يمكن تحقيق الاجتماع والوحدة جمعاً بين الأدلة؛ ولأنه «الميسور الذي لا يسقط بالمعسور»[26] ولأنه مقتضى الطاعة بحسب الاستطاعة كما قال سبحانه وتعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم}[27] هذا مضافاً إلى أدلة الأهم والمهم وغيرها من العناوين الأولية والثانوية.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

 ..........................................................

[1] سورة المائدة: الآية 2.

[2] عوالي اللآلي: ج1 ص129 ح3 ؛ البحار: ج72 ص38 ح 36.

[3] سورة ص: الآية 26.

[4] نهج البلاغة: ص242 الخطبة 167 وفيه قوله (عليه السلام): اتقوا الله في عباده وبلاده فانكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم» ؛ البحار: ج65 ص290 ح49.

[5] الاستبصار: ج3 ص232 ح835 ؛ التهذيب: ج7 ص371 ح1503.

[6] انظر العروة الوثقى: ج1 ص550 ؛ الروضة البهية: ج1 ص133.

[7] انظر العروة الوثقى: ج1 ص 545.

[8] انظر الشرايع: القسم الرابع ص318 ؛ الدروس: ج2 ص67 ؛ الفقه كتاب القضاء: ج84 ص62.

[9] انظر العروة الوثقى: ج1 ص9 ؛ الجواهر: ج40 ص43-45 ؛ الفقه كتاب القضاء: ج84 ص62.

[10] الوسائل: ج18 ص17 ح23044 باب 6 من ابواب الخيار.

[11] الكافي: ج4 ص12 ح9 ؛ الوسائل: ج20 ص171 ح25335 باب 88 من ابواب مقدمات النكاح.

[12] عوالي اللآلي: ج1 ص129 ح3 ؛ البحار: ج72 ص38 ح36.

[13] مناقب ال طالب: ج2 ص129-142 ؛ كشف الغمة: ج1ص235.

[14] انظر السيرة النبوية لابن هشام: ج3 ص292 وص302 وص342.

[15] السيرة النبوية لابن هشام: ج3 ص369 وص371.

[16] السيرة النبوية لابن هشام: ج4 ص237 ؛ كشف الغمة: ج1 ص173 -174.

[17] السيرة النبوية لابن هشام: ج4 ص246-247 ؛ عوالي اللآلي: ج2 ص343 ح5 ؛ نهج البلاغة: ص377 الكتاب 20.

[18] البحار: ج28 ص178 ح1 ؛ النص والاجتهاد: ص33.

[19] الوسائل: ج15 ص139ح20163 باب57 من ابواب جهاد العدو.

[20] البحار: ج33 ص457 ؛ مكاتيب الرسول: ج1 ص440.

[21] عوالي اللآلي: ج1 ص222 ح99 ؛ الفقه كتاب القواعد الفقهية: ص135 ؛ وانظر مستمسك العروة الوثقى: ج11 ص89 ؛ حاشية المكاسب للايرواني: ج2 ص367.

[22] كمال الدين وتمام النعمة: ج2 ص484 ح4 ؛ الوسائل: ج27 ص140 ح33424 باب11 من ابواب صفات القاضي.

[23] الكافي: ج7 ص412 ح4 ؛ عوالي اللآلي: ج4 ص67 ح28؛ الوسائل: ج27 ص13-14 ح33083 باب1 من ابواب صفات القاضي؛ عوائد الايام: ص187.

[24] سورة النساء: الآية60.

[25] الكافي: ج1 ص67 ح10 ؛ الوسائل: ج27 ص136-137 ح33416 باب11 من ابواب صفات القاضي.

[26] عوالي اللآلي: ج4 ص58 ح205 ؛ عوائد الايام: ص261.

[27] سورة التغابن: الآية 16.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 25/شباط/2012 - 2/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م