النظام المالي في الإسلام السلطوي

علي حسين كبايسي

إن الإسلام السلطوي في نظامه المالي يتراوح بين النقائص والنقائض، المتولد عنهما موروثا يتنافى مع القرآن الكريم في موارد، ويضرب عرض الحائط الكثير من آياته في موارد أخرى، فعجز علماء الموروث عن بناء منظومة اقتصادية، فكانت لهم شطحات بين الإسلام الاشتراكي إلى الإسلام الرأسمالي مع فاصل وحيد الإسلام تحريم الربا لإضفاء البريق الإسلامي على مبتدعاتهم الاقتصادية، مع غياب حقيقي عن التدبر القرآني مع مرآة ذواتهم، فأخضعوا القرآن لواقعهم المتولد من التراكمات الفاسدة، ليكون أسيرا لتعصبهم البائس وتبرير ما أرتكبه أسلافهم.

في مسند أحمد:

25284- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ فَقَالَ يَا أُمَّهْ قَدْ خِفْتُ أَنْ يُهْلِكَنِي كَثْرَةُ مَالِي أَنَا أَكْثَرُ قُرَيْشٍ مَالًا قَالَتْ يَا بُنَيَّ فَأَنْفِقْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ لَا يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أُفَارِقَهُ فَخَرَجَ فَلَقِيَ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَجَاءَ عُمَرُ فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا بِاللَّهِ مِنْهُمْ أَنَا فَقَالَتْ لَا وَلَنْ أُبْلِيَ أَحَدًا بَعْدَكَ.

 بقراءة بعيدة عن التعصب وبروح عقلائية نفقه من الحديث صحابيان مبشران بالجنة كما يٌدعى، أحدهما أصابه الهلع من كثرة ماله، والآخر يتساءل هل هو من الذين لا يرون الرسول (ص) بعد مفارقته لهم؟؟، فتكون النتيجة: عدم عدالة كل الصحابة كما يٌزعم والانحراف المالي، وما يهمنا موضوعنا مدى الانحراف المالي منذ سقيفة بني ساعدة المتزامن مع الانحراف السياسي، والمنظومة المالية المبتدعة المخالفة للنصوص القرآنية.

ينقل لنا التاريخ أول ثورة على هذا الانحراف المالي ثورة فاطمة عليها السلام عنوانها فدك، إذ لم يٌراعي الخليفة الأول حرمة رسول الله (ص)، (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى: 23])، تموت فاطمة (ع) غاضبة وتدفن ليلا محتسبة أمرها إلى الله، فيسقط الخليفة المزعوم حق قرابة رسول الله (ص) في الخمس (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال: 41]). الزكاة والصدقة محرمة على قرابة الرسول (ص) لأنها أوساخ الناس (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103])، فمن أين يقتات الهاشمي الفقير المعدم؟؟، ومنه نستشف لماذا عطل الخليفة الأول آية الخمس؟؟، وذلك لتتكامل الحرب السياسية والمالية على آل النبي (ص)، ولتتسع درجة الانحراف بجعل الفقه السلطوي آية الخمس مقيدة في غنيمة الحروب، وهل الشريعة السمحاء جاءت لتشعل فتيل الحروب لتٌيتم الأطفال وتسبي النساء، وليس همها سوى الغنيمة ذات الروح الجاهلية: سلب وسبي ومغنم، ألم يكن الجري وراء الغنيمة سبب الهزيمة يوم أحد؟؟، وهل " أَنَّمَا " حصرية على غنيمة الحروب؟؟، وهل الآية تعطل في العصر الحديث لأنه انتهى زمن توزيع الغنيمة من أموال وجواري على المقاتلين؟؟

 إن سياسة غنيمة الحروب ونهب أموال الشعوب المنهزمة خلفت لنا العزة بالإثم حيث يعتز الموروث: خلف عبد الرحمن بن عوف ذهبا قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا، وألف بعير وثلاثة آلاف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً وخلف زيد بن ثابت من الذهب والفضة غير الأموال المكدسة والضياع العامرة ما كان يكسر عند تقسيمه بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار، وترك طلحة بعده مائة بهارا في كل بهار ثلاث قناطر ذهب، والبهار جلد ثور وهذه هي التي قال عثمان فيها: ويلي على ابن الحضرمية ( يعني طلحة ) أعطيته كذا وكذا بهار ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي، وغلته من العراق كل يوم ألف دينار، وكانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف، وكان للزبير بمصر خطط وبالإسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة، وخلف ألف فرس، وألف عبد وأمة، وعن عائشة بنت سعد ابن أبي وقاص: مات أبي رحمه الله في قصره بالعتيق على عشرة أميال من المدينة [وقد بناه بالعقيق]، وترك يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم.

عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أن الله تعالى نظر في أموال الأغنياء ثم نظر في الفقراء، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولولم يكفهم لزادهم، بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدق ويحج.

إن المفاسد التي أعلن الإسلام الحرب عليها هي: تكديس الأموال (1)، الاحتكار، الربا لما ينجر عنها من مهالك، إن جمع الأموال ليس غاية في حد ذاته بل هو وسيلة لتحقيق سعادة المجتمع ورٌقيه، فالمال مال الله تعالى فهو المالك الحقيقي له، وأما ملكية الإنسان اعتبارية، استخلف الله الأغنياء في المال ليكون امتحانا لهم، ومن عناوين الفشل اكتناز المال وحرمان السوق من السيولة فتعطل وظيفة المبادلة كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك، فيصبح كثر الكاثرة في مهاوي البؤس والتشرد، فيتوقف الاستهلاك، فتتوقف حركة الإنتاج، ويختل التوازن بين العرض والطلب.

من حكمة الله ضبط الكون بقوانين الترجيح لضمان التوازن، ففي الغاب الأسد لا يقدم على الصيد إلا إذا جاع فالغابة يحكمها قانون التوازن البيئي لدرء الفساد، والاقتصاد الإسلامي يعمل على تحقيق التوازن بين أفراد المجتمع ليلتحق الفقير بمستوى معيشة الناس، ولا يمكن أن يحدث الثراء الفاحش إلا على حساب الفقر المدقع الذي تعيشه الأكثرية، وهذا ما نعبر عنه بالترجيح الظالم.

ينقل لنا التاريخ ثان ثورة هي ثورة العبد الصالح أبا ذر الغفاري على الفقه السلطوي الذي تزعمه حينها الأمويان معاوية وعثمان حيث حصر الأول الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34]) في الأحبار والرهبان بجعله من الواو عاطفة، فكان مال المسلمين الذي سماه نفاقا مال الله (2) لكي يكون دولة بين بني أمية وأبواقهم، وتحكي الروايات أنه كان لعثمان ابن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار وأعطى فدك لمروان بن الحكم لعين رسول الله (ص)، وزوج ابنته أم أبان، وصدقات قضاعة للحكم بن أبي العاص، وأعطى عبد الله بن أبي سرح الذي أهدر الرسول ( ص ) دمه ولو تعلق بأستار الكعبة جميع ما أفاء الله عليه من غزو أفريقيا بالمغرب؟، ومئة ألف لمروان من بيت المال، وهذا ما دفع يزيد بن أرقم، صاحب بيت المال، بأن يأتي بالمفاتيح، ليقول: لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً، فقال له عثمان: ألق بالمفاتيح، فإننا سنجد غيرك، وأعطى ثلاثمائة ألف درهم (أو مئة ألف) للحارث بن الحكم أخي مروان وزوج عائشة بنت عثمان بن عفان، وأعطى مئة ألف درهم للوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخيه لأمه والذي نزلت فيه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6])، وأعطى عبد الله بن خالد بن أسيد ثلاثمائة ألف درهم (أو أربعمئة الف)، ولكل رجل من قومه، مئة ألف درهم، وأعطى مئتي ألف درهم من بيت المال لأبي سفيان (3)، وأعطى الحارث بن الحكم مهروز - وهي سوق بالمدينة تصدّق بها النبي ( ص ) على المسلمين -، أتاه أبو موسى الأشعري بأموال كثيرة من العراق، فقسمها كلها في بني أمية، وأعطى سعيد بن العاص مئة ألف.

ألا يحق لأبي ذر الصديق(4) أن يعلن ثورته ضد هذه المفاسد المالية المتظللة بالمفاسد السياسية ويكون مآله النفي إلى الربذة ليموت وحيدا فتصدق فيه نبؤة رسول الله (ص)، ولتبرير أعمال بني أمية قال المتفلسفة المعاصرين أن أبا ذر كان اشتراكيا، وهل كان يؤمن بالديالكتيك المادي بعد أن تتلمذ علي يد كارل ماركس؟؟، فإذا كان أحد أعمدة المدرسة المحمدية يزيغ ويظل ولو في الاجتهاد الخطأ، فما بال البقية؟، وتجنوا عليه ظلما بأن قال علماء السلطان أن أبا ذر يفتي أن المال الزائد كله ينفق لتبرير إنحرفات الخليفة الثالث، ولم يتدبروا الآية (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْو كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 219])، العفو اتفق عليه بمعنى: ما زاد عن الحاجة، وفعلا كل ما زاد عن الحاجة هو غنيمة مكاسب وجب تخميسها، ولذا نرى أن أم سلمة رضي الله تعالى عنها تنصح طلحة بالإنفاق وعدم تكديس الأموال ليتجنب المهلكة.

إن من الثورات على النظام المالي الفاسد والحالة الاجتماعية المتدهورة التي شهدها التاريخ الإسلامي فتستدعي وقفة هي ثورة الزنج بغض النظر عن نتائجها، فما يهم مجال بحثنا مسبباتها المتمثلة في الهوة الواسعة بين الطبقة الإقطاعية وطبقة الشعب المحرومة التي من أطيافها الكم الهائل من العبيد الزنوج الذين كانوا يعيشون في ظروف قاسية وسيئة من خلال عملهم في تجفيف المستنقعات وإزالة السباخ عن الأراضي، ثم نقل الملح إلى حيث يعرض ويباع، لقاء وجبة طعام بائسة، فأرادت هذه الفئات التخلص من هذا العمل الشاق ومن ضنك العيش فاستجابت لنداء الثورة، فحق لنا التساؤل هل الإسلام السلطوي سعى إلى تحرير العبيد، وقضى على التناقضات الاجتماعية، وهل هذه السياسة المالية الرشيدة التي يبنى منها الاقتصاد الأمثل؟؟.

 ولا ننسى من الثورات المالية المشهودة ثورة مالك بن نويرة الذي امتنع عن إعطاء الزكاة للخليفة الثاني ووزعها على فقراء قومه بعنوان عدم شرعية الخليفة الأول، فما كان من الأخير، أن أرسل إليه خالد بن الوليد ليجعل من رأسه ثيفا ويدخل على زوجته ليلة قتله؟؟ أبهؤلاء نقتدي فنهتدي؟؟

.....................................

(1) قال الرسول (ص): الدنانير الصفر والدراهم البيض مهلكاكم كما أهلكا من كان قبلكم.

(2) قال معاوية يوما وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه الناس: الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهولي، وما تركت منه كان جائزا لي، فقال صعصعة: تمنيك نفسك ما لا يكون جهلا معاوي ! لا تأثم.

(3) قال أبو سفيان لما ولي عثمان: يا بني عبـد مناف! تلقّفوها تلقّف الكرة، فما هناك جَنّـة ولا نار، ولما مر بقبر حمزة رضي الله عنه، ضربه برجله وقال: يا أبا عُمارة، إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسـيف أمسى في يد غِلماننا اليوم يتلعّبون به.

(4) في مسند أحمد:

 6232 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ وَلَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 1/كانون الثاني/2012 - 7/صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م