إرغام الواقف ضد إثبات التشيع من طرق المخالف

ياسر الحراق الحسني

من المسائل التي يحتج بها أهل التشيع على باقي المذاهب قدرتهم ليس فقط على الإحتجاج بمصادرهم النقلية واستدلالاتهم العقلية، وانما قدرتهم على إثبات شرعية مذهبهم من مصادر وطرق المذاهب الأخرى.

ومسألة قيمية كهذه بما لها من آثار جاذبة نحو إسلام التشيع لأهل البيت، تدق ناقوس الخطر عند حراس المذاهب الأخرى الذين يسعون كما هو طبيعي لإنقاذ مذاهبهم من خطر التلاشي أمام تحديات التشيع. ومع فشل الوسائل التحريضية والتلفيقية القديمة ضد التشيع والتي إنهارت في عالم وفرة المعلومة وسرعة تنقلها، بدأت تظهر محاولات لمواجهة التشيع بالطرق الفكرية.

وهذا محل تنويه وتشجيع ويؤشر لتراجع تيارات التطرف وبداية عصر إعتماد الكلمة عوض السلاح. فمن بين المحاولات في هذا الباب ورقة " مقاربة نقدية لأطروحة شيعية" * للأستاذ رشيد سودو المنتمي إلى حركة التوحيد والإصلاح السلفية الناعمة في المغرب.

ورقة كان يأمل من خلالها إبطال فكرة حجية إثبات التشيع من خلال طرق المخالفين له تحت دعاوي رتبها كما يلي:

 1. كونها إثبات للمسلك السني في التوثيق الحديثي بشقيه النتاجي والرجالي

 2. إثبات لتعصب المذهب الشيعي الذي -بحسبه- لا يروي من طرقه الخاصة إلا ما يخدم مصلحته، وفيه تواطؤ وإتفاق إصطناعي. وكأن "لسان حال الأستاذ سودو يقول:" إن مذهباً يدان بما في عقر داره من دلائل أحق أن يتبع "!. فما مدى صحة ما ذهب إليه ياترى؟

اشكال الشق المفاهيمي

"إن مذهباً يثبت نفسه من كتب مخالفيه أحق أن يُتبع، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه"

لقد تميز الأستاذ سودو في مناقشته لهذه الفكرة بإرتباك شديد وتعارض منقطع النظير لا يدري هل يضعها في خانة الزعم أم في خانة الأطروحة أم في خانة القاعدة العلمية. ففي مقدمة ورقته يقول أنها: "من الأقوال التي يروج لها علماء الشيعة الإثني عشرية الجعفرية، ويسوقونها كقاعدة علمية في معرض الرد على أهل السنة إظهارا لبطلان المذهب السني". فتجده لا يعتبر الفكرة إلا زعماً وتقولا يروجه أصحابه ويسوقونه كقاعدة علمية. وهنا أتسائل عن المصدر الذي وجد فيه استاذنا هذه الفكرة وهي تدرس على أساس أنها قاعدة علمية! ثم هب افترضنا ثبوت ذلك تنزلاً

وكان استاذنا لا يعتبره "قاعدة علمية"، فما وجه الحكمة في قيامه بالإرتفاع بهذا الزعم إلى مستوى الأطروحة ثم يخصص لها ورقة رد كاملة وإن كانت ضرباً من القزامة؟ ثم متى كان القول بفكرة معينة أطروحةً إذا علمنا أن الأطروحة تشمل البحث من المنطلقات وحتى الإستنتاجات. فهذا تسجيل إذن لخلل فتاك من ناحية توظيف المفاهيم وتصنيف مرتكزات البحث لن يحول دون التحقيق في الأفكار الواردة في ورقة الأستاذ سودو، خاصةً أنه ما من فكرة تمر بها على خطى الملاحظة إلا وجدتها تلعن أختها في غياب النسق المفروض.

إشكال الشق التوثيقي

يرى الأستاذ سودو أن قدرة الشيعة للإحتجاج على السنة من كتبهم هي دليل على نزاهة وأحقية المدرسة الحديثية السنية. فهي كما قال تعرضت لمختلف الأخبار، في حين أن المدرسة الحديثية الشيعية لم تكن تدون إلا ما يناصرها وهذا ما يجعلها مصانعة ومتواطئة ما يرفع عنها النزاهة ويعري فيها التعصب. إن قول الأستاذ بخلو المدرسة الحديثية الشيعية من روايات المخالفين يدل على عدم معرفته إن لم نقل بعدم اطلاعه على أشهر الكتب الشيعية في هذا المجال. ويؤكد هذا ما رواه الشيخ الكليني عن جماعة من غير الشيعة كحفص بن غياث القاضي الذي تولى القضاء للرشيد، وغياث بن كلوب، ونوح بن دراج، وطلحة بن زيد، وعباد بن يعقوب الرواجني، والنوفلي والسكوني، وعن الزهري ووهب بن وهب ابي البختري الذي جاء في بعض كتب الرجال انه كان من قضاة العباسيين، وعن عبد الله بن محمد بن ابي الدنيا، وغيرهم ممن ورد ذكرهم في أسانيد الكافي. ** فهذا إثبات فيما يخص وجود رواة غير شيعة في أمهات الكتب الحديثية الشيعية نجيب به على زعم إنفراد الشيعة عند الشيعة بالرواية في الشق الرجالي كما هو مقسم في التقديم.

 أما من ناحية النتاج الحديثي بغض النظر عن الراوي فتوجد كذلك روايات تخالف المعتقد الشيعي في كتب الشيعة. مثال ذلك تجده في الروايات التي تحدثت عن أن النبي ص هو الذي نزلت فيه سورة عبس وتولى التي تخالف تفسير الشيعة السائد في كونها نزلت في عثمان. وقد طرحها الرازي، معللاً ذلك بأنها أخبار آحاد، وبأنها تخالف القواعد العقلية (راجع كتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي). إذن مع ثبوت وجود غير الشيعة ضمن الرواة وثبوت وجود أخبار تعارض السائد المعتمد ضمن الروايات فإن منطلقات الأستاذ سودو لا ترقى إلى مستوى الجدية وتعبر عن نقص حاد في المعلومة التي شحت عنده مع وفرة الموارد.

اشكال الشق المضاميني

إنه وبعد عرض اشكال المفاهيم والوثاقة بطريقة تكفي لإبطال ما ذهب اليه الأستاذ سودو، لا نرى بأساً في مناقشة بعض المضامين التي لا أساس لها من الصحة كي يكون التفكيك شاملاً والخطء منعزلاً. وهنا أقف عند النموذجين التاليين:

1. القول بأن أن جمهور علماء المذهب السني يعتبرون من أذكياء العالم:

 إذا كان أبو حنيفة من علماء المذاهب عند السنة يقول:" لولا السنتان لهلك النعمان " قاصداً السنتين اللتين قضاهما في أخذ العلم على يد إمام الشيعة الشامخ جعفر الصادق كما نقل الألوسي، فهذا إنكار مبطن من أحد مؤسسي المذاهب السنية لكونه من أذكياء العالم. فلولا تعليم الإمام الصادق له لما كان له في العلم حظ. ولربما غاب عن أذكياء العالم بحسب استاذنا أنهم بإهمال صحاحهم للرواية عن أستاذ مؤسسي مذاهبهم يثير الإستفهام ويقدح في النزاهة. إذ كيف يدون للتلميذ (أبي حنيفة مثلاً ) ويهمل الأستاذ (جعفر الصادق)؟ الذكي لا يترك النبع الصافي ليشرب من الجداول. المفروض عقلاً الإهتمام بمصادر العلم لا بممراته كما أن حامل العلم ليس كحافظه، والإقتصار على الفرع دون الاهتمام بالأصل لهو عين البلادة فأي الذكاء في كل هذا؟

ولقد كان عمر بن الخطاب يستنجد بعلي في كل المسائل الدينية الصعبة حتى إشتهر عنه قول: " لولا علي، لهلك عمر " كما في تاريخ عمر لإبن الجوزي والطبقات لإبن سعد. فإذا كان تلامذة أئمة الشيعة من أذكياء العالم فماذا نقول عن اساتذتهم الذين لو لم يجدوهم لهلكوا؟ ثم أين الأساتذة من تراث الأذكياء؟

هذا وقد أعرضت تفادياً للإطناب عن ذكر أذكياء السلف على ذمة الأستاذ سودو يعير بعضهم بعضاً بالغباء واتباع الأهواء كما في كتب الجرح والتعديل، وما سطره أهل الرأي والتحليل. ومن أراد الإستزادة فلا يفوتنه كتاب "الإفادة بطرق حديث النظر إلى علي عبادة"، للحافظ عبد العزيز بن الصديق الغماري.

2. القول بتعديل أهل السنة لأعدائهم من رواة غلاة الروافض وبكونهم بعيدين عن التعصب المذهبي والطائفي:

 هذا من مسلمات الأباطيل تكذبه شواهد موثوقة. فإذا أخذنا كمثال حديث يوم الدار الذي جمع فيه الرسول ص أهله وأقاربه على وليمة وعرض عليهم الإسلام وقال أن من سيقبل سيكون وليه ووصيه وخليفته من بعده، فلم يجبه أحد إلا علي؛ فإننا نجد علة تركه هي كون الراوي عبد الغفار بن القاسم أبو مريم الأنصاري رافضي ليس بثقة، كما في لسان الميزان لإبن حجر العسقلاني. ونسي استاذنا أنه من شدة تحسس أذكياء سلفه من الذي يشتم منه رائحة الميول للتشيع لم يسلم حتى الشافعي حيث رمي بالرفض كما رواه البيهقي، فقال الشافعي في ذلك:

قالوا ترفّضت، قلت كلا***ما الرفض ديني ولا اعتقادي

لكن تولّيت غير شك***خير إمام وخير هادي

إن كان حبّ الوصيّ رفضا***فإنّني أرفض العباد

فهذا إمام من أئمة المذاهب السنية يرمى بالرفض في حين يقول لنا استاذنا أن السلف وثق لغلاة الرافضة! فواقع الحال يكذب ما صدر في مقالة "مقاربة نقدية لأطروحة شيعية" من معلومات جملةً وتفصيلاً كما سبق تبيانه، ولا يعتد بمثل هذه المقالات في البناء لفكر سليم يقارع تحديات الفكر المخالف.

في الختام، تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ سودو لم يكتف بأمل إبطال حجية إلزام الشيعة للسنة من مصادرهم - وهذا ما نسفناه نسفاً كما تقدم-، وانما ذهب إلى التكلف مشكوراً في الدعوة لما أسماه مرآة القاعدة الأولى (يعني قاعدة حجية إلزام المخالف بما ورد في مصادره). والقاعدة هي: "من أثبت الروايات التي تخالف أغراضه فقد رواها لأنها تستحق أن تروى. ومن فعل ذلك فقد تحرر من الهوى". وإذا كنا قد اثبتنا إخراج أهل التشيع لما يستحق أن يروى في مصادرهم مما جاء به مخالفوهم فإن أهل التشيع متحررون من الهوى بحسب قاعدته. كما أن إثبات ترك أرباب الحديث عند أهل التسنن لروايات معتبرة فقط لأن الراوي فيه شيء من التشيع أو الترفض كما اثبتناه، بل ورميهم لمن مال وإن قليلاً إلى ذكر مناقب الإمام علي بالرافضية كما حدث مع الشافعي لهو الدليل الأقوى على التعصب والطائفية وما من مراجع لكتب الجرح والتعديل عندهم إلا وأزكمته رائحة التعصب والإنغلاق.

.............................................

*مقاربة نقدية لأطروحة شيعية، رشيد سودو، هسبريس، 2011-12-24.

**. دراسات في الحديث والمحدثين- هاشم معروف الحسيني ص 144

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 29/كانون الأول/2011 - 4/صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م