الليبيون يتطلعون إلى تعويض ما فاتهم

باسم حسين الزيدي

 

شبكة النبأ: تغيرت أحوال الشعب الليبي بعد سقوط صنمهم المعمر لـ(4) عقود من الزمن، حيث الحرية والتخلص من خرافات ألقذافي و"كتابه الأخضر" والأمل بحياة ذات أفق جديد، فيما سعى آخرون لإكمال طريقهم والعودة إلى حياتهم الطبيعية بعد أن ساهموا "بحملهم السلاح" في إنهاء حكم ألقذافي لليبي، في انتظار ما تسفر عنه الوعود التي قطعها المجلس الانتقالي في إكمال العملية السياسية بديمقراطية وحيادية من اجل انتخاب حكومة تمثل الشعب وكتابته دستور جديد للبلاد، في وقت يحاول البعض الأخر تعويض ما فاتهم من حرمان طوال سنين الطاغية، من خلال قراءة الكتب والاطلاع على الثقافات الأخرى والتمتع بالازدهار الثقافي بعيداً عن الضغوط والقيود السابقة.

معارض الكتب

فقد كان إحراق الكتاب الأخضر جزءاً من ثورة الشعب الليبي، فهذا الكتاب يمثل المنهج الفكري للقذافي، أما اليوم وبعد سقوط نظام العقيد، أصبح من الممكن لليبيين أن يطلعوا على الكثير من الكتب التي كان يحظر عليهم حتى رؤيته، ففي معرض طرابلس للكتاب، يتم عرض العديد من الكتب التي كانت محظورة بشكل كامل، ويؤكد عبد المنعم، وهو أحد منظمي المعرض، أن الليبيين يخرجون من حقبة مظلمة، فتصرفات القذافي كانت نابعة من جنون العظمة الذي عرف عنه، بعض الكتب التي كانت محظورة تشمل مواضيع مختلفة كالمثلية الجنسية أو حقوق الإنسان في العالم العربي، ولكن الكتب ذات الصبغة الدينية كانت الأكثر استهدافاً من قبل نظام القذافي، كالكتب التي تتناول الحركات الوهابية والسلفية. بحسب سي ان ان.

وقد شمل الحظر أيضاً منشورات جغرافية، مثل أحد الكتب الذي يحتوي على خرائط تفصيلية لمدينة طرابلس، أما اليوم فقد اختلف المشهد، وأصبح من الممكن أن نجد في ليبيا كتباً تتناول شخصية القذافي بشيء من التهكم والسخرية، وبعد 42 سنة من حكم النظام الدكتاتوري، يقول الناس هنا إنهم متعطشون للثقافة التي حرموا منها طويل، زياد، شاب يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً، ويهتم بكتب التاريخ وخاصة تلك التي تتحدث عن تاريخ  ليبيا، يقول، "لقد حرمنا القذافي من الإطلاع على تاريخ بلدنا، لم يرد لنا أن نعرف شيئاً عن رموزنا الوطنية، أراد أن يبقى في نظر الجميع بمثابة الإله أو ما شابه ذلك"، ويأمل المنظمون أن يشكل معرضهم المتواضع انطلاقة لحقبة جديدة يكون العلم والثقافة فيها متاحين للجميع.

صناع علم الثورة

بدورهما أقدم رجلان يملكان متجرا صغيرا للخياطة في البلدة القديمة بالعاصمة الليبية طرابلس على مجازفة كبيرة أثناء الانتفاضة على حكم معمر القذافي، ففي الايام الاولى لثورة فبراير شباط كان الحائكان أشرف وأحمد يغلقان باب متجرهما في نهاية يوم العمل ثم يعكفان على خياطة الاف النسخ من العلم الليبي الجديد لتوزيعها على المقاتلين في صفوف المعارضة في طرابلس وغيرها من مدن ليبي، وكان الرجلان يشتريان القماش اللازم لصنع الاعلام من كل لون على حدة ومن مكان مختلف في أنحاء المدينة، ولما سئل أشرف عن عدد الاعلام التي خاطها مع شريكه أحمد قال الرجل ان الاعلام التي صنعاها معا لا تحصى. بحسب رويترز.

وقال أشرف "خدمت. ما نقدرش (لا أستطيع) نحسب لك العدد، خدمت وخدمت وخلاص، ما نقدرش نقول لك، خدمت كمية، مجموعة كبيرة، وكنا نخدم فيهم وزي (مثل) ما تقول خشوا (دخلوا) الثوار لطرابلس والحمد لله ربي سخر لنا حالن، بديت (بدأت) اوزع فيهم، عدد ما نعرفش (لا نعلم)"، ولا يزال الطلب كبيرا على العلم الجديد مع استمرار احتفالات الليبيين بالثورة، وجاءت فتاة تعيش في طرابلس الى متجر أشرف وأحمد تطلب شراء غطاء للرأس بألوان العلم الجديد، وقالت الفتاة جومانة "عندنا اجتماع غدا في مقر عملي ونريد أن نقيم حفلا بمناسبة تحرير ليبيا"، واليوم أصبح العلم الليبي الجديد يباع في كل أنحاء طرالبس ويوضع على كل الجدران ويتدلى من شرفات الكثير من المساكن.

فرص عمل

فيما تتصدر فرص العمل وعودة الحياة الى طبيعتها والديمقراطية قائمة أمنيات شبان طرابلس حين تسألهم عنه، لكن بعد صراع استمر شهورا يمثل تحقيق توقعاتهم مهمة تنطوي على تحد للمسؤولين الذين يحاولون ادارة بلادهم الان، ولا يعرف كثيرون شيئا عن رئيس وزرائهم المؤقت عبد الرحيم الكيب الذي كان أكاديميا متخصصا في هندسة الكهرباء قبل تعيينه في أصعب وظيفة بليبيا بعد الاطاحة بزعيمها معمر القذافي، وكرئيس للحكومة المؤقتة عليه أن يؤكد سيطرة المجلس الوطني الانتقالي على البلاد التي تعاني انقسامات وتزخر بالاسلحة وأن ينعش الاقتصاد ويساعد ليبيا على الانتقال الى الديمقراطية، وقال سعد حلمي (30 عاما) وهو من المقاتلين الموالين للمجلس بينما كان يحمل بندقية الية زين مقبضها بشرائط بألوان علم ليبيا الجديد "عدت الى هذا البلد لاحمل هذه الاداة في يدي"، وأضاف حلمي الذي عاش في اسكتلندا لعشر سنوات "الان أريد أن أضعها وأن أستبدلها بقلم او كمبيوتر محمول، أريد البقاء هنا للحصول على عمل". بحسب رويترز.

ويتكرر ذكر فرص العمل في شوارع طرابلس ويقول الكثير من الشبان ان البطالة هي التي دفعتهم الى قتال حكومة القذافي، وامام الكيب ورئيس المجلس الوطني مصطفى عبد الجليل مهام صعبة مثل بناء المؤسسات من الصفر واحياء قطاع النفط ونزع سلاح الميليشيات ومحاولة مداواة جروح الحرب في دولة تعاني انقسامات اقليمية وعقائدية بين أبرز ساسته، علاوة على ذلك يشعر الكثير من الليبيين بالحماس بسبب الطموحات الجديدة التي تداعبهم ويتطلعون الى أن يحققها لهم المجلس الوطني، وقال محمد عاشور (23 عاما) وهو مبرمج كمبيوتر "هل تعلم ماذا كنت قبل الثورة، كنت شخصا عاطلا شاهدت ابناء القذافي البلطجية وهم يتجولون في بلدتي"، ثم أعطاني شخص بندقية وتبدل الامر، نحن كشبان أعطينا الثورة للاكبر سن، كانت هذه هديتن، أهديناهم بلد، والان نريدهم أن يردوا لنا الجميل"، ويحتل التخلص من الاسلحة التي أنهت النظام القديم في ليبيا المركز الثاني على قائمة مهام الكيب ومجلس الوزراء المؤقت الذي وعد بتشكيله في غضون أسبوعين.

وستخدم هذه الحكومة لثمانية اشهر تجري بعدها انتخابات لمجلس تأسيسي يقضي عاما في صياغة دستور جديد قبل اجراء الانتخابات البرلمانية، لكن أغلبية الناس في شوارع طرابلس التي تعود الى طبيعتها يوما بعد يوم ترى أنه يجب بدء العمل بما في ذلك نزع سلاح الميليشيات الان، وجاءت عبارة "حياة طبيعية" في المرتبة الثالثة بعد "فرص العمل" و"نزع الاسلحة" بين اكثر العبارات التي يستخدمها ابناء طرابلس حين يتحدثون عما يتمنونه في المستقبل، وقالت امرأة تدعى نبيلة بالانجليزية "أريدها حياة طبيعية"، واتفقت صديقة معها قائلة "طبيعية" وكررت ثالثة نفس الكلمة، وقالت رابعة "مثل اوروبا"، وهذه الرغبة تغذي شعورا متزايدا بالاستياء من المقاتلين الموالين للمجلس الذين كانوا يحظون بالاحترام الشديد يوما ومازالوا يتجولون في الشوارع، قالت فاطمة قدور في شارع به الكثير من متاجر المصوغات "ضقت ذرعا بالمقاتلين فعلا"، وأضافت "مازالوا يتجولون في الليل ويلقون القبض على من يقولون عنهم انهم موالون للقذافي.

واضافت، سمعت أنهم يسرقون السيارات، المجلس الوطني الانتقالي يعد بأنه سينزع سلاحهم فلماذا لم يفعل هذا بعد"، ويقول محللون سياسيون ومواطنون من طرابلس ان الاجابة هي أن استنهاض البلاد بعد الحرب ليس الشيء الوحيد الذي يتوقعون أن يشغل أعضاء المجلس الوطني في الاشهر العشرين السابقة للانتخابات، وهم يعتقدون أن التنافس على المناصب قد يكون اكثر أهمية بالنسبة لهم، ضحك ايمن عبد القادر -وهو مدرس- حين مرت مجموعة من المقاتلين المدججين بالسلاح من مدينة مصراتة وقال "يحتاجون ميليشياتهم حتى يحصلوا على افضل المناصب الحكومية، الجميع يخشون من التعرض للخطر وفقد قدر من القوة اذا نزع السلاح عنهم"، واستطرد قائلا "لهذا يجب أن نتعايش معهم"، وتدفقت كتائب مسلحة من مصراتة وبنغازي ثاني اكبر مدينة ليبيا وغيرهما على طرابلس في ليلة 23 اغسطس اب وفر منها القذافي، لكن أفرادها يرفضون الرحيل منذ سيطروا على العاصمة وأقاموا نقاط تفتيش مسلحة في أنحاء وسط المدينة وضواحيه، ومن غير المرجح أن يرحلوا الى أن تضمن أبرز المدن والمناطق التي تحالف معها المسلحون مكانا لها في ما يطلق عليه "ليبيا الجديدة".

ويقول ابناء طرابلس ان اختيار الكيب -وهو سليل عائلة من الوطنيين من المدينة القديمة بطرابلس- كرئيس للوزراء ربما يكون أول محاولة لتضييق هوة الخلافات والرد على الاتهامات بأن المجلس الوطني منحاز لبنغازي، وقال المحامي حمزة محمد وهو يحتسي الشاي مع أصدقائه تحت لافتة كتبت عليها عبارة (ليبيا متحدة) "لا أرى أي سبب اخر لاختياره، انه لا شيء بدون (عبد الجليل)، اتساءل هل بوسع رجال المجلس الوطني الانتقالي القيام بالمهمة، من هم بخلاف أنهم معارضون للقذافي"، وتدخل صديقه مصطفى في الحديث ضاحكا وقال انه كان ينبغي أن يقول رجال المجلس الوطني "المملين"، وقال "لكن هذا أمر جيد، العالم عرفنا لسنوات من خلال رجل لم يصفه أحد قط بأنه ممل، كان مثيرا كل يوم، هذه حقيقة".

استئناف الدراسة

في سياق متصل لا تستطيع التلميذة الليبية ان تخفي احساسها بالزهو وهي تردد أغنية لم يكن من المتصور التفوه بكلماتها قبل بضعة أشهر فقط، وتردد التلميذة كلمات الاغنية وسط تصفيق زميلاتها في مدرسة الامير في بنغازي التي تقول "مجنون يامجنون يامعمر، ياما خرب، ياما دمر"، وكانت العطلة في المدرسة أطول من المعتاد لكثير من الاطفال الليبيين هذا العام، وعندما بدأت الحرب ضد القذافي توقفت الدراسة، والان مع انتصار المعارضين وتولي حكومة جديدة السلطة بدأت المدارس تدريجيا استئناف الدراسة، ويمثل الامن والتمويل قلقا لكن المهمة الاكبر هي اصلاح نظام تعليم هيمنت علية طوال عقود تعاليم ونظريات الزعيم غريب الاطوار، ومن الكتب التي كان يتعين قراءتها في المدارس اثناء حكم القذافي "الكتاب الاخضر" الذي يحتوي على تأملات الحاكم المخلوع في السياسة والاقتصاد والحياة اليومية، وكان التلاميذ وهم في طريقهم الى حجرات الدراسة يمرون بصور للرجل الذي اعتادوا ان يلقبونه بالاخ الزعيم المحبوب، ومن اول الاجراءات التي اتخذها المجلس الوطني الانتقالي بعد ان حمل السلاح ضد القذافي تشكيل لجنة لحذف "تعاليمه" من المنهج. بحسب رويترز.

وقالت فوزية بوزريبة وهي مديرة مدرسة منذ 30 عاما "لدينا الكثير من التغييرات هذا العام من بينها أسماء المدارس"، وقالت "منهج المجتمع الجماهيري المأخوذ من الكتاب الاخضر حذف"، وقالت مديرة مدرسة اخرى تدعى خديجة المسماري ان العديد من دروس التاريخ حذفت بالكامل، وفتح المدارس في موعدها كان صعبا حيث لحقت أضرار بالغة ببعضها بينما استخدمت مدارس اخرى كسجون مؤقتة ومستشفيات، وما زال الامن مصدر قلق فقد شردت عائلات وفقد التلاميذ عدة أشهر من الدراسة، وقالت بوزريبة "لم نبدأ عاما جديدا بعد، سنكمل الفصل الثاني من العام الماضي ثم نبدأ عاما جديدا"، وقال مدرسون ان الاباء يخشون عودة العنف ومازالوا يبقون أولادهم في المنزل، وقالت المسماري التي تدير مدرسة تضم 520 تلميذا "أعداد الطلبة تتزايد بانتظام ونتوقع ان يحضر كل الطلبة بمرور الوقت"، وقالت انها طلبت من جنود المجلس الوطني الانتقالي المرور بضع مرات يوميا على المدرسة لطمأنة أولياء الامور، واستأنف المدرسون في بنغازي فتح المدارس رغم انهم لم يحصلوا على رواتبهم عدة شهور.

لكن معظمهم يقولون انهم يتفهمون ان الحكومة الجديدة تكافح من اجل الحصول على الاموال وهي تحاول ادارة البلاد من جديد.وقالت المسماري "هذه ليست قضية كبيرة بالنسبة لنا ونتوقع ان يتم تسويتها قريبا"، وقال مدرسون ان القضية الاكبر ستكون ايجاد دروس تحل محل بعض تعاليم القذافي وان كان معظمها سيحذف وتستبدل بمواد أخرى مثل الرياضيات، وقال عبد الكافي الكوافي رئيس اللجنة العليا لمتابعة العملية التعليمية في بنغازي "كانت مادة هامشية وسياسية لذلك لا حاجة لاستبادلها بمادة اخرى"، غير انه أقر بأن التاريخ سيستغرق بعض العمل حيث ان القذافي عمل على ضمان تصويره على انه بطل ليبيا العظيم، وقال الكوافي "لدينا لجان تعكف على العمل في هذا الشأن الان لكن الوقت يمثل أكبر تحد لنا".

يتجرؤون الامل

من جهتها رسالة واحدة على الجدران من بنغازي حتى طرابلس تقول "لكل ظالم نهاية"، ولكن نهاية الزعيم الليبي معمر القذافي لم تكن متوقعة مثل شخصيته الاستعراضية، فالتغيير المزلزل الذي اجتاح تونس ومصر في بداية العام وصل الان الى شواطئ طرابلس ليقلب المشهد السياسي رأسا على عقب، واحتشد الليبيون من القرى والبلدات ومن جميع القبائل والطبقات من اسلاميين وعلمانيين وراء حركة المعارضة، وجعل انهيار سلطة القذافي بعد 41 عاما من الحكم الوحشي علي سالم الغرياني في حالة من الفرح المصحوب بالدموع، وقال الغرياني "عمري الان 50 عام، وهذه هي المرة الاولى في حياتي التي أشعر فيها بمثل هذه السعادة، كنت اتمنى ألا أموت قبل رؤية هذا اليوم (الاطاحة بالقذافي)"، قمعنا بالرصاص وبقبضة حديدية، عشنا في خوف لم يجرؤ أحد على الاحتجاج أو أن ننطق بكلمة انتقاد لكننا تشجعنا بالثورتين التونسية والمصرية"، كان من الصعب قبل ستة أشهر فقط تخيل أن ينتفض الليبيون الذين عانوا من الاعتقال والتعذيب والنفي على أيدي أجهزة الامن والقوات التابعة للقذافي وأن ينتصروا في نهاية المطاف. بحسب رويترز.

قال خيري عبد السلام (22 عاما) وهو طالب في كلية الحقوق "عشنا في رعب وخوف، اعتدنا أن نخفض الصوت عندما نشاهد قناة الجزيرة أو قنوات المعارضة الليبية"، وأضاف "كانوا يتنصتون على هواتفن، كنت نتحدث برسائل مشفرة اذا أردنا أن نقول شيئا ليس في صالح الحكومة، كان هناك مخبرون زرعوا بيننا في الاحياء"، والمعارضة التي سيطرت على بنغازي ومدن أخرى في فترة مبكرة بعد الانتفاضة التي بدأت في 17 فبراير شباط شقوا أخيرا طريقهم الى طرابلس واقتحموا معقل القذافي دون مقاومة كبيرة ليجبروه على الاختباء، ولكن تعقب القذافي لم ينته بعد والقوات الخاصة التابعة للمعارضة تخوض مهام واشتباكات يومية مع مقاتلين موالين للقذافي لا يزالوا يسيطرون على بعض جيوب المقاومة في مناطق جنوبي طرابلس وفي سرت مسقط رأس القذافي، ولا يزال المعارضون الذين يلوحون بأعلام الحرية ويشهرون البنادق وقواذف الصواريخ مبتهجين يجوبون المدينة مرددين "الله أكبر" وليبيا حرة.

والليبيون الذين اعتادوا على اعلان تأييدهم للقذافي اختفوا أو لاذوا بالصمت، والمشهد الاكثر اثارة للدهشة هو التأييد الشعبي الكبير الذي استقبلت به المعارضة عند دخولها الى طرابلس نظرا للخوف الذي كان مسيطرا على السكان والطبيعة القمعية للحكم، والمشاهد التي أذاعها التلفزيون للمعارضة وهي تحطم تمثال القذافي في مجمع باب العزيزية ودهس صوره بالاقدام والذهاب الى غرفة نومه للاستيلاء على متعلقاته الشخصية لابد وأنها أصابت اللييين بالذهول، ولا يزال السكان في حالة من الرهبة وعدم التصديق، وقالت سعاد عبد السلام (48 عاما) وهي أم لسبعة أبناء "يبدو الامر كما لو كان حلما أو فيلما وليس حقيقي، لا استطيع أن أصدق ما اراه، أذكر نفسي بأن ذلك حقيقيا"، ولم يأسف كثيرون لسقوط القذافي.قال علي عبد السلام "لم يفعل شيئا جيدا لشعبه كي يحبه الناس، واعتاد الناس أن يصبوا عليه اللعنات كلما ظهر على التلفزيون"، وقال أيمن كرودي (23 عاما) ويدرس المحاسبة وهو من المعارضة "أشعر أنني في القمة، نحن سعداء جدا ولكن عندما نقبض عليه سنكون أكثر سعادة عندما يقع في أيدينا".

وقالت نهاد طارق (32 عاما) عاطلة "القذافي حكمنا بالسيف بالحديد والنار، اتمنى أن تتمكن المعارضة من القبض عليه ومحاكمته"، وليبيا التي ترثها المعارضة دولة منتجة للنفط من الممكن أن تكون غنية ولكنها تعاني من الفقر والبطالة ومعدل مواليد مرتفع وغياب الفرص والبنية التحتية المتداعية خارج جيوب الثراء مثل طرابلس، والطريق الصحراوي المؤدي الى طرابلس من بلدة نالوت الحدودية تسلسل منفر من البلدات والقرى الفقيرة فيها مبان لم يكتمل بناؤها بعد لا تعبر بأي حال عن ثروة ليبيا الكامنة، والاهم من ذلك كله أن حكم القذافي دمر الحياة المؤسسية وحال دون ظهور كل المراكز البديلة للسلطة، وكما كان الحال مع الزعيمين العربيين اللذين أطيح بهما قبله فان ثروة ليبيا كانت مركزة في أيدي أقلية صغيرة تربطها به علاقات قرابة أو علاقات قبلية، وقالت أسماء وهي طالبة عمرها 19 عاما "هذا نظام شمولي حرمنا من أبسط الاشياء، انه حظر علينا حتى تعلم اللغات الاجنبية، كان نظاما متخلفا شجع الجهل".

ودفع القمع وغياب الفرص والامل كثيرا من الشباب الى الهجرة بحثا عن حياة أفضل، ولا يشعر كثير من الليبيين بارتياح فقط لان عهد القذافي يشرف على نهايته وانما أيضا لانه أصبح لبلدهم الان فرصة لان يطور سمعة مختلفة عن سمعته التي ارتبطت بالارهاب، والان يشعر كثير من الليبيين بالفخر لان تحالفهم مع حلف شمال الاطلسي الذي ساعد المعارضة على الوصول للسلطة يظهر أنه يمكن للمجتمع الدولي أن يحتضنهم، وتنتشر على الجدران في المدن التي حررتها المعارضة عبارات شكر لحلف الاطلسي الذي أنقذ أرواح الليبيين، وبعد الاحتفالات البهيجة ساد التوتر شوارع طرابلس مع دوي نيران المدافع الرشاشة والاشتباكات بين جيوب قوات القذافي والمعارضة، وقال سعد جبار وهو خبير ومحام ليبي انه يتعين على قيادة المعارضة الان بناء دولة ليبية حديثة ديمقراطية وتستوعب الجميع بتعيين حكومة مؤقتة ووضع مسودة دستور، وللمرحلة الاخيرة من الثورة معنى خاص لدي الليبيين حيث تتزامن مع الاحتفال برمضان وعيد الفطر، وقال كرودي "هذا أحسن رمضان عاصرناه لم نشعر بالعطش والجوع والجميع صائمون"، لكن الليبيين العاديين يعبرون كذلك عن قلقهم من منظر مقاتلي المعارضة الذين يسيطرون على الشوارع، انهم يريدون رحيل القذافي لكنهم يريدون أيضا الامن والاستقرار، وقالت سعاد عبد السلام ربة بيت "المستقبل سيكون أفضل لكن يجب جمع السلاح من أيدي الناس".

ذكرى ثورة القذافي

الى ذلك اختفت الجماهير الحاشدة التي كانت تملا ميدانا رئيسيا في طرابلس كل أول سبتمبر للاحتفال بانقلاب القذافي في عام 1969 وحل محلها هذا العام مشردون وتجار خردة يجمعون فوارغ طلقات الرصاص، والميدان الذي كان يطلق عليه الساحة الخضراء خلال حكم القذافي الوحشي الذي امتد 42 عاما اعيد تسميته وأصبح ميدان الشهداء تكريما للذين قتلوا اثناء الانتفاضة عندما حمل مدنيون السلاح يوم 17 فبراير شباط في مواجة الدبابات والطائرات الحربية للاطاحة بالزعيم الليبي، وقال وليد الجيداني وهو محفظ قرآن ملتح في الميدان "الفاتح من سبتمبر يوم أسود، في كل مرة يأتي هذا اليوم نرتجف، اعتقل أي شخص يعتقد انه يعارضه وحبسهم بعيد، كان خائفا من شعبه"، وفي بعض السنوات كانت الاحتفالات تقام في بلدات ومدن اخرى لكنها كانت تجري في الغالب في العاصمة طرابلس، وشن القذافي حملة صارمة على الاحزاب السياسية المحظورة وهو نمط استخدمه ليسحق بعنف أي تحد محتمل، الاف الاشخاص سجنوا واعدموا. بحسب رويترز.

وهتف الجيداني الله أكبر ودوى تكبيره في أنحاء الميدان وهو عمل كان يمكن ان يؤدي الى اعتقاله قبل ان يدخل مقاتلو المعارضة العاصمة يوم 20 اغسطس اب، ولدى تولي السلطة في عام 1969 بعد الاطاحة بالملك ادريس قدم القذافي نفسه على انه اشتراكي في جانب الفقراء وانه على اتصال بجذوره البدوية، وما تلا ذلك كان سنوات من القمع والكساد الاقتصادي في ظل سياسات اشتراكية فاشلة، حربان مع دول مجاورة وعقوبات دولية فرضت لدعمه الارهاب وهو ما كان يعني حياة قاسية بالنسبة لكثير من المواطنين العاديين في هذا البلد المنتج للنفط عضو منظمة اوبك، كانت ثروة ليبيا في ايدي القذافي والدائرة الضيقة المحيطة به، وقال المدرس محمد علي وهو يتحرك في الميدان بدراجته "الناس وصلوا الى القمر في عام 1969 ونحن أصبح لدينا القذافي"، ووقف رجال اخرون حول ملصقات جدارية تتهكم على القذافي شملت رسوما كاريكاتورية وصورا تم التلاعب فيها تصور القذافي في دورة مياه وأسفل حذاء وفي حفرة فأر.

وقال محمد الغادي (50 عاما) وهو عامل فندق "كنا نشعر بالعار، كل تلك الحروب والارهاب"، لم يكن أحد في ليبيا يجروء على التهكم على القذافي اثناء حكمه الذي فرضه بكتائب الامن والجيش التي يخشى بأسه، وقال وليد العيدودي (35 عاما) الذي وصف الفاتح من سبتمبر بأنه "يوم الزبالة" ان المرء كان "يشعر بالقلق من ان الجدار الذي وضع عليه الملصق سيتكلم"، وما زال القذافي هاربا لكن الزعماء الجدد في ليبيا والمجلس الوطني الانتقالي يقولون انهم يطبقون عليه وعلى عائلته والمجموعة الضيقة المحيطة به، وقال العيدودي "على مدى سنوات عديدة كنت اريد موت القذافي، والان اريده حيا"، وأضاف "أريد ان تحاكمه محكمة على جرائمه"، وفي انحاء الميدان اختفت الملصقات الجدارية حيث امتلات الملصقات بفتحات الرصاص واحترقت ملصقات وتم تمزيقه، وعلم القذافي الاخضر اختفى أيضا وحل محله علم معارضي القذافي بألوانه الاخضر والاحمر والاسود وظهرت ايضا اعلام الدول الاعضاء في حلف شمال الاطلسي التي ساعدت المعارضين بالضربات الجوية والاموال اثناء التقدم الذي استمر ستة أشهر نحو طرابلس، وتذكر عبد الله اياد (28 عاما) عندما كان يجبر على حضور احتفالات ثورة القذافي وهو طالب صغير حيث كان يقتاده مدرسوه، وقال "لم يعد هناك الفاتح من سبتمبر، فقط 17 فبراير".

نزلاء فندق فاخر

من جهة اخرى كانت الجدران الخرسانية التي تحمل اثار القذائف الصاروخية والزجاج المليء باثار الرصاص والسلالم الرخامية الملطخة بالدماء هي كل ما تبقى من الفندق الفاخر المطل على البحر في سرت مسقط رأس الزعيم الليبي المخلوع معمر القذافي، وأقام القذافي هذا الفندق المؤلف من سبعة طوابق والمزود بفيلات شاطئية فاخرة وحمامات سباحة وجاكوزي على البحر المتوسط ليستضيف زعماء العالم ومسؤولي الدولة، غير أن الفندق الذي اكتمل بناؤه مؤخرا لم يستضف أيا من هؤلاء النزلاء المهمين وأصبح اول نزلائه مقاتلي المجلس الوطني الانتقالي الليبي الذين يسعون لانتزاع المدينة الساحلية من الموالين للقذافي، وقال المقاتل صالح الورد وهو يتنقل من غرفة لاخرى برفقة صحفيين "انه فندق جديد جدا ولم يقم اي شخص هنا من قبل، الثوار هم اول من (نزلوا فيه)"، "انظروا الى هذ، انظروا اين يوجد الهاتف، انه في الحمام، يمكنك فقط ان تحلم بالاقامة في هذا المكان"، وكان اخرون يلتقطون مقاطع فيديو مصورة لبعضهم البعض وهم يسبحون في حمام سباحة داخل الفندق ويتذوقون طعم الرفاهية التي كانت تقتصر في السابق على الضيوف الاجانب او النخبة الحاكمة. بحسب رويترز.

وقال مقاتل اخر يدعى اياد "لقد بني من اجل الوفود التي تأتي لمعمر، لا يمكن لعامة الناس الاقامة هنا الا اذا كنت تملك المال، ربما 500 الى 600 دينار في الليلة"، ويستخدم مقاتلو المجلس الوطني الانتقالي الغرف المزودة بشاشات تلفزيون مسطحة وارضيات رخامية وخزائن ثياب مصنوعة من خشب الماهوجني لاطلاق نيران مدافعهم الرشاشة الثقيلة على الموالين للقذافي، ويحتمي المقاتلون وراء الحشايا والطاولات عندما يطلق القناصة النار، ويستخدم حمام جاكوزي فارغ في شرفة لتخزين الذخيرة، واضاف المقاتل صالح الورد عن الفيلات الخاصة الملحقة بالفندق "سمى (القذافي) الفيلات على اسماء ابنائه وافراد عائلته"، وتابع مشيرا الى الاسم الذي ارتبط بنظام حكم القذافي الذي دام 42 عاما "هذه هي الجماهيرية العظمى"، ويشبه فندق سرت العديد من الفنادق من فئة الخمس نجوم في دول عربية اخرى غنية بالنفط لكنه يتناقض مع الفنادق المتواضعة في بنغازي ثاني كبرى المدن الليبية، ويشعر العديد من الليبيين بالسخط على القذافي وعائلته بسبب حياة البذخ التي كانوا يعيشونها ويقولون ان سكان طرابلس وسرت اكثر ثراء من باقي سكان البلاد، كما يقولون انه اولى اهتماما اكبر بالعاصمة طرابلس وسرت مسقط رأسه ومعقل قبيلته القذاذفة لان الرجل الذي كان يلقب يوما بلقب "الاخ القائد" كان يخشى ان تهدد طبيعة بنغازي المتمردة حكمه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 30/تشرين الثاني/2011 - 4/محرم الحرام/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م