مصر... أهرامات الفساد وسياسات الابتزاز

شبكة النبأ: أصبح اليوم من نافل القول إنَّ أحدًا لم يكُن يتوقـّع قدوم الربيع العربي. بينما العكس هو الصحيح، فقد توقّع كثيرون زوال أنظمة الحكم الاستبدادية في العالم العربي وتنبأوا به. إنما لم يكن باستطاعة أحدٍ التنبؤ بالتوقيت. معظم الخبراء والعلماء والمراسلين الذين أقاموا مدة من الوقت في إحدى الدول العربية البوليسية توصّل إلى استنتاجٍ واحدٍ مفاده أنَّ النظام هناك لن يستطيع الاستمرار البقاء. كان هذا ما قاله العرب أيضًا، وقد أعدّوا "تقارير التنمية الإنسانية العربية" الممتازة التي تصدر سنويًا والتي لا بدَّ من الاطلاع عليها.

قنابل موقوتة

حيث يصف المراسل الدولي الهولندي المرموق جوريس لويندي، تجاربه الشخصية في مقالة المنشور في موقع قنطرة، تنفجر القنابل الموقوتة في وقت ما، إلا أن تكتكة السّاعة لا يمكن سماعها في دولة بوليسية. لذا لا يعرف أحدٌ الفترة الزمنية المتبقية حتى حدوث الانفجار. لا الأجانب يعرفون ذلك ولا أهل البلاد، كما لا يعرفه الديكتاتور نفسه. مع تزايد عدد السكان، وازدياد التفاوت في توزيع الثروة، وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية بشكل مطرد، كان بإمكان كلِّ مراقبٍ مهتمٍ في مصر أنْ يسمع تكّات الساعة، دون أن يعلم متى سيحدث الانفجار الفعلي؟

وعندما حصل الانفجار الفعلي في نهاية المطاف فوجئ الجميع. وهنا لا بدَّ من ملاحظة مدى الجهود التي بذلتها جميع القوى لتضع نفسها في الموضع الأفضل، أي المعارضة "العلمانية" التقليدية وجماعة الأخوان المسلمين والنظام نفسه. حتى أن العديد من المراسلين المطلعين بشكلٍ جيدٍ والمقيمين في القاهرة سافروا إلى تونس عندما بدأت الثورة في مصر. إنَّ الدكتاتوريات بطبيعتها ليست شفافة، وعدم الشفافية هذه من العوامل التي تبقيهم على قيد الحياة. هذا التعتيم ما زال موجودًا حتى يومنا هذا. في الفترة التي امتدت ثمانية عشر يومًا حتى تنحّي الدكتاتور مبارك (يرجى عدم تسميته بالرئيس!)، كان عدد المتظاهرين في ميدان التحرير يصل إلى مائتي ألف متظاهر.

لكن في مدينة يبلغ عدد سكانها عشرين مليونًا يعني هذا أنَّ تسعين بالمائة من سكان القاهرة لم يتوجهوا إلى ميدان التحرير. فماذا كان موقف هؤلاء؟ ليس لدينا معرفة بذلك. ولا توجد استطلاعاتُ رأي تعكس الواقع في الدول البوليسية، ذلك لأنها لا تـُجرى أصلاً أو لأنه لا بدَّ من الشك بمصداقيتها إنْ وُجدت – سيكون ضربًا من الجنون أن يصرّح المرء باشمئزازه من الديكتاتور بصراحة لغريبٍ يُجري استطلاعًا لرأي الناس عِبر الهاتف. أثناء هذه الأيام الثمانية عشر من الثورة لم يقدم التلفزيون المصري الرسمي شيئًا سوى الدعاية المضادة للاحتجاجات، بينما لم تُخفِ قناة الجزيرة تعاطفها الصريح مع قضية المتظاهرين. من شأن الإطلاع على نسب مشاهدة القنوات التلفزيونية ومعرفة عدد المصريين الذين تابعوا هذه القناة أو تلك أن يكون مثيرًا للاهتمام. بيد أن تقديرات تـُبين أعداد المشاهدين لا يتم نشرها.

هكذا هي حال الديكتاتورية. ومن الأساليب التي يمكن وصف هذه الثورة عبرها، هو اعتبارها محاولة المصريين معرفة هويّتهم الفعلية – على الصعيد الفردي كما على صعيد الشعب ككل. يستند هذا على نظام دولة القانون التي تكفل حرية التعبير وحرية التجمع وجميع الحقوق الأخرى التي تعوَّدنا عليها في الغرب إلى درجة أننا لم نعُد نلاحظها، لأنها صارت جزءا لا يتجزأ من إحساسنا بالأمن ومن استقامتنا الفكرية.

السؤال الذي يطرح نفسه: إلى أين المآل؟ من شأن المغامرة في إطلاق التنبؤات المتهورة أن تكون بعيدة عن الدقة (لا بل وغبية) نظرًا لعدم شفافية الديكتاتوريات وما بعد الديكتاتوريات. بيد أنه قد يكون من المفيد تسمية بعض القيود التي ستحدد نطاق أي بديل ديمقراطي. لقد درست في أواسط التسعينيات في جامعة القاهرة التي لا يدرس فيها تقريبًا إلا المصريين وتعلمت هناك شيئين يمكن أن تثبت أهميتهما في الأشهر والسنوات المقبلة: الشيء الأول هو أن الفساد ليس واحدًا من خيارات عديدة في دولة بوليسية مثل مصر، بل هو ضرورة، وآلية تعامل لا مفرّ منها لتأمين لقمة العيش اليومية.

إن حكومة من حكومات العالم الثالث مثل حكومة مصر تفتقر ببساطة إلى الميزانية اللازمة لدفع رواتب موظفيها وقضاتها والعاملين في الشرطة وأطبائها ومعلميها وأساتذة جامعاتها بالقدر الذي يتيح لهؤلاء القدرة على العيش من هذه الرواتب. وبالتالي يضطر هؤلاء الناس الفقراء إلى إيجاد سبلٍ أخرى (بالمعنى المزدوج للكلمة) لزيادة دخلهم. فالمعلم يزيد دخله من خلال منحه علامات جيّدة، والطبيب يأخذ المال لقاء وضع اسم المريض في مرتبة أفضل على قائمة الانتظار، والمدعي العام لكي يُسقط دعوى ما.

الفساد بوصفه نظامًا

ويتابع لويندي، على المرء أنْ يتخيّل مدى مرض ذلك العالم الذي يضطر فيه الإنسان إلى بيع ضميره لمجرد أن يتمكن من كسب قوته اليومي. رجال شرطة المرور مثلاً الذين يتولون مهام تنظيم حركة مرور آمنة عند تقاطع طرق مزدحمة لديهم توجيهات بطلب المال من السائقين، ويتوجّب عليهم تسليم جزءٍ من هذا المال إلى رؤسائهم الذين يتوجّب عليهم بدورهم تسليم جزءٍ لرؤسائهم وهكذا دواليك. إنه هرم من الابتزاز يبلغ أعلى المستويات.

لا تكمن المشكلة في الدولة البوليسية الفقيرة في أنَّ النظام فاسد. المشكلة تكمن في أنَّ الفساد قد بات هو النظام الوحيد. ولا يقتضي تغيير كل هذا تبديلاً هذه العقلية بشكلٍ كاملٍ وحسب، بل يحتاج أيضًا إلى حكومةٍ قادرةٍ على العناية بشكلٍ مناسبٍ بالمستخدمين والموظفين في القطاع العام، وهذا ما لا تستطيعه الحكومة في الوقت الحالي. قد يتغيّر هذا من خلال النمو الاقتصادي، إلا أنَّ هناك عقبةً أخرى، حيث تشترط التنمية وجود أيدٍ عاملةٍ جيدة التعليم. وقد كان وجود "التعليم" في مصر شكليًا يشبه وجود "رئيس جمهورية" و "برلمان" في العقود الأخيرة. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي درستُ فيها في القاهرة، كانت تعتبر أعرق مؤسسة باللغة العربية في البلاد، ففي هذه الكلية كان يدرس دبلوماسيو المستقبل.

لكنَّ نموذج التعلـُّم عن ظهر قلب البليد والمستبد كان سائدًا في هذه الكلية أيضًا. كان أستاذ الجامعة يتلو والطلاب يكتبون ما يقول، ومن ثم يحفظون المادة جيدًا ويجيبون بشكلٍ حرفي في الامتحانات. وكان الفساد يحكم هنا أيضًا، فالأساتذة الجيدون ذوو الميول الإسلامية كانوا يُهمشون، والطلاب الذين يتمتعون بعلاقاتٍ جيدةٍ كانوا يحصلون على علامات جيدة. وفي الكليات الأخرى كان الطلاب ينحشرون بالمئات في صالات التدريس الجامعية وقلما تعلموا شيئا مفيدًا. لا تكمن مشكلة الجيل الذي تعلّم بهذا الأسلوب في البطالة إذن، إنما تكمن في تأهيله الذي لا يتيح له فرصة الحصول على وظائف مجدية.

وعلاوة على ذلك، عندما يفكر المرء بتعميم التضليل ونظريات المؤامرة والبروباغاندا التي استمرت عقودًا طويلة، والتي كان هذا الجيل مجبرًا على تلقّيها، فلا يعود من البديهي أبدًا أن تؤدي الانتخابات الديمقراطية إلى انتصار أحزاب ديمقراطية.

وأد النقاش الديني في المهد

ويشير لويندي، هذه هي القيود التي تحدثت عنها. تُنمّي الدول البوليسية عقلياتٍ وأفكارًا لا تختفي ببساطةٍ بين عشيةٍ وضحاها. لكن الأمل قد يأتي من جهة غير متوقعة، ألا وهي الإسلام. من الحقائق التي قلما جرى تغطيتها في الماضي هي التحالف غير المقدّس بين الدكتاتور المصري والمؤسسة الدينية المحافظة التي ينبغي عدم الخلط بينها وبين القوى الأصولية. كان جوهر هذا التحالف يقوم على أنْ يُسلـِّم الدكتاتور باستئثار رجال الدين التقليديين بالتفسير، وفي المقابل لا يعترض رجال الدين على استئثار الدكتاتور بالسلطة الدنيوية.

والنتيجة كانت اضطهادًا وحشيًا حقًا لكل شخص يدافع عن تفسير جديد للإسلام. وقد أضرّ هذا بالإسلام أكثر، لأن مؤسسة تعاليم المذهب السني الأعظم شأنًا في الإسلام متمثلة بجامع الأزهر وجامعة الأزهر الموجودين مصر قد تحالفت مع النظام.

إذا تمكنت مصر من تطوير نظام يفصل بين الجامع والدولة ويضمن حرية التعبير والتجمع، سوف تتبع ذلك موجة من البحث عن فهمٍ جديدٍ لمعنى السياسية ومعنى الدين ونقاشاتٌ وتطوُّرٌ فكري. إن إعادة اكتشاف المعتقد الديني ليس جزءا من برنامج المحتجّين السياسي، فالبرنامج يتناول القضايا الاقتصادية والدستورية وما شابه. ومع ذلك ربما ستكون إعادة اكتشاف المعتقد الديني هي النتيجة التي ستثبت على المدى الطويل أنها الأهم وأنها الدافع الأقوى للإحساس بالأمل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/تشرين الثاني/2011 - 26/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م