السياسة الجنائية وتأثيرها على الظاهرة الإجرامية

رياض هاني بهار

إن الحديث عن واقع السياسة الجنائية بالعراق يمكن اجماله من خلال الحديث عن أثر هذه السياسة على ظاهرة الجريمة من جهة ومن خلال الاطلاع على بعض النصوص القانونية وعلى جوانب من الممارسة القضائية من جهة أخرى.

 ويمكن تعريف مختصر للظاهرة الاجرامية هي سلوك إنساني يحدث في المجتمع اضطرابا بسبب خرقه لقواعد الضبط الاجتماعي فقد توجد أسبابها في تكوين الفرد أو في ظروف الجماعة لكنها في كلتا الحالتين تحدث اضطرابا في العلاقات الاجتماعية.

لايمكن اعتبار الظاهرة الإجرامية ظاهرة منفردة، بل إنها تعتبر ظاهرة إجتماعية وقانونية، وفوق ذلك يمكن إعتبارها ظاهرة سياسية، فالظاهرة الإجرامية تكون سياسية عندما تنصرف الدولة عن توفير الضمانات الكافية لعيش المواطن في سلام واطمئنان وعن تدخلها في إصلاح مرافقها العامة، فإذا لم تقم الدولة مثلا بتوفير فضاءات التدريس والتعليم المجاني والرعاية الطبية والعمل وضمان العاطلين فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى تفشي السلوكيات الإجرامية من قتل وسرقة وتسول وتشرد...

وتكون الجريمة ذات طبيعة قانونية إذا وضعنا في الاعتبار تدخل الدولة في تجريم الأفعال المرتبطة بالقضايا الاقتصادية أو السياسية أو الإدارية، وهكذا فقد أصبحت السياسة الجنائية بخصوص المبدأ الأول تتجه نحو تضييق الخناق على حرية الأفراد وتصرفاتهم حيث أصبح مبدأ "الأصل في الأشياء الإباحة" لا يساير التطور الذي تعرفه السياسة الجنائية الحديثة، ونفس الشيء يصدق على المبدأ الثاني لكونه مجرد وسيلة لتبرير تدخل الدولة في تجريم الأفعال التي لا علاقة لها بالجرائم الاجتماعية التي غالبا ما يتم التجريم فيها انطلاقا من المبادئ الدينية أو الأخلاقية السائدة في المجتمع.

ولعل المرشد الحديث (موسوعة علم الجريمة والبحث الاحصائي الجنائي ) للاستاذ الدكتور اكرم عبدالرزاق المشهداني خير مصدر لرسم السياسات الجنائية:

واقع السياسة الجنائية من خلال النصوص القانونية والممارسة القضائية:

تحدد معالم السياسة الجنائية من خلال الخطوط العريضة للتشريع الجنائي وتطبيقاته، وهكذا يمكن القول بأن حدود تدخل القانون الجنائي اتسعت بحكم التطور الحاصل في مختلف مرافق الحياة وما صاحب هذا التطور من اضطرابات مما أدى لتدخل القانون الجنائي ليساعد على التنظيم وعلى حماية المصالح الجديدة التي تستقر في المجتمع.

وتبعا لذلك فقد عرفت الترسانة القانونية خلال نهاية العقد الأخير من القرن الماضي تحسنا ملحوظا من خلال إدخال تعديلات على مجموعة من النصوص القانونية وخلق قوانين جديدة، شكلت منعطفا تاريخيا في المشهد القانوني، ومن أهم التعديلات التي عرفتها القوانين نجد ما يتعلق بالتشريع الجنائي الذي هم إصدار قانون اصول المحاكمات الجنائية في العراق والذي يعتبر أهم الركائز التي تقوم عليها السياسة الجنائية لارتباطه بحقوق وحريات الأفراد كونه يحدد المقتضيات المتعلقة بكيفية بحث الجريمة، ومتابعة المجرمين وكيفية تطبيق العقوبات والتدابير.

أزمة السياسة الجنائية:

من السهل أن نتحدث عن أزمة للسياسة الجنائية في أي تشريع وضعي، لكن من الصعب الحديث عن وجود سياسة جنائية فعالة، وإيجاد حلول للأزمة أو الأزمات التي تصيب سياسة التجريم والعقاب، ذلك أن الوقوف عند العيوب يسهل على المتتبع رصدها ومراقبتها في حين أن إيجاد الحلول لفشل السياسة الجنائية سواء تعلق الأمر بالوقاية أو التجريم أو المنع يحتاج إلى رصد لمظاهر الفشل ومحاولة وضع إستراتيجية فعالة تأخذ في الاعتبار مجموعة من العوامل المتداخلة للحيلولة دون تفشي الجريمة.

إن أزمة السياسة الجنائية لا يمكن الحديث عنها من منظور أحادي، بل إن هذه الأزمة تتداخل فيها مجموعة من العوامل منها ما يرتبط بالجانب الهيكلي التنظيمي ومنها ما هو مرتبط بالجانب الموضوعي، ولذلك فإن ارتفاع نسبة الجريمة وبروز أنواع جديدة من الجرائم وتنامي الإحساس بانعدام الأمن أصبح يسيطر على تفكير الرأي العام، وجعل نظام العدالة الجنائية في قفص الاتهام إثر التشكيك في النظام الجنائي وفي قدرته على احتواء ظاهرة المد الإجرامي، وقد ذهب بعض الباحثين إلى رصد مظاهر السياسة الجنائية وحصرها في:

• تصاعد ظاهرة الجريمة مع ما يلاحظ من افتقار للتصورات الجنائية في محاربتها والوقاية منها.

• انتقاد سير العدالة الجنائية بسبب عدم السرعة والفعالية نتيجة تضخم عدد القضايا المعروضة على المحاكم وهو ما أضر بنجاعتها وفعاليتها.

وهذا واضح من خلال احصاءات القضاء العراقي

• تصاعد وتيرة التوقيف باعتماد نظرة مفادها أنه الوسيلة الناجعة للحد من الجريمة!! وهو ما أدى إلى اكتظاظ مهول داخل المؤسسات الإصلاحية التي لم يعد بإمكانها مواكبة أهدافها التربوية والإصلاحية.

• التأكيد على اعتبار السجن وسيلة لحماية المجتمع عوضاً عن الدفاع عن المنحرف في مواجهة الدولة.

• غياب الشروط الكفيلة بحماية ضحايا الجريمة وتقديم المساعدات الممكنة لهم منذ وقوع الجريمة إلى نهاية المحاكمة.

• عدم تفعيل دور المؤسسات الاجتماعية المخصصة لإيواء ذوي العاهات العقلية أو الأحداث.

ويمكن أن نشير إلى بعض ملامح هذه الأزمة من خلال ظاهرة الجنوح البسيط إذ تشير الإحصائيات إلى أن هذا الصنف من الجرائم أصبح يشغل حيزا واسعا من المنظومة التشريعية الجنائية، فالجرائم البسيطة المعاقب عليها بالغرامة أو الحبس أقل من سنتين تبلغ حوالي 60 في المائة من المجموع العام للجرائم، وهو ما يعكس قصور السياسة الجنائية في معالجة هذا الصنف، ووجود خلل في استيعاب مضامين توجهات السياسة الجنائية المرسومة والتطبيق السيئ لاستراتيجياتها والذي يتمظهر أساسا في غياب التنسيق بين جهاز الشرطة والادعاء العام ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة العدل في تطبيق السياسة الجنائية. ففي الوقت الذي أصبح التفاؤل يعم الأوساط الحقوقية والمهتمة ببداية تفهم سلطة الاتهام لجديد السياسة الجنائية، نجد أنفسنا أمام قضاء الحكم لا يساير هذا التوجه الجديد ويعطي الأولوية للعقوبات السالبة للحرية عوضا عن إيجاد بدائل جديدة لها كالعقوبات المالية والإدارية.. ومنها.

ـ الصلح بين الأطراف: هذا الإجراء هو لب العدالة وجوهرها لأنه يرأب الصدع بين الخصوم ويجبر ضرر الضحية، ويجنب الجاني المتابعة وما يترتب عنها من تلطيخ لسمعته.

ـ إيقاف سير الدعوى: في بعض الجنح إذا تنازل المتضرر أثناء سريان الدعوى العمومية يمكن للمحكمة أن تأمر بإيقاف سير إجراءاتها بناء على إلتماس يقدم إلى قاضي التحقيق.

ـ تفعيل قرار(استبدال المدة المتبقية من العقوبة بالغرامة قرار رقم 20 لسنة 2000) والساري المفعول، ولكنه لم ينفذ منذ عام 2003 ولحد الان وقد ثبت نجاحه. ويمكن ان يكون بديلا عن قانون العفو المزمع اصداره.

إن السياسة العقابية جزء لا يتجزأ من السياسة الجنائية العامة، والتي من خلالها تتضح إيديولوجية الدولة، ونظرتها لعملية حفظ الأمن بمفهومه الشامل: الإجتماعي والإقتصادي والسياسي.

* خبير بالشؤون الامنية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 13/تشرين الثاني/2011 - 16/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م