العقل اداة الحياة

علي اسماعيل حمة الجاف

لقد اشارت الدراسات الحديثة ان الانسان اعتاد ان ينظر الى الكون من خلال اطار فكري يحدد مجال نظره، وانه يستغرق او ينكر اي شيء لا يراه من خلال ذلك الاطار. فالإنسان بهذا المعنى يشابه الاعمى. ومن الممكن القول بان كل شيء جديد في العلم يقابله المتعلمون وغير المتعلمون من الناس بالهزء.

 وهنا ينبغي ان نميز بين المتعلم والمثقف، فالمتعلم هو من تعلم امورا لم تخرج عن نطاق الاطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره، فهو لم يزدد من العلم الا ما زاد في تعصبه وضيق من مجال نظره. هو قد امن برأي من الآراء او مذهب من المذاهب فاخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرضه على الكفاح في سبيله.

 اما المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة وللتأمل فيها ولتملي وجه الصواب فيها. ومما يؤسف له ان المثقفين بيننا قليلون والمتعلمين كثيرون. وهذا هو السبب الذي جعل احدهم لا يتحمل رايا مخالفا لرأيه.

 يقال ان المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من اراء غيره المخالفة لرايه، فالمثقف الحقيقي يكاد لايطمئن الى صحة رأيه، ذلك لان المعيار الذي يزن به صحة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغير من وقت لآخر. وكثيرا ما وجد نفسه مقتنعا براي معين ثم لايكاد يمضي عليه زمن حتى تضعف قناعته بذلك الرأي...

 ان الاطار الفكري الذي ينظر الانسان من خلاله الى الكون مؤلف من جزئه الاكبر من المصطلحات والمألوفات والمقترحات التي يوحي بها المجتمع اليه ويغرزها في اعماق عقله الباطن. والانسان اذن متأثر بها من حيث لايشعر. فهو حين ينظر الى ما حوله ليدرك ان نظرته مقيدة ومحددة. وكل يقينه انه حر في تفكيره. وهنا يكمن الخطر، فهو لايكاد يرى احدا يخالفه في رايه حتى يثور غاضبا ويتحفز للاعتداء عليه. وهو عندما يعتدي على المخالف له بالراي لايعد ذلك شينا ولا ظلما اذ هو يعتقد بانه يجاهد في سبيل الحقيقة ويكافح ضد الباطل.

 واغلب الحروب والاضطهادات التي شنها البشر بعضهم على بعض في سبيل مذهب من المذاهب الدينية او السياسية ناتجة عن وجود هذا الاطار للاشعور على عقل الانسان. ويعتقد "وليم جيمس"، الفيلسوف الامريكي المشهور، بان العقل البشري "جزئي ومتحيز" ويرى هذا الفيلسوف ان العقل لايستطيع على التفكير المثمر الا اذا كان جزئيا في نظرته ومتحيزا في اتجاهه. ذلك لان الحقيقة الخارجية في رايه تحتوي على نواحي متعددة وتفاصيل شتى. فاذا لم يركز العقل انتباهه على ناحية ويترك النواحي الاخرى يصعب عليه الوصول الى فكرة عملية واضحة عنها. يقول "جيمس": ان العقل لايكون ذا قدرة وكفاية الا بتخيره ما ينتبه اليه، وبتركه ماعداه، اي بتضيقه وجهة نظره، والا توزعت قوته الضئيلة وضل في تفكيره.

 لقد وقع اختلاف بين المفكرين منذ ايام الاغريق القدماء حول موضوع الفكر البشري: هل هو الذي يخلق الحقيقة ام انها هي التي تخلقه؟ وقد انقسم المفكرون في هذا الى فريقين: فريق منهم يقول بان العقل البشري ليس الا مرآة للحقيقة حيث هو يعكس صورتها من غير تغير او تشويه. والفريق الاخر يميل الى النقيض من ذلك اذ يرى بان الحقيقة بنت العقل وليس ان هنالك حقيقة خارجة عنه. ففي راي هؤلاء ان الانسان هو مقياس الحقيقة. وقول "مانهيم": يمكن تشبيه الحقيقة بالهرم ذي الاوجه المتعددة حيث لايرى الانسان منه الا وجها واحدا في ان واحد. ويؤيد "جون ديوي" هذا الرأي تأييدا كبيرا. فهو يعتقد بان العقل البشري ليس مرآة للحقيقة كما كان الاقدمون يتصورون. ان العقل في نظر "ديوي" لم يخلق من اجل الحقيقة، فله هدف اخر اهم من الحقيقة وانفع، هو الفوز في تنازع البقاء.

 كان القدماء يعتقدون بان العقل هو قبس الحق ونور الهداية ومقياس الحقيقة. اما "ديوي" فيضحك على هؤلاء ويعدهم سخفاء. فالعقل في نظره عضو قد تطور في الانسان كما تطور الخرطوم الطويل في الفيل والناب الحاد في الاسد والساق الرشيقة في الغزال. ان العقل قد تطور في الانسان كي يساعده في كفاح الحياة وتنازع البقاء. فهو لايفهم الحقيقة الا بمقدار ما تنفعه في هذا السبيل.

 واصحاب الشهادات في مجتمع جاهل قد يصيبهم مثل ما اصاب اغنياء الحرب. فهم يرون انفسهم في علو شاهق بالنسبة الى من حولهم من الناس. وتجدهم بذلك قد اكتفوا بما درسوا قبلا وجمدوا على ما هم عليه؛ فشغلوا انفسهم بالمكايدات والمؤامرات يحوكها بعضهم على بعض في سبيل المناصب الجامعية او التزلف نحو رجال الحكم.

 والمصيبة في هذا الامر ان الانسان لابد له احيانا في صنع اطاره الفكري او في تغيره، فإطاره يتطور حسب مفاهيم خاصة لايستطيع هو ان يتحكم فيها الا قليلا.

 فالإنسان قبل كل شيء يملك نفسا معقدة فيها كثير من الرغبات المكبوتة والعواطف المشبوهة والاتجاهات الدفينة. ففكره اذن مقيد بهذه القيود النفسية التي لايجد عنها محيصا الا نادرا. والانسان قد يدعي انه يفكر تفكيرا حرا لاتحيز فيه ولاتعصب، وهو صادق احيانا فيما يقول، لانه لايعلم ماذا كمن في عقله الباطن من عقد وعواطف ونزوات خفية.

 ويقول د. علي، عالم الاجتماع العراقي، " قد تسال احدهم مثلا: لماذا تحب "هتلر" من دون بقية الزعماء؟ فيجيبك بانه يحبه لعظمته ونزواته واخلاصه وعبقريته وما اشبه. فهو يخلق الحجج والبراهين لكي يثبت لك انه يطلب الحقيقة في حبه "لهتلر". والواقع انه احب "هتلر" لان قصة هذا الرجل قد اشبعت بعض رغباته المكبوتة حيث حب القوة، الاعتداء، الفخار او بعد الصيت... فصاحبنا يشعر بنقص في نفسه، وهنالك الكثيرون في العراق امثاله، وقد وجد في "هتلر" لاشعوريا ما يسد هذا النقص فهام به كما هام المجنون بليلى..."

 وفكر الانسان مقيد ايضا بقيود اجتماعية علاوة على قيوده النفسية. فهو ينتمي الى جماعة، طبقة، بلد، وغير ذلك. ولذا فهو يتعصب لجماعته في الحق والباطل على منوال ما كان عرب الجاهلية يفعلون حين قالوا: "انصر اخاك ظالما او مظلوما".

 والمرأة في نظر "شوبنهور" قد تملك احيانا نظرة فائقة ولكنها لن تستطيع ان تكون عبقرية لانها لاتقدر على الخروج من ذاتها، فهي ميالة الى النظر في الامور من خلال عواطفها ورغباتها الشخصية.

 ويقول "برجسون" ان الانسان ميال بطبيعته الى موافقة الجماعة التي ينتمي اليها. اما العبقري فيشعر انه ينتمي الى البشرية جمعاء ولذا فهو يخترق حدود الجماعة التي نشا فيها ويثور على العرف الذي يدعم كيانها. انه يخاطب الانسانية كلها بلغة من الحب، وكانه انسان من نوع جديد.

 والخلاصة التي اريد ان استخلصها من هذا البحث هي ان العقل البشري متحيز بطبيعته، والفرد العادي لايستطيع ان يتجرد في تفكيره مهما حاول، لان القيود التي تقيد فكره مغروزة في اعماق عقله الباطن. ان العبقري هو الانسان الوحيد الذي يستطيع ان يسمو عن ذلك ويحلق في سماء الابداع والاختراع.

* باحث عراقي

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 29/تشرين الأول/2011 - 1/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م