(القفّاصَة) في العراق برؤية جنائية

رياض هاني بهار

كان عملي في أوائل التسعينات، عندما كنت مديرا للتسجيل الجنائي، يتصل برصد الظواهر الاجرامية في المجتمع وتشخيصها، وكانت إدارات الشرطة ترسل الينا (ضحايا الجريمة) لكي نستدل من خلالهم على هوية الجناة حيث بدأت (ظاهره الاحتيال بطريقة استبدال العملة) تتزايد، واصبح الرقم (مابين 10 إلى 20) حادثة مسجلة اسبوعياً.

وعند ندرس الظاهرة ميدانيا نأخذ بنظر الاعتبار بانه مشروع إجرامي احترافي يقوم على تكرار وقوع نوع معين من الجرائم، بأسلوب إجرامي واحد، في منطقة جغرافية معينة، وفي فترات زمنية متعاقبة، سواء قامت بها جماعة إجرامية واحدة أو مختلفة.

أما الجريمة العادية فيمكن تعريفها مقارنة بالظاهرة الإجرامية بأنها مشروع إجرامي يبدأ وينتهي باكتمال الوقائع المكونة له ولا يحمل معنى التكرار في الغالب وإن تضمن معنى الاستمرار، فهي جريمة تقع من فاعل او عدد من الفاعلين على ضحية أو عدد من الضحايا في وقت واحد أو أوقات متقاربة ومكان واحد أو أمكنة قريبة وتنتهي الجريمة باكتمال عناصرها. مثل قيام فاعل او عدد من الفاعلين بقتل شخص او مجموعة من الأشخاص.

 وفي ضوء ما تقدم فان مجرد تعدّد النشاط الإجرامي لا يشكل بحد ذاته ظاهرة إجرامية، تقع على عدد كبير من الضحايا وغير محدد سلفاً في الغالب. فالجريمة الاعتيادية تقع عادة في زمان واحد ومكان واحد او قريب من الفعل الإجرامي الأول ومع ذلك لا يغير من طبيعتها بُعد المكان واختلاف الزمان مادام ان المشروع الإجرامي ينتهي بانتهاء الأفعال المكونة

وقبل الخوض بالأساليب الاجرامية التي يتبعها الجناة لابد لنا من وقفة للتعريف بالمصطلح (القفاصة) المتداول في العراق لوصف نمط معين من أنماط جرائم الإحتيال بالمواجهة.

تعريف القفاصة: ان اصل تسمية التقفيص يعود إلى كلمة القفص، باعتبار إن الضحية يستدرج إلى الخديعة بمليء إرادته عبر وسائل الإغراء، كما هو الحال باصطياد الفأر بقطعة الجبن توضع داخل القفص.

أصل القفاص

(وجمعها قفّاصة) وهي من فعل قفَّص ومصدرها قَفَصَ تقفيصاً، والقفاص هو محتال يقترب فعله من فعل الساحر القادر على خداع الناس في لمح البصر. وجاءت التسمية أولا لتصف أولئك الأفراد الذين يتوسطون لبيع سيارة أو بيت أو أي شيء آخر ويأخذون العمولة من الطرفين بدون أن يعرف الباعة والمشترون بعضهم البعض. حالما يسمع القفاص بأن بيتا معروضا للبيع يذهب إلى صاحبه ليتظاهر بأنه يريد شراءه، لكنه في الوقت نفسه يتحرك ليجد مشتريا ومن خلال الفسحة التي تتوفر له سيتمكن من كسب مبلغ ما ثم يختفي من الساحة تماما.

- القفاصة: فريق عمل مرافق لبائع مخادع.

- مصطلح (قفاص) (يقفص عليه) وهو تحوير لكلمة (غشاش، أو محتال) التي كان العراقيون يتداولونها قبل الحصار، فقد كثر القفاصون وصارت ثقافة التقفيص هي السائدة، وهي تؤدي الى كيفية الوصول والحصول على المال بأي طريقة.

التكييف القانوني:

من الناحية العقابية تنطبق على فعل التقفيص احكام (جرائم الإحتيال) المنصوص عليها بالمادة 456 من قانون العقوبات العراقي: ((....

1 – يعاقب بالحبس كل من توصل الى تسلم او نقل حيازة مال منقول مملوك للغير لنفسه او الى شخص اخر وذلك باحدى الوسائل التالية:

ا – باستعمال طرق احتيالية.

ب – باتخاذ اسم كاذب او صفة غير صحيحة او تقرير امر كاذب عن واقعة معينة متى كان من شان ذلك خدع المجنى عليه وحمله على التسليم.

2 – ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من توصل بإحدى الطرق السابقة الى حمل اخر على تسليم او نقل حيازة سند موجد لدين او تصرف في مال او ابراء او على اي سند اخر يمكن استعماله لإثبات حقوق الملكية او اي حق عيني اخر. او توصل بإحدى الطرق السابقة الى حمل اخر على توقيع مثل هذا السند او الغائه او اتلافه او تعديله.))

وعرف المشرع العراقي جريمة الاحتيال وتعرف بأنها (استيلاء الجاني على مال منقول مملوك للغير عن طريق استخدام اساليب الغش والخداع والتدليس).

والوسائل الاحتيالية اوردها المشرع العراقي على سبيل الحصر وهي (:1- استعمال طرق احتيالية 2- اتخاذ اسم كاذب 3-الاتصاف بصفة غير صحيحة 4- تقرير امر كاذب عن واقعة معينة متى كان من شأن ذلك خداع المجني عليه وحمله على التسليم).

ولجريمة الاحتيال ركنان هما: الركن المادي والركن المعنوي، فالركن المعنوي يتكون من ثلاثة عناصر العنصر الاول نشاط الجاني والعنصر الثاني النتيجة والعنصر الثالث العلاقة السببية بين الفعل والنتيجة، اما الركن المعنوي فيتمثل بالقصد الجرمي لان جريمة الاحتيال من الجرائم العمدية.

كشف مجلس القضاء الاعلى العراقي ان محاكم العراق بكافة تخصصاتها تمكنت وخلال العام المنصرم 2010 من حسم 14728 جريمة احتيال وقعت في عموم محافظات العراق (باستثناء اقليم كردستان)، وان نسب الحسم مقارنة بالدعاوى المعروضة كانت تفوق الـ 90% حيث تمحورت النسبة الاعظم من هذه الجرائم جرائم الاحتيال في مواضيع وصولات الامانة وعمليات بيع وشراء السيارات وتعاملات معارض السيارات، اضافة الى التحايل على نصوص القانون لتحصيل ارباح غير مشروعة بعضها يتعلق بالنفقات والتلاعب باللجان المشكلة لأغراض مسوحات اراضي وبيع عقارات.

أسباب الظاهرة:

من اجل تفسير هده الظـاهرة ببيان العوامل الاجرامية المختلفة كدافع لهذه الظاهرة والاسباب لهذه الظاهرة عديده ولكن سنتناول اهمها بإيجاز:

الاسباب الاقتصادية: من الخطورة بمكان أن تتحول ظاهرة الاستحواذ على اموال الاخرين ثقافة مستشرية بالمجتمع في ظل فوضى إجتماعية وأخلاقية وإقتصادية خلقها النظام عام 1991، وكانت ظروف قاهره غيرت كثير من السلوكيات والاتجاهات بالمجتمع وافرزت نتائج جنائية كارثية على المجتمع.

الاسباب القانونية: اتجهت الدولة انذاك الى تشديد العقوبات على جرائم السرقات الى الاعدام عدلت هذه المادة بموجب المادة (1) من قرار تطبيق العقوبة المنصوص عليها في القرار رقم (1133) في 1982 على مرتكب اياً من الجرائم المنصوص عليها في المواد 444 و 445 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 على مرتكب جريمة سرقة السيارة، رقمه 13 صادر بتاريخ 01/01/1992 مما أدى الى اتجاه أرباب السوابق نحو تغيير اسلوبهم الاجرامي ونمط الجريمة من (السرقة) الى (الاحتيال) لتجنب العقوبة المشددة ولكون جريمة الاحتيال من العقوبات البسيطة كما اشرنا انفاً، فضلا عن مردودها المالي الجيد بنظرهم.

الاساليب الاجرامية:

إن النصب والاحتيال حرفة لا يستطيع مزاولتها إلا الأذكياء والشطار، سيما أنها وحسب ما يعتقد متقنيها فناً من فنون الحياة بحاجه إلى موهبة خاصة.

المظاهر الخارجية:

يشترط لتوفر طرق احتيالية ان يكون هناك كذب مدعم بمظاهر خارجية وان الكذب المجرد لا يكفي لقيام الطرق الاحتيالية لذا يجب ان يتم تعزيز هذا الكذب بمظاهر خارجية تؤيده وتبعث الاعتقاد في نفس المجني عليه بصحة الكذب هذا ويعبر عن المظهر الخارجي بالحبكة. والحقيقة ان هذه التسمية جاءت نتيجة لكون الجاني عندما يحتال على المجنى عليه فيكذب عليه ويحيط كذبه بوقائع خارجية أخرى للتمويه، يكون كمن يعد منظراً مسرحياً يصبح فيه صاحب المال مجنياً عليه بحيث ينخدع بتلك التصريحات وما رافقها من ظروف مادية، حملت المجني عليه على الاعتقاد بهذا وان المظاهر الخارجية ماهي الا وسائل اقناع تضفي على كذب الجاني قدراً من الثقة ما يجعل المجني عليه يصدق اكاذيب الجاني ويقوم بالتسليم بهذه المظاهر التي تتصاحب مع الكذب وتحيط به وتؤيده وتدعمه، كما هو الحال في بروز ظاهره (سامكو وعلاءكو وماجدكو) بتاسيس شركات ذات مظاهر براقة وسيارات فخمة وحمايات (خوشية) وهي مانطلق عليه (مظاهر الفخفخه)، لكن هذه العبارة اتسعت لاحقا مع اتساع وسائل الغش خلال سنوات فرض العقوبات الدولية.

ونعرض بايجاز عن بعض الاساليب الإجرامية للمحتالين (القفاصة) المتبعة في تسعينيات القرن الماضي ولا يزال البعض من هذه الاساليب تستخدم في (التقفيص):

1- طريقة التحدث باللهجة الأردنية والسورية وهذه الظاهرة من اخطر الظواهر لإمكانية المحتالين بالأسلوب الإجرامي المذكور بإتقان دور الأشخاص الوافدين للعراق من الأردن او سوريا وإتقانهم لأسلوب التخطيط للمكان المناسب والشخص المناسب ليكون ضحية لأعمالهم الاحتيالية وأنهم يتمكنون من سرقة مبالغ طائلة من هذا الأسلوب.

2- طريقة سرقة الحلي من الصاغة انتشرت هذه الظاهرة في أوائل التسعينات حيث يقوم احد الأشخاص بالتعرف على فتاة ومن ثم يتقدم لخطبتها ويقوم باصطحابها إلى محلات الصاغة لشراء ذهب الزواج وبانتظاره امرأة كبير في السن يدعي أنها والدته وإنها معاقة ولا تستطيع النزول من السيارة وعند الوصول إلى الصاغة يدعي انه يروم أن يعرض الذهب على أنظار والدته ويختار أطقم الذهب غالية الثمن ومن ثم يترك الفتاة الضحية مع الصائغ ويلوذ بالفرار إلى شريكته إلى جهة مجهولة.

3- طريقة سرقة الذهب من قبل أشخاص يدعون أنهم في السفارة السودانية حيث يختار الجناة شخص سوداني يقوم بإعطائه مبالغ مالية والتقرب إلية بحجة الصداقة حيث يختارون شخص يكون ساذج وذا تفكير محدود وبعدها يذهب الجناة إليه ويقول له انه السفير السوداني ويروم شراء الذهب وسوف يحضر إليه وعند حضوره بسيارة فخمة ومعه المحتالين ويقوم بالنزول مع شخص واحد ويدخلون إلى الصائغ ويختار أطقم الذهب ويذهب الجاني بحجة جلب المبالغ ووضع الذهب في السيارة ويلوذون بالفرار بعد ان يتركون الشخص السوداني لدى الصائغ.

4- طريقة استبدال الحلي الذهبية بحلي مزيفة تقوم في هذه الحوادث النساء من اخذ الخيرة حيث يختارون المناطق التي يقطنها المواطنين من الطبقات ذات الدخل الجيد وبحجة قراءة الكف تطلب المحتالة الذهب من صاحبة الدار وبعد جلب الذهب تضعه المحتالة قطعة قماش (منديل) وتقوم بشدة وبطريقة وبدون انتباه صاحبة الدار تقوم باستبدال المنديل الذي يحتوي الذهب بمنديل مشابه يحتوي على حلي مزيفة وتطلب من صاحبة الدار ان لا تفتح المنديل ألا بعد يومين لكونها قرأت التعويذة علية بهدها تلوذ بالفرار.

5- طريقة الاحتيال برمي الجلد يقوم احد الأشخاص المحتالين بالجلوس بقرب احد المستشفيات التي يرتادها الوافدون العرب لأغراض العلاج الذين أكثرهم من الجنسية اليمنية حيث ينتظر الجاني مرافق المريض عند خروجه من المستشفى لجلب العلاج من الصيدليات الخارجية ويقوم بالتحدث معه ويدعي انه أيضا مرافق لمريض ويروم جلب العلاج مدركاً إن الشخص اليمني يحمل المبالغ الخاصة بالعلاج معه كونه مقيم في المستشفى وعند السير في الطريق يرمي محتال ثاني محفظة جلدية تحتوي على دولارات عندما بجدها المحتال الأول والضحية يأخذها المحتال الأول ويتعهد للضحية بان يتقاسم لمبلغ بعدها يحضر المحتال الثاني ويتهم الضحية بأنه سرق محفظته وعند تفتيشه يقوم بسرقة أمواله واستبدالها بأوراق مزورة وعند تفتيش الجاني الأول يجد المبالغ التي رميت في المحفظة الجلد وبحجة انه سوف يقوم بتسليمه إلى الشرطة يعتذر من المجني عليه ويلوذ بالفرار.

6- طريقة بيع الذهب المزيف بأنه ذهب أصلي تدعي امرأة أنها تروم بيع ذهب وعندما المجني عليها أن تشتريه تقوم المحتالة بإخراج ذهب مزيف وبعد الاتفاق على البيع يستبدل الذهب بذهب مشابه ولكنه مزيف وتلوذ بالفرار.

7- تشغيل الأموال بالفوائد يقوم احد الجناة بجمع الأموال من المواطنين على انه يقوم بتشغيلها بالتجارة وبفوائد شهرية وعندما يأخذ الأموال يقوم بإغراء المواطنين بإعطائهم مبالغ إرباح من نفس أموالهم وبعد شهرين او ثلاثة وعند زيادة المبالغ المستحصلة من المواطنين يلوذ بالفرار.

8- سرقة السيارة بطريقة الاحتيال من قبل أمراه ورجل تستأجر امرأة ورجل سيارة أجرة يحملون معهم سمكة كبيرة وفي الطريق تحدث مشادة كلامية بينهم ويقوم الرجل بالقسم على انه لا يأكل من السمكة وبعدها يقومون برميها ويتوقف السائق لحل النزاع وجلب السمكة يقومون بسرقة السيارة ويلوذون بالفرار.

9- الاحتيال بطريقة سرقة السيارات بعد رمي مبالغ نقدية، يقوم الجناة برمي مبالغ نقدية على الطريق السريع وفي منحدرات الحواجز الحديدية ويكونون ليلا وعند مرور سائق العجلة ويقوم بالنزول لغرض جمع المبالغ يقومون بسرقة السيارة.

10-جباية الأموال الخاصة بالامانة، يقوم احد الأشخاص بجمع الأموال والضرائب المهن والإعلان من المحلات التجارية وبوصولات مزوره وهو محتال لا ينتمي الى الامانة أو إلى أي جهة.

هناك شركات تمتهن التقفيص مثل المصارف الطيارة التي انتشرت إبان منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، سلبت الناس معظم أموالهم وممتلكاتهم، وهناك شركات أخرى دخلت المدينة مؤخرا على هذا المنوال اكتشفت بعد فوات الأوان.

والغش من (التقفيص) ايضا، وهو في هذه الايام يطرح نفسه من خلال صفقات كبيرة، وذات مبالغ ضخمة اذ اكتشفت الجهات المختصة اطنانا من الشاي المغشوش، ومئات الاطنان من الرز المغشوش ومن الطحين المغشوش، ومثل هذه الاطنان يتم غشها من قبل تجار كبار وشركات كبيرة مستغلة عدم او ضعف الرقابة واجهزة السيطرة والتقييس النوعي وضعف السيطرة.

والقفاصة لفظ يعبر عن قيام شخص أو مجموعة أشخاص بالسيطرة، أو التجاوز أي (قفص) على أملاك الدولة في ظروف الاضطراب على وجه الخصوص، واستغلالها لأغراض السكن وغيره.

 وهناك مجال آخر برزت فيه مهارات القفاصين وهذا يتمثل بتصريف النقود الأجنبية والتحايل في تسليم المبلغ.

واخيرا ظهر على الساحة (الموظف القفاص) الذي يعرقل انجاز معامله المواطن ويستخدم اسلوب احتيالي للحصول على المال وهناك برز لدينا (السياسي القفاص) الذي يوعد المواطن بوعود كاذبة لقاء التقفيص على اصوات المواطنين الناخبين، ولدينا أيضاً (المقاول القفاص) الذي يقفص على الدولة بمساعدة ومعاونه موظفين بالدولة و(تقفيص بعض السياسيين على دول الجوار) بحجة يتوسط مع الحكومة لحل النزاع، واصبح للتقفيص ثقافة ومصطلحات ومفاهيم... وهناك منتديات على الانترنيت والفيسبوك لترويج هذه الثقافة... وربما سوف تظهر لدينا في السنوات القادمة أنماط جديدة مبتكرة من (التقفيص العراقي!) مثلما ظهر لنا (وزير قفاص) (شلع بالدخل كما في مصطلحات القفاصة).

* خبير بالشؤون الامنية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 6/تشرين الأول/2011 - 8/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م