عش السنونو

قصة قصيرة

علي إسماعيل الجاف

تنهض "فاتن" من النوم معلنة" بداية يوم جديد يشوبه الكثير من المتاعب والأفكار القديمة التي تلهي نفسها بها. فهي لا تعرف شيئا" سوى جدران وغرف المنزل وصديها الدائم المطبخ الذي كانت تقضي فيه يوما" طويلا" ومملا" وروتينيا".

تدرك "فاتن" أن للحياة معنى وللوقت معنى تفسره حسب ما تملكه وتعلمته من أفكار وخبرات خلال الثلاثين سنة الماضية. لا ترغب بالخروج ليلا" ولا بلقاء الجيران أو الأحبة لأنها تشعر أن خير جلس في هذا الزمان هو الكتاب الذي لا تجيد منه سوى كتابة اسمها عليه وبحروف ممزوجة لا يفهمها سوى لغوي متمرس في شؤون الحكايات والقصص الرومانسية والروايات القديمة. عانت "فاتن" من جور وحرمان وإهمال طيلة السنين السابقة وهي لا تجرأ على مناشدة احد او مقابلة صديق أو صديقة لتشتكي لهم عن عدالة الزمن والنصيب الذي لا تعرف عنه شيئا" حتى الآن.

تمر دقات الساعة الجدارية ذات اللون الأبيض والميلين الأسودين الذين يتوسطا الساعة، وهي تسأل قائلة: "متى ستتوقف تلك الساعة التي تضرب دقاتها قلبي وتؤجج النيران في جوفي، وتمزق أحشائي، وترهق أفكاري، وتشغل عقلي، وتسيطر على أفكاري، وتحطم طموحاتي التي باتت سطورا" تكتب في الجرائد المحلية والمجلات العربية والصحف العالمية بعنوان "أيام الغربة".

انني إنسانة كباقي البشر لدي شعور وأحاسيس تنبض وتنادي بصوت حزين يمر عبر شواطئ البحر يسمعه فنان جالس هناك وبجواره خشبته وفرشاته يلون بها اللوحة الغنية الجديدة التي رسمها عن شعوب العالم، كيف يفكرون ويعملون ويعيشون، يعرف ذلك الفنان الرسام أنهم مجموعة من الناس تفهم معنى الحقوق والواجبات كونهم يعشقون الحياة ويحترمون الحيوانات لأنها جزءا" أساسيا" في الطبيعة، ويجلسون بجوار زوجاتهم يتبادلون الحديث العذب والابتسامة الجميلة ويتذكرون الأيام الخالدة التي قضوها قرب شواطئ الأنهار وفي أكواخ الجبال، وكم كانت تلك الليالي الطويلة الباردة تغمرهم بحنانها وجمالها وسحرها: أنها بلاد الخلد والأزهار والتجدد لا تعرف حزنا" ولا تعبا" ولا إرهاقا"، وإنما تعمل ليلا" ونهارا" في سبيل أنتاج اسر ومجتمع مثقف، يدرك معنى الحرية والاستقلال والاعتماد على الذات في سد الحاجات الأساسية للأسرة أو العائلة.

وذات يوم قررت "فاتن" أن تعيش قرب الماء والعشب حيث توجد الحيوانات البرية والمواشي والبيوت الطينية البسيطة والحياة الهادئة المليئة بالدفء والحنان والمودة والإخلاص والعطف والاحترام المتبادل... لكن بدون مراعاة لمكانة الكائن الحي سوى ما يبذله من جهد وعمل يمثل قيمته وسط الجماعة. حاولت "فاتن" أن تقدم شيئا" للنساء مما تعلمته، لكنها أدركت أن الشيء الأساسي والمهم هو توفير حماية وآمان إلى المواشي لان أعدادها بدأ يتناقص بفعل التغيرات المناخية... وعدد الطيور البرية يقل يوما" بعد يوم دون البحث عن المسببات في ذلك الموضوع. لم تكن "فاتن" ترغب في إعطاء حلول" لتلك الجماعات رغم كونها تدرك بإمكانية تقديم النصح والمشورة لهم، ولكنها تعرف جيدا" أن كلام النساء لا يؤخذ به عندهم...

وفي احد الأيام كانت "فاتن" جالسة لوحدها في احد الغرف الطينية تفكر بطريقة لتكسب ود الناس بها، وفجاءة" وسمعت صوت بكاء متواصل يصدر من غرفة مجاورة لغرفتها، فهرعت "فاتن" مسرعة" نحوه، فإذا بها تجد طفلا" صغيرا "مطروحا" على الأرض يصارع بذراعيه قطعة قماش ابيض اللون محاولا" التخلص منها، وبسرعة توجهت صوب الطفل، فمدت يداها لتضعها أسفل ظهره وتنتشله من باطن الأرض الذي لوثت أرضيته قطعة القماش الأبيض. ابتسمت بوجهه البريء واحتضنته بدفء وحنان صدرها، وانطلقت مسرعة" وهي تقبل بقايا الدموع على خديه المتوردتين... وبعد ثواني عاد الطفل مجددا" يبكي والدموع تخرج كينبوع معلنا" عدم الرغبة بها، كان قلبها يخفق خوفا" وأناملها تداعب شفتاه وجسده الطري. فسارعت "فاتن" نحو الشارع الرئيسي... وعندما وصلت "فاتن" إلى بيتها، سارعت إلى جلب ملابس جديدة للطفل لان البرد كان ينخر عظامه...

قررت "فاتن" أن تتبنى الطفل وأسمته "العصفور الجريح" كونه يشبه بجماله وبرأته عصفورا" جريحا" مرمي على الأرض ينتظر الفرج من الآخرين لينقضوا حياته... وبدأت ترعاه بصورة جيدة، وبعد مرور عدة سنوات كبر "العصفور الجريح"، وأصبح رجلا" يمكن الاعتماد عليه. وذات يوم، سأل "العصفور الجريح" والدته "فاتن" عن صفات والده وبماذا كان يمتاز، فردت عليه بصوت عالي قائلة: "لا يملك والدك صفة جيدة، فلا يتحدث معي بهذا الأمر ثانية"..." أحس "العصفور الجريح" أن ثمة موضوعا" غريبا" لا يمكن فهمه، فقرر عدم فتح الموضوع ثانية" مع والدته لأنه لا يريد إزعاجها، وربما كان والدي قاسيا" معها فتركها وحيدة تتحمل عبء التربية والحياة.

وذات يوم اتخذ "العصفور الجريح" قرارا" بالزواج من فتاة جميلة ووسيمة التقى بها في بستان "الفجر الجميل" الذي كان يمثل مكانا" جميلا" تلتقي به المواشي والحيوانات البرية والطيور، وعندما تحدث بالموضوع مع والدته "فاتن" صرخت بوجهه صرخة قوية معلنة" رفضها الكامل لهذه الفكرة، وأخبرته بأنها ستجد له أجمل منها. وعند لقائه الفتاة اخبرها بأنه لا يفكر بالزواج في الوقت الحاضر وان لده مشروعا" كبيرا" يحتاج منه بذل الجهود والوقت لإكماله. كان "العصفور الجريح" يحب الطيور البرية ويراقبها عن بعد، ويعرف أوقات التزاوج الفصول التي تهاجر بها تاركة" ورائها بيوتا" مهجورة وفارغة في أعالي أغصان الأشجار وعلى جدران المنازل العالية: هي بيوت متواضعة وبسيطة وغالبا" ما تكون مؤقتة. يدرك "العصفور الجريح" أن الطيور عندما تكبر تحلق في السماء بألوانها الخلابة وصوتها العذب الذي يسكن الجراح ويهدئ الأعصاب، لكنه نظر فأدرك انه بحاجة إلى وطن خاص به ليمكنه من تحديد مصيره رغم الصعاب التي يمر بها هو ووالدته "فاتن".

تنهد "العصفور الجريح" باضطراب وانفعال شديدين مدركا" عدم قدرته على ايجاد وطن خاص به ليتزوج دون علم والدته. فتذكر ان هنالك لوحة جميلة ولطيفة في داخلها منزل صغير بجواره بستان مليء بالمواشي والحيوانات البرية، وطيور تلاعب بمناقيرها ارض البستان والبعض الأخر يغازل بأقدامه أغصان الأشجار، فأدرك أن المنظر الطبيعي يوحي له تلك الفتاة الجميلة التي أحبها ومازال يحبها بشغف وشوق كبيرين، كانت الفتاة جذابة وجميلة للغاية، ويبدو أن اللوحة عائدة إلى الرسام رامبراندت!

ساعد "العصفور الجريح" الفتاة على خلع معطفها، وعيناه لا تخفيان نظرة الاستحسان التي شمل بها قميصها الحريري الذهبي اللون، وتنورتها الواسعة. وعلى غفلة وتطفل منه، أدرك أن الساعة دقت الثالثة ليلا"، وشعر بأن عجلة الحياة تمر بسرعة فائقة، وعض على شفتيه وهو ينظر إلى اللوحة التي كانت بيده.

وتورد وجهه لاطراد ذلك، إلى حد لم يعلم رامبراندت بمثله. وقال وهو يخفي ارتباكه: "أنكم، يا أبناء المدن، تخشون الكلام."

وكان "العصفور الجريح" على مقربة من غرفة الطعام، فوقف عند عتبة الباب ورفع بصره أليها بهذا السؤال. ولدهشته، رأى مسحة من الآلام تكسو ملامحه للحظة، سرعان ما تلاشت لتحل محلها ابتسامة عريضة، وهو يقول: "ربما كان معك حق، وربما ما كنت طفلا" حقا"..."

أرى انك تتألقين بكل هذه الفتنة. أنني متأكد سيخطف جمالك الأنظار. أن الكآبة احتلت عينيه إلى حد اهتز له قلب صورة مرسومة بأنامل فنان رائع...

وبصرخة عالية من "فاتن" جفل "العصفور الجريح" لينتبه ويرفع رأسه ليرى ماذا تريد منه، وهز رأسه وهو يرمقها بنظرة غريبة؛ ولكنه لم يفهم معنى النداء مما استدعى صوتا" أخرا" تفوق قوته الأول من حيث الارتفاع والطريقة... وبعد دقائق "سألته "فاتن": "إلى أين؟" لكنه لم يجب بل قادها بثبات الى المرآة، وعندما شاهدت انعكاس صورتها على المرآة فهمت وصرخت في أرجاء المنزل مدركة" قصده وهو يقف وأقدامه متجمدة ولا يقوى على الحركة. وتوجه بجسده نحوها ومسك بكتفيها بيديه القويتين لتواجه المرآة مباشرة"، وهو يهمس بإحدى أذنيها قائلا": "هل أنت عمياء يا امرأة، هل عندك عمى الألوان؟"

تخيل أن الفتاة بجواره، وراح يحدثها ويغازلها بجوار المرآة، ولكن بحركة سريعة خلصت "فاتن" كتفيها من قبضة يديه...

لم يتوقف "العصفور الجريح" عن الكلام فأستمر قائلا": "عينين بنعومة المخمل ولون البنفسج، وشعرا" يبدو وكأنه ليرات ذهبية تتساقط في شلال من أشعة الشمس، شعرا" له عبير الأزهار البرية التي تتمايل مع نسائم الصيف."

أراها سرقت عقله، وأسرت قلبه بهذه السهولة": استفهمت "فاتن" بحيرة وحسرة.

رد "العصفور الجريح": "أن الوصول إلى بعضنا البعض ما هي الا مسألة وقت، لا تقلقي..."

أنني لا أنكر أن هناك شيئا" معينا"، بيني وبينك...، أنها مسألة وقت...، لا تقلقي..."

كانت "فاتن" تدرك وتحس بالبرودة الشديدة التي كانت تنخر عظامه...

قال "العصفور الجريح" بلطف: "ربما يبدو المكان هنا موحشا" في ليالي الشتاء الطويلة، ربما كنت تريدين رفيقا" فقط...، وقبل أن تدرك ما الذي كان يفعله، خطر ببالها اليوم الذي وجدته فيه مطروحا" أرضا" لا يجد من يهدئ ويسكن من روعه، وكان يتأملها بنظرات تنم عن السخرية أكثر منها استفزازية وهو يتابع قائلا": "ربما تشعر الأرملة الجميلة بالوحدة والغيرة..."

لاحظت "فاتن" الشحوب يعلو وجهه وتوتر ملامحه، فشعرت بالفزع يتملكها. فذهلت والدموع تتفجر من عيناها... فتراجعت إلى الخلف، ثم قالت بصوت حاولت أن يبدو هادئا": "أن الرجل الذي يتكلم عن الأشياء البغيضة تلميحا" لا يعجبني، فأنا أفضل الحديث المباشر مهما كان فظا"..."

وتأثر "العصفور الجريح" لما سمعه من كلام ومن دون وعي سقطت المرآة من يده اليسرى فتطاير الزجاج على الأرض معلنا" نهاية الحياة للوجه الأخر الذي لازمه طوال فترة حياته الماضية، وإذا "بفاتن" تقول: "جاء مولود جديد لقمر."

فرد عليها "العصفور الجريح" قائلا": "سأذهب لأعيش قرب قلعة عش السنونو في أوكرانيا..."

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/تشرين الأول/2011 - 5/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م