الأردوغانية وسقف التوقعات الأخلاقية المرتفع

لطيف القصاب/مركز المستقبل للدراسات والبحوث

تجربة الحكم التركية في ظل زعامة رجب طيب اردوغان تثير علامات الإعجاب والتقدير بقدر ما تثيره من علامات التعجب والاستفهام، وموضع الإعجاب يكمن في أن حزبا يشاع أن له جذورا دينية إسلامية هو حزب العدالة والتنمية استطاع أن يحوز على رصيد جماهيري مكّنه من تسلم مقاليد الأمور على حين غرة من الزمان في دولة تشهد مؤسساتها الرسمية منذ قرن تقريبا خصومة شرسة ضد الأديان بدعوى العلمانية.

إن من جملة ما يضيف نقاطا مهمة في سجل النجاحات التي حققها فريق حزب العدالة والتنمية الحاكم أو العثمانيون الجدد على حد تعبير احد زعماء الحزب البارزين وهو احمد داود أوغلو هي قدرة هذا الفريق على صناعة حكومة خدمات على الصعيد السياسي الداخلي، بما تتضمنه من تحجيم لمظاهر الفساد المالي والإداري ونزول المسؤولين الى الشارع وإشراك شرائح المجتمع في العمل الطوعي، مثلما بدا هذا الأمر واضحا في شخصية رئيس الوزراء الحالي وعمدة اسطنبول السابق رجب طيب اوردغان.

 ومن موارد الدهاء السياسي لهذا الحزب هو مقدرة زعمائه على حشد التعاطف الشعبي المتزايد واستغلال أخطاء الخصوم السياسيين باحتراف يُحسدون عليه. فقد استفاد الناشطون في هذا الحزب مثلا من جو الشائعات التي صورت حزبهم بشكل من يسعى لأسلمة الدولة التركية فلم تأكل تعهدات أقطابه البارزين بحماية العلمانية الاتاتوركية من جرف شعبيتهم بين أنصارهم، على الرغم من خطورة تلك التعهدات واحتمال اشتمالها على ضمانات قانونية صارمة.

أما مكمن التعجب من تجربة الحكم الاوردغانية فيتجلى في أن ممارسات العسكر التركي التي تجعل من عناصر حزب العمال الكردستاني عرضة للقتل والتشريد وامتهان الحقوق والحريات داخل وخارج تركيا ما تزال تحظى بمباركة وتأييد ودعم حكومة اوردغان بنفس القدر الذي كانت عليه أيام أتاتورك ومن جاء بعده من رؤساء الحكومات التركية المتعاقبة.

هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي فسياسة تصفير المشاكل مع الجيران التي يروج لها الساسة الأتراك أين ما حلّوا وارتحلوا يمكن أن تُتَلمس - ولحسابات نفعية بحتة - في نطاق المشاكل التركية مع الدول الأوربية المسيحية المحاذية لها جغرافيا، والى حد ما في إطار العلاقات التركية الإيرانية، لكن هذه السياسة ليس لها من اثر يُذكر في نطاق العلاقات التي تربط تركيا بجارتيها العربيتين المسلمتين سوريا والعراق. إذ ما برحت معضلة المياه الناشئة من سياسات تركيا المائية الجائرة تلحق ضررا فادحا في اقتصاديات هذين البلدين لاسيما العراق الذي تحول بسبب حبس حصصه المعتادة من مياه دجلة والفرات إلى مستجد لمياه هذين النهرين اللذين دأبا على الفيضان في داخل وديانه عبر آلاف السنين.

إلى جانب أن تركيا لم تبلور لها دورا داعما في الاستقرار السياسي لهذين البلدين. فالعراق المبتلى بداء (الفوضى الخلاقة) لم يستشعر يدا تركية بيضاء تسهم في وضعه على بوصلة الأمن والاستقرار، وغاية ما انهمك فيه الساسة الأتراك منذ ثماني سنوات هو عقد الصفقات المليارية التي تعود بالنفع على ماكنتهم الصناعية والزراعية بالقدر الذي تسهم في وأد ما تبقى من أوردة الصناعة والزراعة العراقيتين، ناهيك عن استباحة الحدود العراقية كل حين وقصف القرى الآهلة بالسكان بدعوى ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني.

أما موقف تركيا من سوريا فيشابه إلى حد بعيد تربص المفترس المتحين لساعة الانقضاض على فريسته حين تصل إلى اضعف حالاتها.

إن الذي يتمعن في قراءة ما كتبه احمد داود أوغلو في كتابه (العمق الاستراتيجي) الذي أضحى كما يبدو دستور السياسة التركية الخارجية يلاحظ بشكل لا لبس فيه مدى الحنين التركي للعثمانية البائدة، ليس الحنين إلى نظام السلطنة السياسي بشكله الإداري القديم، ولكن الحنين إلى ذلك النفوذ العثماني الذي يتذكره احمد داود أوغلو بعبارات الفجيعة كلما ذكر قصة انزواء سياسة بلاده الخارجية داخل حدودها الجغرافية وعجزها عن خلق الفرصة في الدخول على خط غنائم الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الظفر بحصة لذيذة من مقدرات البلدان العربية النفطية أسوة ببريطانيا وفرنسا.

 ولا يثني أوغلوا على سياسة بلاده الخارجية خلال عقود متطاولة إلا في حالة نادرة تتمثل باستيلاء الجيش التركي بالقوة على لواء الاسكندرونة السوري!

إن خلفية رجب طيب اردوغان الدينية وبعض رموز هذا الحزب لا تعد في المنطق السياسي دليلا على كون هؤلاء دعاة يقومون بتوزيع المبرات على من حولهم من دون مقابل فلطالما أبان الواقع سقوط المتبنيات الدينية لحامليها حينما انخرط هؤلاء في أحابيل السياسة لاسيما الخارجية منها إذ إن مزج الأخلاق بالسياسة (الخولقة) على هذا المستوى كما يبدو ما يزال لسوء حظ الإنسانية حلما بعيد المنال.

إن حزب العدالة والتنمية إذا كان قد ساعد إلى حد كبير في أن يكون للإسلام السياسي حيز مهم من كعكة السلطة والمال داخل تركيا التي كانت وما تزال علمانية حد النخاع فان هذا الحزب لم يتجاوز في علاقاته مع اقرب جيرانه حدود الظاهرة الدعائية المغلفة بغلالة أخلاقية باهتة. إذ ان إحياء العثمنة البالية على الصعيد الخارجي هو ديدن الساسة الترك الحاليين لا إحياء الإسلام بمعناه الأخلاقي كما يتوهم المتوهمون، وان الخطابات الوعظية التركية التي يلقي بها رجب طيب أردوغان في بعض المحافل الداخلية والخارجية هي مجرد أساليب للظهور بمظهر الزاهد لا المفترس.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 14/أيلول/2011 - 15/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م