التشيع الطنجي في " البحر العميق"

ياسر الحراق الحسني

تطنيج الحقل الشيعي

يروي جمع من المحسوبين على مثقفي الحقل الديني بأسانيد عن فقهاء ووافدين جدد لم يدخلوا ذاكرة مدينة طنجة الجماعية بعد.. يحدثون عن تاريخ الثقافة الدينية فيها وكأن لهم قدم سبق ولسان صدق مثلهم كمثل المنغمس الذي يحسب نفسه مبحراً أو المستقفز المحدث عن تجربته طائراً. قالوا وكثر ما قالوا حتى أنكروا وجود شاطئ "الحافة" و"بوقنادل" بعد عشية امضوها في مقهى "با محمد" المعروف بمقهى الحافة وقالوا أنهم لم يروا من هذا المكان المطل على الساحل سوى طريقاً سياراً...

نفس هؤلاء أنكروا وجود ثقافة التشيع في طنجة بعد عشية أخرى قضوها في المسجد السعودي الكاسباراطي. فألزمونا بتطنيجهم واخبارهم بأننا لا زلنا نحتفظ بصور أحجار "الشنيقب" وإن لم يعد له وجود وأن الطريق السيار الجديد لا يمحي تاريخ الحافة العظمى.. كما أن سعودة الثقافة الدينية في طنجة شأنها شأن الطريق الجديد في حداثة العهد. ومهما تسعود الناس فهذا لن يمحي من ذاكرتنا أجداداً اعلنوا البراءة من مجرمي التاريخ الإسلامي الذين يمجدهم فنانو النقل الأعور.

قالوا اننا نستورد التشيع مع الفستق الإيراني وهل مثل هذا يقال لعقب من ذابت قلوبهم في حب أهل البيت منذ زمن إيران ما قبل الشهادة الثالثة! ولو قال الإيرانيون اننا ارسلنا لهم التشيع من المغرب لكان ذلك أقرب للتصديق. لم يجيبونا عن عدد براميل الوهابية التي دخلت إلى البلاد حتى أثرت على صفاء الجو ونقاء الماء.. قالوا أننا في شمال المغرب نستقدم التشيع في كراريس عمالنا في الخارج تجرها سياراتهم من أوروبا إلى المغرب في فترات الصيف كي يتلاقح في الحقل الديني. فكان لا بد من إخراج دلائل الرافضية في حقبة الإستعمار حيث لا عمال لنا في الخارج، أملاً أن تتمكن آلات الفكر عند فلاحي الحقل الديني من الرجوع إلى الوراء بضعة عشرات السنين بعد ما تيقنا أن هذه الآلات الفكرية لفلاحي الحقل الديني لا تسمح لها محركاتها المقتاتة على بترول الخليج بالرجوع إلى الوراء مئات السنين لتسمعنا شهادة المولى إدريس على أصدقاء مالك من حكام بني العباس.

 إذا كان لا بد من إثبات التشيع الطنجي في القرن العشرين قبل ثورة إيران وقبل ظاهرة "عمالنا بالخارج" فهذا ما قاله العلامة الفهامة أحمد بن الصديق الغماري مقتطف من كتاب :"البحر العميق" في السطور التالية. كتاب أغاظ الإبنتيميين المغاربة من أعلام النقل الأعور لدرجة تأليفهم مؤلفات معظمها انتهت عند " مول الزريع " (بائع الفواكه الجافة).. كتب تسب وتشتم السيد بن الصديق مثل كراسة صحيفة البوائق لبو خبزة التطواني الذي ينادي فيها أبا الفيض بن الصديق بأبي البيض بن الصديق لما قلت عنده الحيلة والحياء ولم يبق في وجهه ماء.

كلاسيكيات رافضية

فاطمة الزهراء أفضل من الأنبياء

ما أكثر الأشياء المقلوبة في هذه الأيام. يقولون لنا في شمال المغرب أن بعض الفرق الإسلامية تفضل أهل البيت فوق الأنبياء والرسل وينعتونها بالغلو وهم يظنون اننا سنصدم من ذلك. هؤلاء لا يعلمون أن أبناء الثرات الغماري والدرقاوي يصدمون فعلاً، ولكن يصدمون من كون بعض هذه الفرق تفضل أهل البيت على الأنبياء والرسل فقط لأن الناس قد ورثوا من أمثال السيد أحمد بن الصديق تفضيل أهل البيت على الخلائق أجمعين بمن فيهم من الملائكة المقربين. لوقلنا عجباً إذاً من المفضلين المقصرين في التفضيل فماذا نقول لمن ينكر الفضل والتفضيل من أساسه ؟ جاء في كتاب " البحر العميق" (ص 117) قول أحمد بن الصديق أن أفضل الخلق عند الله بعد رسول الله فاطمة الزهراء ثم الحسنان والإمام علي.

هذه عقيدة موروثة من جملة الخصوصيات المغربية لم يكتف الإبنتيميون الجدد بمحاربتها بل نسبوها إلى أوروبا تارةً وإلى إيران تارة أخرى. ومع ثبوت إنتشار هذه العقيدة في حقبة كان أحد القائلين بها يشرف على أفواج مقاومة الإستعمار الإسباني، ترى جلياً أن الدخلاء هم المتمسلفة، ويا ليتهم دخلوا لنتعايش، وانما دخلوا لإقصاء أهل البلاد الأقحاح الذين يأبون إستبدال الرافضية بالجاهلية ولا يرضون أن يكونوا من حزب أبي سفيان كان تطوانياً أم مراكشياً أم من المستطنجين الجدد.

أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر

النورانية والأشرفية عقيدة راسخة في قلوب الناس منذ قدوم المولى إدريس وإلى الآن. تجدها في البحر الثقافي الطنجي الذي يكذب دعاة فنون الغطس في التاريخ. عقيدة لا يعانقها حتى ربابنة التبحر اللبنانيين والإيرانيين الذين حاول فقهاء السندبادية في المغرب ربط التشيع الطنجي بهم في أبشع مناظر المكر السياسوي.

ينقل كتاب البحر العميق (ص 73) أن العلامة أحمد بن الصديق كان متمسكاً بالدفاع عن حديث : "أول من خلق الله نور نبيك ياجابر". ولو كان حياً اليوم لوجدته في صدارة المواجهين لنظريات المساومة العقادية التي يفرضها المناخ السياسي تحت عناوين تقريبية ووحدوية وما أشبه. أليس في عالم التشيع اليوم من قال أن حديث النور ليس من ضروريات العقيدة في شيء؟ أو لم يتهموا من قال بهذا الحديث من أعلام كإبن الصديق المذكور والشيرازي المجدد أنهم يحاولون إعطاء النبي صورة غير عادية ليوحوا أنه مخلوق فوقبشري؟ ثم إذا كان القائلون بهذا في لبنان وإيران يصنفون على أنهم ينشرون التشيع في المغرب وطنجة بالخصوص. فهل يعقل القول بأن الناس في طنجة الذين يحملون ثقافة التشيع والرافضية الصافية في طنجة منذ ما قبل وسائل الإعلام الحديثة ينتقلون من تشيع أسمى إلى تشيع أدنى حيث مقامات أهل البيت محل تشكيك؟

 إن مسألة إرتباط الناس -ولسنا بصدد التحدث عن الأعداد بقدر التركيز على إثبات عقائد وإن قل معتنقوها لأسباب ديموغرافية - بضروريات التشيع الأصيل كما هو واضح من كتابات زمن الإستعمار دليل قوي على طيش وجهالة الواصفين لظاهرة إنبعاث ثقافي داخلي على أنه مد خارجي. لا يمكن إنكار أن التشيع الملبنن والمؤيرن - مع وجود الإستثناء طبعاً- يعتبر التشيع الطنجي ضرباً من الغلو كما لا يمكن إنكار حقيقة أن هذا التشيع أرق على تاريخ الصحابة وأشد على فضائل ومناقب أهل البيت. لذلك يرى البعض ولا رأي لمن لا يطاع أن التشيع اليوم يحتاج إلى تطنيج كي يعود إلى رحاب :"أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة"..

ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عن النَّعِيمِ

يذكر كتاب البحر العميق (ص 205) أن السيد بن الصديق كان يرفض تفسير آية:" ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عن النَّعِيمِ" كما يفسرها علماء السنة في كون العباد يسألون عن نعيم الدنيا والصحة والعافية والرخاء. وكان بن الصديق يرى أن الذي يكرم الناس وهو كريم لا يمكن أن يحاسبهم على ما أكرمهم به. وأن للنعيم معنى آخر لا أدري لما لم يذكره المحقق مصطفى صبري في نسخة دار الكتب -لبنان- لأنه كان ناقلاً عن المخطوط. ومن الواضح أن ما عدا التفاسير المشار إليها ليس هناك سوى تفسير النعيم بولاية الإمام علي. وهذا ما تجده في بحار الأنوار (باب أنهم عليهم السلام نعمة الله والولاية شكرها وأنهم فضل الله ورحمته وأن النعيم هو الولاية وبيان عظم النعمة على الخلق بهم عليهم السلام). وفقط هذه النقطة لوحدها تكفي لإستخراج الكثير من معتقدات أخرى، خاصةً إذا ربطنا تفسير النعيم بولاية علي بآيات أخرى مثل : "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " و"يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " وهذا له بحث آخر.

 ففي وقت تلحظ استماتة كبار علماء طنجة في مسألة ولاية علي بالقول بمسؤوليتها يوم الحساب تجد قناصين من منصات التقريب مصوبين نحو الشهادة بولاية علي من أجل اغتيالها في عقر الآذان والإقامة برصاصات البدعية والمفسدية إستجابةً لأكابرهم الذين قالوا أن الشهادة الثالثة مفسدة.. إذن لا يمكن القبول بأن لغير علماء طنجة حظ في نشر التشيع مع كل هذه الشواهد الموروثة.

إبن تيمية الناصبي

ليس غريباً أن تلقى المدرسة الإبنتيمية الغارقة في التطرف رفضاً مشهوداً من علماء ومحدثي طنجة التاريخية، وليس غريباً أن تجد اليوم أصوات مقاومة لهذا النهج الإقصائي في مدينة طنجة المتروبولية الجديدة. فإبن تيمية أضاف إلى الإسلام مرض التكفير بسبب فهمه الأعوج إعوجاج البالعة للسنارة عند الإصطياد، كلما نثرت السنارة خارج جوفها كلما زادها ذلك إعوجاجاً لا تستقيم وإن مستها نار.. فقديماً حكى عنه الرحالة الطنجي إبن بطوطة في كتاب الرحلة مصيبتين. الأولى نسبته الحركة والإنتقال لله في حديث النزول المزعوم " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة.." والذي شبه فيه النزول بنزوله من المنبر. والثانية طبيعة عنفه وتناغمه مع الإرهاب لما حضر جمعاً من المصلين ورآهم ينزلون بالضرب المبرح على شيخ متقدم في السن خالفه عقيدة التجسيم ولم يحرك ساكناً.

 ولكي لا نسرف في تقديم إبن تيمية الحراني نعود إلى كتاب "البحر العميق" لإبن الصديق (ص 136)، لنجد وصفه لإبن تيمية الذي يبحث مريدوه هذه الأيام عن عمق في التاريخ المغربي عامةً والطنجي خاصةً، بأنه مجرم خائن ضال وناصبي. ومن أعظم جرماً ممن سمع بالظلم فبرر له وبالجرم فهلل له. ومهم جداً التدقيق في مسألة ناصبية إبن تيمية التي اثارها بن الصديق لما رآه من مواقفه الهاتكة للأعراف لا برأي سديد أو حبل حجة مديد، وانما تطاولاً لمعاند قاحل اللب دخل من حيث العقلاء يخرجون. فما كان للسائر على درب البراء الصديقي أن يتخذ من مقربة مع الإبنتيميين مهما كان الربح السياسي. وهذا مذهب مسلوك بطنجة منفك عن العجم والإفرنجة فعن أي ايرنة في العقائد يتحدثون؟

فتح الملك العلي

يجدر التساؤل عن أبعاد قيام العلامة أحمد بن الصديق بإفراد كتاب بكامله لتصحيح حديث المدينة الذي روي أن رسول الله قال فيه :" أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها". وهذا الكتاب مشهور عنوانه :"فتح الملك العلي في صحة حديث باب مدينة العلم علي"، نال فيه أمثال بن الجوزي والنووي الحظ الأوفر من الإنتقاد لتضعيفهم هذا الحديث كما فيه إشارات قوية إلى كون كبار المحدثين السنة كالبخاري كانوا يكيلون بمكاييل مختلفة ويتبعون الأهواء ويخطؤون أخطاء جسيمة. وجاء ذكر هذا الكتاب في كتاب " البحر العميق" (ص 71) من باب الإستشهاد على استماتة السيد بن الصديق بصحة هذا الحديث خلافاً للجمهور أو العامة. وإذا اضفنا إلى هذا كونه من أشد المنكرين على حصر الإجتهاد في يد ابي حنيفة ومالك وبن حنبل والشافعي وهذا ما عبر عنه في " البحر العميق" (ص 142) ب " إنتقاد عبادة الأئمة الأربعة"، تكون الصورة الواضحة هي دعوة السيد بن الصديق الصريحة إلى الأخذ عن علي من باب قوله بهذا الحديث، ثم، الأخذ عن أهل البيت من خلال القول بأفضليتهم على العالمين. وهذا ما يعارض الواقع الحديثي السني الذي تجد في صحاحه تهميش رهيب للنقل عن علي، بل تجد الأطنان مما نقل عن مناوئيه ومبغضيه. فلو كان بن الصديق حياً اليوم لما وجدته يروي عن غير نهج البلاغة وما تم نقله عن الصادقين. ولا عجب في كون المناظرين الشيعة اليوم يستشهدون بكتب بن الصديق التي جادت بأغلبها قريحته لما كان يقضي السنتين سجناً من أصل ثلاثة صدرت عن المحكمة الدولية آنذاك بطنجة، بتهمة مقاومة الإستعمار..

في الختام

في "البحر العميق" جواهر لم نقف على استخراجها كلها خوفاً أن يمل القارء بعد كفاية ما تم طرحه إفادةً في المطلب. فهناك مسائل مثل فتوى بن الصديق بإضافة لفظ السيادة لإسم الرسول في الآذان وصيغة تسليمه عليه وآله وقدحه في العدول وغيرها من مظاهر رافضية أصيلة من مميزات الفكر الديني المغربي عامة والطنجي خاصةً. وليس هذا فقط، بل هناك مما سطر علماء آخرون ما يبعث على الإطمئنان التام آن التشيع في طنجة مسألة ثقافة متجددة وليست جديدة. فلا يقول بأجنبية هذه الثقافة إلا فلاحون دخلوا الحقل الديني بخلفيات في الميكانيك، فساروا من شدة ايمانهم بفاعلية البترول يضربون لكل دينامية ثقافية حساباً مخلجناً..

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 2/آب/2011 - 1/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م