حقيقة السلطان الطيب أردوغان

كاظم فنجان الحمامي

لم تكن القفزات النوعية، التي حققها أردوغان عائدة إلى طيبته التي اقتبسها من اسمه، وإنما تعزى إلى ذكائه المفرط في الضحك على ذقون قبائل آخر الزمان من بقايا العرب العاربة والعرب المستعربة، وتعزى أيضاً إلى دهائه وحنكته في استرداد نفوذ الإمبراطورية العثمانية، التي بسطت سلطانها على مدى ستة قرون على الأرض العربية الممتدة من البصرة الفيحاء إلى البصرة الكتان، ومن طرابلس اللبنانية إلى طرابلس الليبية، والتي نهبت ثرواتنا وصادرت حقوقنا باسم الخلافة الإسلامية.

 فجاء السلطان أردوغان ليستعيد أمجاد الباب العالي وغزوات الجيش الانكشاري وراياته الحمر، ويباشر بتنفيذ سلسلة من المشاريع الأناضولية الواسعة في معظم العواصم العربية، وينطلق من جديد في مغامرات التتريك، بأساليب مبتكرة لم تكن تخطر على بال مصطفى أتاتورك، ولا على بال السلطان سليمان القانوني، فتجلبب بجلباب التدين، وتظاهر بالورع والتقوى، ففتح له عرب الألفية الجديدة قلوبهم المطبوعة على براءة الحملان، ومنحوه صلاحيات مطلقة لمراقبتهم ومحاسبتهم، وفوضوه في البت بأموره، وتصحيح مساراته، حتى صار يتعامل مع الملوك والأمراء والرؤساء العرب (في يوم وليلة) بروح استعلائية، وكأنه هو الوصي عليهم، والمسئول عن تصرفاتهم،

فهو الذي يرسم خارطة الطريق لإحلال السلام في ليبي، ويعطي الضمانات لمغادرة القذافي وعائلته خارج حدوده، وتصدرت أخباره العناوين الرئيسة للصحف العربية في اليمن وتونس والجزائر والكويت وجزر القمر، وانجرفت بعض التيارات المتأسلمة مع الظاهرة العثمانية الأردوغانية، وصار أردوغان هو المثل الأعلى في التطلعات السياسة المستقبلية لبعض الكيانات العربية، فقال المصريون: أن مرشحهم (عبد المنعم أبو الفتوح) هو أردوغان مصر، وقال فريق آخر: ان الداعية (عمرو خالد) هو أردوغان العصر، وقال اليمنيون: ان الشيخ (حميد الأحمر) هو أردوغان اليمن من دون منازع، ثم سمعنا بالمظاهرات العربية التي انطلقت في الساحات العامة للتعبير عن الأفراح الغامرة بفوز المرشح الأسطوري المتدين أردوغان، وهي تنادي: (فاز فاز أردوغان موتي قهر يا إيران)،

وكأنهم عادوا من جديد للانبطاح، واقتنعوا بالرضوخ والإذعان لسلطان الأستانة بمحض إرادتهم، بعد أن يأسوا من عودة أحفاد (سيف بن ذي يزن)، وأبناء (معد بن يكرب الزبيدي) من عالم الأموات. ومضى أردوغان في طريقه نحو ترميم أركان دولة (الرجل المريض) على حساب الأقطار العربية، وبدعم مطلق منه، ولم يعترض عليه احد، حتى عندما وصل به الغرور إلى قطع شرايين دجلة والفرات، وتنفيذ المشاريع الكارثية الجبارة، التي ستؤدي إلى زوال هذين النهرين العظيمين من خارطة العراق، فالمصلحة الإمبراطورية العثمانية العليا تقضي بوجوب إعطاء الأولوية الأولى للمشاريع الاروائية التركية، التي يجري تنفيذها الآن بتقنيات ومهارات إسرائيلية، وبتمويل سخي من بنوك (تل أبيب)، مقابل تحويل مجرى الفرات إلى صحراء النقب عن طريق البحر، الأمر الذي دفع الشركات الأوربية إلى إبداء رأيها المعارض لتلك المشاريع، التي تستهدف إيذاء العراق، فرفضت الاشتراك في هذه الكارثة البيئية، وأعلنت انسحابها تحت ضغط المؤسسات الإنسانية العالمية، في حين لم تعترض الأقطار العربية على برامج السلطان أردوغان، الذي تمادى في غيه، ولم يرع حقوق الجوار مع العراق، بل أن العراق نفسه لم يعترض رسمي، ولم يحتج على الأتراك في المحافل الدولية، وبات من المؤكد أن تركيا ستواصل تنفيذ مشاريع (الغاب)، وستشيد (22) سدا عملاقا على نهري دجلة والفرات بدعم إسرائيلي وتأييد عربي.

 ثم راح أردوغان يصعّد من لهجته الإعلامية المتشنجة ضد سوري، التي فتحت له بوابات التعاون العربي، والتي ابتسمت له عندما عبس بوجهه الاتحاد الأوربي، ثم عاد ليتخذ المواقف نفسها في التعامل الجاف مع زعماء الأقطار العربية الآيلة للزوال، فاختار يوم الخميس موعداً أسبوعيا ثابتا لإطلاق خطاباته التحريضية الموجهة حصريا للشعوب العربية الهائجة، التي ستخرج في اليوم التالي في الساحات العامة، مع الأخذ بعين الاعتبار ان خطاباته الرنانة لا تشمل دول مجلس التعاون الخليجي المعصومة من الخلل والزلل، والتي ماانفكت فضائياتها توحي للناس بسمو الخصال الإنسانية الرائعة، التي يتمتع بها هذا السلطان المسلم المؤيد بالنصر المؤزر، وتوحي لهم بحرصه الشديد على مساندة الشعوب الثائرة في البلدان العربية، وهو الذي قاد اعنف الحملات العسكرية في مطاردة الثوار الأكراد في الجبال والوديان، ووصل به العنف إلى وأد انتفاضتهم، وملاحقتهم في عمق الأراضي العراقية بدباباته وطائراته وترسانته الثقيلة، واستمر التغلغل الاقتصادي التركي في المدن العربية على هذه الإيقاعات المتأسلمة، التي أوحت للعرب بوجود خلافات عقيمة بين تركيا وتل أبيب، وعلاقات متوترة مع البيت الأبيض، وكانت في حقيقتها مجرد إيحاءات لا صحة له، يراد منها كسب ثقة العرب، وإبهارهم بالقدرات الاستثنائية، التي يتمتع بها السلطان الجديد، فحضي بالدعم المطلق من الأتراك والعرب في هذه السنوات الخداعات، التي انقلبت فيها في الموازين، وغاب عنها الحس الوطني الصادق، وعاد فيها الناس إلى إبداء الولاءات المطلقة للأصنام البديلة المبتكرة، وتراجعت عقارب التاريخ إلى الوراء لتقف عند أعتاب الباب العالي، وتسمح للسلطان الجديد بقيادة الشرق الأوسط سياسي، في الزمن الذي تحولت فيه الجيوش العربية إلى وحدات رمزية يستعرضها القادة العرب في المناسبات، ويستخدمونها حصريا للتبختر في مواكبهم الرئاسية والأميرية، ويلجئوا إليها عند الضرورة في المناوشات بين بعضهم البعض؟.

أردنا من خلال هذا الموضوع أن نزيل الغشاوة الضبابية، التي تخفي الحقيقة عن عامة الناس، ونسلط الأضواء على المخططات السياسية الخبيثة، ونكشف الملابسات التي رافقت التطلعات الأناضولية الأردوغانية، والتي يمكن إدراكها واكتشافها من دون عناء، بمجرد طرح الأسئلة الآتية، من مثل: هل يستطيع أردوغان اعتماد سياسات معادية لإسرائيل ويبقى في الوقت نفسه عضواً في حلف شمال الأطلسي وحليفاً حميماً للبيت الأبيض؟، وهل يستطيع أردوغان أن يطرد القوات الأمريكية من قاعدة أنجرلك التركية؟، وهل يستطيع أن يعمم مبادئه الداعية إلى تحرر الشعوب من قيود الظلم والاستبداد، فيشمل أكراد تركيا بهذه الحقوق، التي يزعم انه آمن بها وناضل من اجلها؟، وهل يستطيع أن يكف عن خططه الرامية إلى تجفيف دجلة والفرات؟، ويأمر الشركات الإسرائيلية المنفذة بالتوقف عن بناء سلسلة السدود الكثيرة (22 سداً) جنوب شرق هضبة الأناضول؟.

ختاما نقول للسلطان أردوغان أن التاريخ لن ينسى عنجهية أجدادك في الأستانة، ولن ينسى جرائمهم التي ارتكبوها باسم الإسلام في الفترة المظلمة، التي أطفأ نورها رجال الجيش الانكشاري، عندما أشاعوا الطائفية والعشائرية والمذهبية، وقتلوا أهلنا في غزواتهم التوسعية المجنونة، فكانت مرحلة حكمهم من أقبح المراحل، وأكثرها انحطاطا في تاريخ العرب، فلا تتعب نفسك في استعادة عهد الإمبراطورية التركية السادسة بعد العثمانيين والسلاجقة وسلاطين دولة الخروف الأبيض والخروف الأسود والمماليك، الذين اشتركوا جميعهم في تهديم صروح الحضارة العربية في بغداد والشام والقاهرة ومراكش، وحرموا العرب من فرص التطور والنمو والارتقاء، وضربوا أمثلة سيئة في العصبية القومية المنحازة للعرق الآري والطوراني والمغولي. فلا مكان لك بيننا أيها السلطان المتحذلق، ولن تنطلي علينا الحيل والأكاذيب القديمة الملفقة والمواقف المفبركة، فنحن ننتمي إلى الأمة التي لا تلدغ من الجحر التركي الأناضولي مرتين...

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 16/تموز/2011 - 14/شعبان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م