إثبات المهدوية قرآنيا

علي حسين كبايسي

إن حديث الثقلين -(إنِّي تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي ؛ أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتَّى يردا علَيَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (أخرجه بهذا اللفظ التِّرمذي في سُننه: (5 / 329) , (إنِّي تارك فيكم خليفتين: كتابَ الله عزَّ وجلَّ، حبلٌ ممدود ما بين السماء والأرض، أو ما بين السماء إلى الأرض، وعترتي أهلَ بيتي، وإنَّهما لَن يتفَرَّقا حتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوض)، أخرجه بهذا اللفظ أحمد بن حنبل في المسند: (5 / 181 - 182، 189) -، و أحاديث الإثنى عشر خليفة وأميرًا - في صحيح مسلم: (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعًا إلى اثني عشر خليفة)، وفي مسند أحمد: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلُّهم من قريش) - متواترة عند كل من الفريقين تجعل المهدي من المسلمات التي لا تدع للشك سبيلا، ولكن الإسلام السٌلطوي يرى في حديث مكذوب عن الصعلوك معاوية حجة دامغة، و تكفي السنة دليلا ولو كان الحديث آحاد ظني و مكذوب، ولا معنى للسنة النبوية الشريفة إن كان الأمر يتعلق بأهل البيت عليهم السلام، ويصبح "حسبنا كتاب الله" القاعدة في الحجة { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [المائدة: 104]، فادعاؤهم بالعودة إلى القرآن كادعاء معاوية في صفين، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [الفرقان: 30]، قَوْمِي ليس قوم دون قوم والمجال مفتوح زمانيا ومكانيا، ولذا سيكون بحثنا مبنيا على القرآن العظيم { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24]، والإستدلال العقلائي، وتوظيف البحث الروائي كقرائن داعمة للحجة، مع مراعاة عدم التناقض بين النتائج و المقدمات.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (259) سورة البقرة، أول ما نستشفه من الآية المباركة الأدب الرباني مع نبيه عزير عليه السلام حيث كٌرِرت كلمة انظر ثلاث مرات، تجنباً للقول: فَأَمَاتَهُ اللّهُ وحماره مِئَةَ عَامٍ، فكرم الله نبيه بعدم عطف حماره عليه، فاستلزم تكرار كلمة انظر إشارةً إلى مادتين عضويتين إحداهما تآكلت و الأخرى لم تسنه في نفس الظرف الزماني و المكاني؟؟ !!، وهذا ما يستدعي أن نطرح التساؤل التالي: هل العقل الإنساني يتقبل ذلك؟؟.

إن الإمكانات التي تقبل التصديق العقلي هي:

1. الإمكان العملي الذي له مصاديق عينية خارجية، أي التطبيقات التكنولوجية البسيطة أو المعقدة في مختلف مجالات العلوم، كصناعة طائرة تفوق سرعتها سرعة الصوت تندرج في الإمكان العملي، و كذلك الصعود إلى القمر.

2. الإمكان العلّمي هي المعارف الفيزيائية، الكيميائية، البيولوجية....، فمثلا صعود الإنسان إلى المريخ ممكن علّميا(1)، ولكن عمليا لم يتحقق بعد، ولذا فدائرة الإمكان العلمي أوسع من دائرة الإمكان العملي، الإمكان العملي يستلزم الإمكان العلّمي، والإستلزام العكسي ليس صحيحا بالضرورة.

3. الإمكان المنطقي عالمه العقل المجرد، و دائرته أوسع من دائرة الإمكان العلمي، وتحصيل حاصل أوسع من دائرة الإمكان العملي، فالعدد الزوجي لا يقبل القسمة على العدد فردي، وهذا عدم الإمكان المنطقي ومنه بالضرورة عدم الإمكان العلّمي والإمكان العملِي، إدخال برميل في كوب غير ممكن علميا، وهذا يرجع إلى قانون المسافة في الفضاء ذي ثلاثة أبعاد، ولكن بإقحام البعد الرابع، وتسارع البرميل بأجزاء متزايدة من سرعة الضوء يجعل ذلك ممكنا منطقيا؟؟!!.

الطعام و الشراب لم يتسنه رغم مرور المئة عام، إمكان علمي وعدم إمكان عملي، وذلك بتوفير شروط عدم الأكسدة، والجراثيم المتلفة للطعام والشراب...، ولكن الإشكال في الثنائية المتناقضة: طعام و شراب لم يتسنه، وحمار تحلل وأصبح عظامًا نخرة و بالية، ومنه للتقريب العقلي و إبطال التناقض نوظف نسبية الزمان(2)، تسهيل للفهم وليس حلا للإشكال، لأن الأمر من باب الاعجاز الرباني.

من منطلق الإيمان بالإعجاز القرآني نتقبل طعام و شراب عزير لم يتسنه، وسيدنا نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [العنكبوت: 14]، وأهل الكهف {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } [الكهف: 25]، وتتقبل { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69]، رغم أن الإعجاز عطل أهم مبادئ الديناميكيا الحرارية وهو إنتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة حتى يتعادلا، إذن: لماذا لا نتقبل حياة المهدي المنتظر، ونردها بالسخرية والإستهجان؟ !، { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]؟؟ !!.

ويقول الله تعالى في كتابه العزيز: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260].

إختتم الله الآية بعَزِيزٌ حَكِيمٌ، عزيز لا يفقد شيئا بزواله، حكيم لا يفعل شيئا إلا من طريقه اللائق به، ولم يقل عزيز قدير، إذن فالمسألة ليست مسالة قدرة، و القدرة من صفات الذات لله تعالى، وحاشا لسيدنا إبراهيم عليه السلام أن يشكك أو يجهل القدرة الإلهية { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى } [طه: 8]، وما العالم إلا تجليات لأسماء الله الحسنى، والحكمة في الآية ليست إحياء الموتى بمعنى المشاهدة الحسية لسيدنا إبراهيم بعودة الحياة بعد فقدها كما حصل لعزير: وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا، لأنه لو كانت القضية كذلك، لأحيا الله أي ميت كان أمام نظر سيدنا إبراهيم عليه السلام، وما قال الله تعالى له: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، ومنه بالنسبة لعزير عليه السلام إراءة القدرة، ليس تشكيكا أو جهلا من عزير في القدرة الإلهية، وإنما أشكل على عزير أمر الإحياء، فكان سؤاله نفساني، وقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ، تبرز غايات أخرى لله تعالى، و أما بالنسبة لسيدنا إبراهيم هو طلب معرفة كيفية إفاضة الله تعالى الحياة على الأموات.

إن الفهم المادي الحسي يستوجب أن الطيور تأتيه في تراكيب مختلفة، لإختلاط أجزائها، ووجود بعض أجزاء كل طير بجبل، والبقية متوزعة على بقية الجبال، ولكن أن ما حدث كل طير لما يدعوه يأتي في صورته كما خلق الله تعالى أول مرة، ومنه يتبين لنا أن سؤال سيدنا إبراهيم عليه السلام، لم يتعلق بعالم الخلق، ولكن بعالم الأمر { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54]، عالم الخلق: عالم السببية، والسنخية، فتتحقق الخلقة في مراحل و أطوار، عالم الأمر: عالم كن فيكون، { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14]، ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ: تَدخلَ عالم الأمر بنفخة الروح (3)،فالغاية الإبراهمية التدرج في المعرفة من علم اليقين إلى عين اليقين وحق اليقين { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75].

من طعام وشراب عزير عليه السلام الذي لم يتسنه إلى إراءة إحياء الموتى لسيدنا إبراهيم عليه السلام، نستخلص إن العلم الحصولي في عالم الملك يتدرج من الإمكانات الثلاث الإمكان العملي والإمكان العلمي والإمكان المنطقي، وانه يوجد علم آخر هو العلم الحضوري في عـالم الملكوت.

{ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [الكهف: 67] آية تحكي لقاء سيدنا موسى عليه السلام، والعبد الصالح الخضر عليه السلام، وحدوث ألا توافق بينهما (4).، فسيدنا موسى يتصرف من منطلق عالم ثلاثي الأبعاد، عالم السببية، و السنخية، صاحب رسالة تشريعية لدى قومه، بينما الخضر عليه السلام يتصرف من منطلق فوق الزمكنة، ومن الابعاد القرآنية يتبين طبيعة حياة المهدي عليه السلام طيلة هذه القرون دون أن يعرف الشيخوخة إلى أ، يعجل الله فرجه، وأ، حياته فوق زمكنية كحياة الخضر عليه السلام.

.................................

(1) هبوط المركبة الفضائية الأمريكية "سبيريت" على المريخ.

(2) نسبية الزمن ومفارقة التوأمين: من نتائج النظرية النسبية الخاصة أن الزمن ليس مطلقا وإنما يعتريه الانكماش باقتراب سرعة مكانه من سرعة الضوء. وبناء على ذلك على سبيل المثال: إذا سافر أحد توأمين في مركبة فضائية بسرعة تقارب سرعة الضوء، فسيكتشف بعد عودته للأرض بعد خمس سنوات بحسب توقيت ساعته، مرور خمسين عاما على توقيت الأرض، أي أنه سيجد أخاه قد كبر خمسين عاما، في حين لم يزد عمره هو سوى خمس سنين... هذه الظاهرة العجيبة هي نتيجة لتباطؤ الزمن بتزايد سرعة مركبة الفضاء (الجملة المرجعية) التي يتم القياس فيها.

(3) يرى صدر المتألهين الشيرازي أن الروح هو حركة جوهرية للمادة.

(4) لتقريب الفكرة نعطي المثال التالي: البناءات الرياضية المنطلقة من مسلمة إقليدس تبقى صحيحة في الهندسة الإقليدية، و المنطلقة من مسلمة ريمان تبقى صحيحة في الهندسة الريمانية، والتداخل بينهما يحدث اللا توافق، وهذا لا يعني منقصة لسيدنا موسى{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [الأعراف: 145]، مِن تبعيضية، على خلاف الخاتم عليه وعلى آله الصلاة والسلام { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 89].

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 16/تموز/2011 - 14/شعبان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م