احتجاجات السعودية وخسارة الملك

د. مضاوي الرشيد

تشهد السعودية احتجاجات متفرقة منها التجمهر عند مدخل الوزارات وخاصة العمل والتربية مطالبة بتوفير الوظائف او تثبيت المعلمين والمعلمات او المطالبة بتعجيل صرف المعونات وجاءت حملة قيادة السيارة كجزء من حالة الحراك التي ازدادت وتيرتها بعد الربيع العربي.

ويمكن ان نقسم هذه التجمعات الى قسمين. القسم الاول يشكل تحديا سافرا للنظام وطعنا في شرعية سياسته الداخلية. ومن هذه المظاهرات التي تحصل في المنطقة الشرقية حيث يشترك النساء والرجال في المسيرات المطالبة بحقوق تتعلق بالمساواة والعدالة خاصة للطائفة الشيعية وتطرح موضوع المساجين السياسيين وحريتهم ومقابل هذه المظاهرات السلمية نجد ان لها مثيلا في الرياض حيث تمت احتجاجات تطالب بالافراج عن المساجين السياسيين خاصة اولئك الذين يقبعون في الزنزانات منذ فترة طويلة. نجد ان مثل هذه المظاهرات تواجه بالقمع المباشر فيعتقل القائمون عليها من الناشطين الحقوقيين والفعاليات المطالبة بحقوق الانسان والحريات المدنية والسياسية.

فكما ان مسيرات المنطقة الشرقية تواجه القمع المباشر نجد ان احتجاجات اهالي المعتقلين في الرياض تلقى نفس المعاملة فيقتنص النظام الافراد الذين يقفون خلف هذه المظاهرات تماما كما حصل لمحمد ابجادي الناشط في مجال المساجين والحقوق الانسانية. تعتبر هذه التجمعات تحديا لسلطة النظام وخاصة اجهزته القمعية المرتبطة اما بفرعها في المنطقة الشرقية او في مركزها الرئيسي في الرياض لذلك لا تتقبل الدولة مثل هذا الحراك السلمي الذي يكشف تعسفها واستهتارها بأبسط حقوق الانسان وحريته الفكرية.

وقد اثبت النظام ان لا طائفة له حيث انه مستعد لان يقمع الجميع ان هم تجمهروا وفضحوا ممارساته التعسفية حيث تصبح المطالبة بحقوق المساجين اكبر تحد لنظام يحاول ان يقنع مجتمعه والعالم الخارجي انه النظام الابوي المعطاء الكريم والذي يتصدق على اهل بيته بين الحين والحين ولكنه صارم مع اولاده المتمردين على سلطته الابوية. وليس من حق الابناء ان يأخذوا منه حقه الالهي في تأديب المتمردين المختلفين الذين لا يشاطرونه قناعاته وأساليبه التأديبية المعروفة. وقد يرفضون ان يبيعوا ضمائرهم وقرارهم مقابل بعض المكارم والاتاوات ويصادروا حقهم طوعيا ويحتجوا على السلطة الابوية المتمرسة في فنون الامر والطاعة المطلقة.

لذلك يسرع النظام السعودي الى قمع مثل هذه الاحتجاجات والتي تنزع الحجاب عن ممارسات التأديب والحجب على الفكر والحرية. ويحاول النظام جاهدا ان يعزل المطالبة بحقوق المساجين الشيعة عن نظيرتها في المحيط السني وبذلك يتم تطييف القضية ليقطع الفرصة على بروز تيار موحد يعتبر السجين سجينا وليس طائفة وفرقة. وهو بذلك يجزئ قضية المساجين وكذلك التجمهرات التي تطالب بحقوقهم والافراج عنهم. والنظام بذلك يحاول تقويض اي محاولة لجمع الشمل وتبلور تيار وطني يطالب بحقوق المساجين مهما اختلفت طوائفهم واتجاهاتهم الفكرية وحتى الدينية.

 والنظام اليوم اصبح باستطاعته ان يفرز الاتجاهات التحررية في الجزيرة العربية ويصنفها طائفيا حتى يقطع الطريق على نشوء وتبلور حركة وطنية تطالب بحقوق الانسان المدنية والسياسية ليسهل عليه اقتناصها وخنقها قبل ان تتبلور ويشتد ساعدها وتحول تجمهراتها الحالية الى مشروع وطني اكبر بكثير من قضية المساجين.

وان كان النظام قد استطاع ان يقمع بطريقة منظمة مثل هذه الاحتجاجات الا انه يظل يلتزم الصمت على نوع آخر من التجمهرات. احتجاجات السعودية المطالبة بلقمة العيش عن طريق التوظيف والتثبيت في الوظيفة تعتبر تجمهرات غير خطرة على النظام لذلك هو يسمح بها ويغض الطرف عنها. فقد رأينا تجمهرات طلابية ونسائية ترفع شعارات تؤيد رؤوس النظام وتكيل لهم المديح والثناء وتطالب موظفي الدولة الصغار باحترام الاوامر الملكية كتلك التي تعجل بتوظيف خريجي الجامعات او تثبيت المعلمات بعد سنوات من العمل في التدريس. وان كانت المظاهرات المناصرة للمساجين السياسيين تفضح زيف النظام وتعسفه، نجد ان هذا النوع الاخر من الاحتجاجات يحاول ان يثبت صورة الاب المعطاء الذي يصدر الاوامر والوعود وينمي ثقافة الامل والوهم. ولكن هناك بعض العقبات في وجه تنفيذ الاوامر والتوصيات من قبل القائمين على اجهزة الدولة كالموظف البسيط والمدير الفرعي لجهاز من اجهزة الدولة، فتأتي هذه التجمهرات كتكريس لثقافة الدولة الاب صاحب النظرة الثاقبة والكرم الطائي.

وتكمن العقدة في اولئك القائمين على تنفيذ الاوامر الملكية وتعطيلها او عدم الالتزام بها. فالاب المعصوم يصطدم بارادة الموظف البسيط المتجاهل للحكمة الابوية واوامرها. ويبقى رأس الهرم بينما تتهاوى الرؤوس الصغيرة التي تدير امور البيت السعودي فان فسدت الامور فهذا من عمل ذلك الموظف البسيط وان تعطلت فرص التوظيف فلأن ذلك المدير قد تجاهل الاوامر العليا وحكمتها وان تباطأ في صرف مكرمة ملكية فلانه بليد يتجاهل اوامر سيده ويعطل حكمته الازلية. فيخرج الطلاب والنساء والباحثون عن وظائف بشعاراتهم الموالية المؤلهة لرؤوس النظام بينما يصبون جام غضبهم على ذلك الموظف القابع في مكتبه المبرد غير مكترث بهموم المواطن ومتناسيا لتعاليم الابوة واوامرها الملكية. وفي هذه الحالة تطرح مثل هذه الاحتجاجات المتكررة عدة اسئلة تخص النظام نفسه واساليبه في ادارة الازمة السعودية وتداعياتها الحياتية.

اولا: تبين مثل هذه الاحتجاجات ان الملك يصدر اوامر لا تنفذ وثانيا تفضح مثل هذه الاحتجاجات الارادة الملكية المعلقة حيث ان تكررها يسلط الضوء على ان الملك غير قادر على جعل اوامره قابلة للتنفيذ فهي تبقى حبرا على ورق رغم شعارات التمجيد والمديح التي تستعرض وفي مثل هذه المواقف نجد ان خسارة الملك تكون كبيرة حيث كيف لموظف بسيط او مدير ثانوي في مؤسسة حكومية ان يعطل الارادة الملكية ويتجاهل الاوامر العليا ويبقى في منصبه.

وفي مثل هذه التجمهرات يطلق البعض شعار 'نفذوا أوامره' وهذا من دلالات عدم قدرة السلطة الملكية على تثبيت اوامرها والتي هي مجرد شعارات كبيرة غير قابلة للتنفيذ. وقد اتضح ذلك بشكل مفضوح في موضوع زيادة اعداد الموظفين من خريجي الجامعات حيث فشلت الدولة في تبني سياسة اقتصادية تمتص البطالة رغم الشعار الذي تبنته مخططات الدولة للتنمية خلال السنوات المنصرمة. ورغم هذه المبادرات يظل الاقتصاد اقتصاداً يعتمد على الريع النفطي والاستهلاك وليس الانتاج الذي يوفر الوظائف للشريحة الاكبر في المجتمع السعودي.

 تقف اجهزة الدولة تتفرج على هذه الاحتجاجات المتكررة معجبة بشعارات الثناء والمديح لرؤوس النظام فهي لا تقعمها كما تقمع المظاهرات المطالبة بحقوق اكبر من قضية التوظيف لانها تعتقد ان مثل هذه الاحتجاجات تمتص غضب واحتقان الشارع وتعيد الشرعية للرؤوس الكبيرة التي تبقى معصومة فيتوجه غضب الشارع الى الموظف البسيط المعرقل للمكارم والنعم والمتخاذل في جعلها حقيقة ملموسة على الارض يستفيد منها الابناء الابرار. فيتفرج النظام على هؤلاء الابناء يستجدون العمل على عتبات الوزارات وفي استجدائهم هذا ترتفع اصوات الثناء وتختلط مع تلك التي تنتقد القائمين على تدبير شؤون المنزل كالحاجب مثلاً والذي اصبح يعرقل تفعيل شعارات القيادة ومكارمها. ومؤخراً انضمت النساء الى مثل هذه الاحتجاجات وبدورهن أصبحن يرددن نفس شعارات الرجال ويطالبن بتنفيذ أوامر القيادة العليا وكم من ملاسنة نسائية وتهجم على ذلك الموظف البسيط المتهم بنزاهته وقدرته الادارية قد تمت بين المتظاهرات ومن يجرؤ على مقابلتهن على عتبات الوزارة من المدراء والموظفين.

تعتبر مثل هذه المواجهات حالة تصب في مصلحة النظام وليس المحتجات والمحتجين حيث تظهر القيادة بمظهر العصمة والحكمة بينما يصبح موظف الدولة البسيط مثالاً للتخاذل والبلادة وتمييع القرارات بل حتى تعطيلها. وبذلك يكسب النظام فرصة لتمييع الاحتقان وانحرافه من احتقان ضد القيادة الى آخر يشيطن الجهاز الاداري للدولة ويحمله مسؤولية فشل المكرمات الابوية او تأخرها. لذلك يتبنى النظام الصمت تجاه مثل هذه الاحتجاجات المهدئة والمخدرة للوضع والتي تصرف الاهتمام عن مواضيع تتعلق بقيادة البلد والمرحلة الانتقالية القادمة والتي تنذر بعلامات استفهام كبيرة حول الاب القادم خاصة بعد ان اتضحت الصورة مؤخراً وتبين للمجتمع الداخلي والخارجي ان القيادة قد تتعثر خاصة وانها تمر بمرحلة شيخوخة وضعف حالياً وتكثر التكهنات حول مصير الحكم القادم. فالنظام في هذه المرحلة لا يطيق ولا يتحمل مظاهرات من النوع الاول تكشف سياسة القمع والاقصاء والاعتقال التعسفي ويرتاح لتجمهرات الاستجداء والثناء على عتبات الوزارات. ولكن في الحالتين نعتقد ان الخسارة الاكبر هي من حصة الملك.

* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

صحيفة القدس العربي

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 29/حزيران/2011 - 26/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م