الإمامُ الكَاظِم(ع)... ثَوّرَةُ التَغيير

محمد جواد سُنبَه

أخذت مدرسة أًئِمّة أهل البيت(ع) على عاتقها مهمّة مكافحة الانحرافات العقائديّة، منذ ظهور أوّل ملامح هذه الانحرافات في الأفق الفكري للمجتمع الإسلامي. وشكّلت فتوحات الدّولة الأمويّة ومن ثم العباسيّة، فرصة لتوسع الرقعة الجغرافية لكلا الدّولتين.

وهذا التوسّع حقق انفتاح المسلمين على غيرهم من الأقوام، وكذلك العكس أيضاً، وازداد نشاط التبادل التجاري بين العرب والشعوب الأخرى، فدخلت إلى المجتمع الإسلامي العربي، فلسفات وأفكار تتنافى مع الفلسفة التوحيديّة للدّين الإسلامي وتعاليمه. وليس من المستبعد أنْ يكون حكام تلك الحقبة، يغضّون الطّرف عن انتشار هذه الأفكار، بغية إيجاد تيّارات فكريّة متناحرة في المجتمع، حتى تستطيع السلطة الحاكمة الاستفادة من هذا الوضع، لخدمة مصالحها الخاصّة.

لقد أصبحت فكرة محاربة هذه الأفكار الضّالّة مهمّة رساليّة رفع الإمام محمد الباقر(ع) لواءها. واستمر هذا المشروع مع بقيّة أًئِمّة الهدى(ع) في تحقيق النجاحات المنقطعة النظير، في مواجهة تلك الأفكار المنحرفة. ومثلما هذا المشروع الرّسالي حفظ بيضة الإسلام، كذلك وحّد صفوف الأمّة وعرّفها بأن طمس معالم الإسلام، يعني انفراط عَقّد الأمّة الإسلامية، وتشتتها وحتى ضياعها مستقبلاً.

 لأجل ذلك وغيره، منحت قطاعات كبيرة من الجماهير عظيم الثقة لخط الإمامة المعصومة، كما احتضن الأًئِمّة(ع) تلك الجماهير الغفيرة، و أوقفوا أنفسهم(ع) على تغذيتها بصالح الأفكار والمثل الإسلامية الرفيعة وتوحيد صفوفها. وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ عبد الله بن الحسن، عندما أراد أخذ البيعة لابنه محمد (قبيل أنْ يلي أبو العباس السفاح الأمر)، قال للإمام الصادق(ع): (إعلم فديتك، أنّك إذا أجبتني لم يتخلف عني أحد من أصحابك، ولم يختلف عليّ اثنان من قريش ولا من غيرهم)، وهذا النصّ يبيّن سعة جماهير الأًئِمّة(ع) على أرض الواقع. وسار على هذا النهج بقيّة الأًئِمّة المعصومين(ع)، كلّ حسب متطلبات الظروف الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة المحيطة به. وملأ الإمام موسى بن جعفر(ع) المقطع الحياتي الخاص بمسؤوليّته، كإمام معصوم يمثل منهج الحقّ والوضوح الفكري والتنوّر العقلي، والانفتاح على قيم حدّدتها رسالة الأنبياء الحقّة، وأكّدها الإسلام الحنيف بكل دقّة. فانبرى الإمام الكاظم(ع) للتصدي لأفكار الزرادشتيّة و المزدكيّة و المانويّة و الواقفيّة وجميع الأفكار الإلحاديّة الأخرى.

 لقد كانت حياة الإمام الكاظم(ع) معاصرة لفترة شباب الدّولة العباسيّة، حيث حكم المنصور الدّوانيقي زهاء العشر سنوات، وحكم المهدي عشر سنوات، والهادي سنة واحدة، وهارون خمس عشرة سنة. عاش الإمام موسى بن جعفر(ع) فترة حرجة من فترات التاريخ الإسلامي، التي شابتها الأهواء والانحرافات الكثيرة، واستطاع(ع) بوعيه الرّسالي، أنْ يؤسس منهجاً علمياً فريداً من نوعه، يرتكز على دعامتين؛ الأولى تجريد الفكر الإسلامي عمّا اعتراه من أفكار الحاديّة، وأخرى شاذّة عن جوهر الإسلام المجيد، عن طريق تأسيس منهج علمي رصين يدافع عن قيم العقيدة والتشريع الإسلاميين.

والدعامة الثانية؛ إشاعة روح تقبّل الرأي الآخر، وإخضاعه لمنطق العقل والعلم، لفرز ماهو صالح وتفنيد ماهو طالح من الأفكار والعقائد، مع منح المقابل كلّ الحريّة للإفصاح عن رأيه، تحت مظلة التسامح والاحترام. ونستطيع القول لولا هذه الحكمة المتعالية التي ينفرد بها الانبياء وأوصياؤهم، لما وصلنا من الإسلام شيء يذكر. فالمعصوم يتعايش مع المجتمع عمليّاً، ابتداءً من توضيح معالم الشريعة الغرّاء بكل تفرعاتها وتشعباتها، وانتهاءً بوضع الحلول لمشاكل المجتمع الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة على أسس الحقّ والعدل.

 تلك هي المنطلقات الأساسيّة لبناء حياة الإنسان، و الركيزة الأولى لتأسيس المجتمع الصالح، والقاعدة المهمّة لبناء الأمّة المزدهرة المتآلفة المتعاونة. لقد تحسّس حكام الاستبداد كثيراً من مشاريع الأًئِمّة(ع)، لِمَا كانت تَلقى هذه المشاريع، من إقبال الخاصّة والعامّة عليها. ونلحظ هذا التحسّس من كلام هارون العباسي، حين شاهد الإمام الكاظم(ع) جالساً عند الكعبة المشرفة، فقال للإمام(ع): (أنت الذي يبايعك الناس سراً؟. فقال له الإمام الكاظم(ع): (أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم)(الجسوم: الاجسام).

وعلّم الإمام موسى بن جعفر(ع) أصحابه بأنّ الإنسان صاحب القضية العادلة، لابدّ أنْ يكون له موقف إزاء كلّ ما يجري على الساحة، وبناءً على هذا الموقف، يجب أنْ يتحرك على أرض الواقع، ليقوم بمهمّة تغيير الواقع نحو الأفضل والأحسن، على ضوء مبادئ الإسلام الصحيحة.

فقد قال(ع) لأحد اصحابه:(أبْلِغ خيراً و قل خيراً، ولا تكن إمّعة. قال الرجل: وما الإمّعة؟. قال الإمام(ع): لا تقل أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس، إنّ رسول الله(ص) قال: (يا أيها الناس إنّما هما نجدان، نجد خير ونجد شرّ). فلا يكن نجد الشرّ أحبّ اليك من نجد الخير)(النجد: الطريق). لنلاحظ عمق النصّ(أبلِغ خيراً)، أي ليكن الخير هو رسالتك لتبليغك الآخرين، و أنْ يكن قولك خيراً أيضاً، وهذا تأكيد للحثّ على إتيان العمل الطيّب الصالح. أمّا بقيّة الوصيّة فمعالمها واضحة ومقاصدها بيّنة، أنْ يكون لكلّ إنسان منّا موقف ينبع عن قناعة، ويعبّر عن إيمان وفهم عميق للواقع، حتى يعتقد الإنسان الواعي بكلّ كيانه، أنّه أحد رواد عمليّة الإصلاح والتغيير، وأحد القائمين على مهمّة ردع الظالمين والمستكبرين والمتجبرين والمفسدين.

لقد كان الإمام موسى بن جعفر(ع)، يعبئ جماهيره على أسس الصلابة الثوريّة، التي تستمد معنوياتها وقيمها وقوتها من مبادئ الحقّ، فكان يقول(ع) لأصحابه: (إنّ المؤمن أعزّ من الجبل، الجبل يُسْتَفلّ بالمعاول، والمؤمن لا يُسْتَفلّ دينه بشيء). وقوله(ع):( ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنّة، وفراق الجماعة). إنّ أكبر خطأ يرتكبه الفرد بحق نفسه ومجتمعه، أنْ يكون لا رأي له. هذه الحالة الحياديّة او الضبابيّة العاجزة عن التقييم وفهم الواقع، تجعله يسير عاجلاً او آجلاً، نحو طريق الضياع والتبعيّة بكلّ أنواعها، والسير بطرق التخلف واستقبال إملاءآت الغير والخضوع لها. وبتعبير آخر فقدان الهويّة الفكريّة وضياع الاتجاه الصحيح، في تحديد المواقف للسيّر قدماً على طريق الحريّة والإرادة والتغيير.

وخير مثال أسوقه من صلب الواقع، هو حالة انعدام الرأي العام عند الشعب العراقي في زمن الديمقراطيّة. فانعدام الرأي العام الذي يعبّر عن اجماع الشعب على مجموعة من القضايا الوطنيّة والمصيريّة. وغياب الرأي العام يكون جرّاء انعدام الوعي عند الفرد والجماعة، وعدم التحلي بالمسؤوليّة الوطنية و الانسانيّة و الاخلاقيّة و الرساليّة، كلّ ذلك جعل العراق يسير من سيء إلى أسوأ يوماً بعد يوم. وهذا ما يحذر منه الإمام الكاظم(ع) كما ورد في النصّ أعلاه.

لقد عرفت الجماهير المظلومة المشروع الرّسالي الإصلاحي التغييري للإمام الكاظم(ع)، فهوت إليه قلوب الناس، وضاق صدر الحاكم المستبدّ بوجود الإمام الكاظم(ع) وهو يعلّم أصحابه قيم الإصلاح والتغيير. فأدرك حكام الظلم والاستبداد أنّ وجود الإمام الكاظم(ع) أصبح شوّكة في خاصرة حُكْمهم، ومصدر خطر لسلطانهم، فغيّبوه عن عيون الناس، وعزلوه عن رواده ليطوّقوا تأثيره بين الجماهير المخلصة له. لكنّ قدر الحقّ لا بُدّ أنّ ينتصر، فتذكر مصادر التاريخ أنّ(عيسى بن جعفر) والي البصرة، رفض أمر الحاكم بقتل الإمام الكاظم(ع)، وكذلك الفضل بن الربيع، وتكررت الحالة مع الفضل بن يحيى البرمكي. ولما وجد السلطان أنّ الإمام(ع)، أخذ يؤثّر بأعوانه وأركان سلطته، وأصبحوا يتمردون عليه، أمر مدير شرطة بغداد (سندي بن شاهك) بدسّ السمّ في طعام الإمام(ع)، فقضى عليه السلام مسموماً في الخامس والعشرين من رجب عام ثلاث وثمانين بعد المئة من الهجرة المباركة.

 إنّ صفحة الإمام الكاظم(ع) لم تنطوِ، كما أنّ التأريخ يأبى أنّ يخفيها، لأنها رسالة حقّ تصرخ على مرّ الأيام، بوجه الطغيان والظلم والتعسف.

* كاتب و باحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 29/حزيران/2011 - 26/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م