السعودية: ملكية الامل والوهم

د. مضاوي الرشيد

اذا كانت بعض الدول تقرر سياستها عن طريق آليات مؤسساتية تمثل الارادة الشعبية التي تحسم الخيارات السياسية والجدل وتتبنى خطوات تعكس هذه الارادة الا ان الملكية السعودية تعتاش على بيع الامل لشعبها بكميات كبيرة وهائلة وتنشر الوهم بين اطياف المجتمع حتى اصبحت سياسة الامل والوهم هي سيدة الموقف لتمتص النظرة الواقعية لحال المجتمع وكيفية التعامل معه. وربما تكون هذه السياسة سمة ملازمة للملكيات بصفة عامة والملكية السعودية بصفة خاصة.

والادلة التاريخية تعكس مدى استشراء هذه السياسية وسيطرتها على الفكر الجمعي وهيمنتها على تفكيره حتى اصبحت تلازمه كعلامة فارقة في شخصيته. تعتمد سياسة الامل والوهم على مركزية القرار الملكي والذي ان لم يكن على نفس المستوى من القرار الالهي الا انه قد يتطور ويصبح اعلى منه شأنا واكثر سيطرة وقدرة على التغيير. يعتبر هذا القرار هو الاول والاخير في مسيرة التغيير الحياتية والسياسية والاقتصادية. فاي حالة ركود تخضع لحراك القرار الملكي وينتظر المجتمع بفارغ الصبر والامل على ان يبزغ نجم القرار ليحسم جدلا ما او يعزل مجموعة ما او يرفع من شأن اخرى او يبدأ مبادرة حقيقية او وهمية.

 وبما ان الملوك يخضعون لقانون الحياة والموت نجد ان سياسة الامل والوهم هي ايضا تموت وتحيا فيعيش المجتمع حالة تأهب وانتظار خاصة عند تداعي صحة الملوك فينتظر هؤلاء قدوم مرحلة جديدة من حلقات الامل والوهم فيموت ملك وتموت معه اوهام وآمال كثيرة لتعود نفس هذه الاوهام والآمال لترتبط بمرحلة جديدة بل ان النفسيات والشخصيات تنغمس في بناء قصور على الرمال وتشييد اعمدة طويلة من الاحلام ترتبط بقدوم شخصية جديدة تمثل الارادة الملكية بعد موت الارادة السابقة.

 ويبدأ الوهم عادة في الايام الاخيرة من المرحلة وتصل حالة اليأس من التغيير الى اقصى الدرجات انخفاضا وتدهورا في سنوات الحكم الاخيرة حتى تنخفض حدة التوقعات والترقبات الى ادنى مستوى لتحل محلها آمال كبيرة وخطوط عريضة وتبقى ازدواجية الامل والوهم ترتبط بحلقات الحياة والموت للنظام ورمزه الكبير.

وقد مرت السعودية خلال اكثر من نصف قرن بهذه الازدواجية التي اصبحت سمة لا تفارق الاحلام السياسية الجمعية. ففي مرحلة نهاية الاربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن المنصرم ارتبطت حالة الهرم التي ضربت النظام السياسي بالركود السياسي والحياة البطيئة رغم ان المتغيرات الاقليمية كانت تتطلب التعاطي معها بشيء من الحيوية الا ان حالة الملك عبدالعزيز الصحية أدت الى توقف العجلة السياسية حتى عام 1953 وبعد وفاته وتقلد سعود دفة الحكم دخلت مرحلة الامل والوهم في حالة حراك حيث تفاءل الكثيرون بشخصية اعتبرت حينها شخصية حيوية ستؤدي الى نقلة نوعية وانجاز عظيم ولكن بعد توليه العرش بسنوات قليلة تقلص الامل وبدأ الوهم يخيم على خطابات الدعاية التي اخفت حالة سياسية واقتصادية مزرية وخطيرة.

وبعدها جاء الامل الجديد الذي ارتبط بتولي فيصل العرش فكثرت الآمال حينها واخفت هذه الآمال مرحلة واقعية ادت الى تقلص قدرة المجتمع على الحراك المستقل وتهميش هذا المجتمع وفعالياته وبدء مرحلة الدولة المركزية القوية اقتصاديا مما يمكنها من دخول باب الحداثة وخاصة ما تجلبه من وسائل قمع وسيطرة على المجتمع بمؤسسات غير مستقلة وغير قادرة على لعب دور مستقل عن نظرة الحكم ومصالحه. فجاءت المؤسسات من تعليمية ودينية واقتصادية وعسكرية لتخدم هدفا واحدا وهو استمرارية النظام وعزل المجتمع عن صنع القرار. وقبل بدء مرحلة الوهم جاءت حادثة وفاة الملك فيصل غير المرتقبة لتقطع الطريق على تفشيها في المجتمع.

اما مرحلة الملك خالد القصيرة فقد طغت عليها شخصية الملك فهد والذي بدوره وزع من الامال والاوهام المقدار الكبير خاصة وان حكمه بدأ يرتبط بسلاح جديد هو سلاح الاعلام الجديد والامبراطورية الدعائية والتي اصبحت ركنا من اركان توزيع الامل والوهم معا. فتعالت الاصوات المطالبة بالاصلاح وعلقت الامل على استجابة الارادة الملكية والتي لم تقصر في اصدار قرارات اعتبرت حينها انها قفزات بهلوانية في طريق التقدم والرقي السياسي ودخلت مصطلحات النظام السياسي ومجلس الشورى ونظام المناطق الى مساحات الامل الكبيرة والواسعة واعتبرت حينها هذه المصطلحات بداية مرحلة الامل الجديدة ومن ثم بدأت الامال تتدهور وتنحدر خاصة في منتصف التسعينات تماما كما تدهورت صحة الملك حينها. فتطلق المجتمع الى مرحلة ملك جديد وبدأ ينسج الآمال والاوهام عن انتهاء حقبة تاريخية سيئة واستبدالها بحقبة جديدة تكون متزامنة مع التغيير على مستوى القيادة.

وانتظر المجتمع لسنوات طويلة لحظة التغيير الاملية والوهمية لفترة طويلة لم تأت الا عام 2005 وهي لحظة بدء مرحلة اعتبرت مفصلية في حلقات الأمل والوهم. فتعالت التوقعات وازدادت الآمال وتم انتظار المزيد والمزيد من المكرمات التي ستحول المملكة من مرحلة الركود السياسي الى قفزات عالية ومرتفعة وكلما زادت الآمال وارتفع سقف التوقعات كلما بزغت الاوهام بشكل واضح وصريح. وبعد 6 سنوات لا يعرف المجتمع كيف يتعاطى مع مرحلة الركود والتي جاءت بعد فترة قصيرة جداً من تولي الملك عبد الله زمام الامور.

ويوجد اليوم حالة انتظار لم تعد تحتمل مزيداً من الوقت وليس ذلك سمة المجتمع بل هي اصبحت من ملامح الخطاب السياسي لبعض الامراء. وقد ظهر ذلك واضحاً في المقابلتين المتلفزة التي اجراها الامير طلال بن عبد العزيز عندما عبر عن امتعاض من حالة الركود وتنبأ بسنوات عجاف ان لم يتم التغيير السياسي الآن وقبل وفاة الملك عبد الله. وقد كسر الامير حلقة الأمل والوهم التي تكون عادة ملازمة للمرحلة الاخيرة من حكم الملوك في السعودية حيث انه لا يأمل بأن يأتي التغيير الذي ينشده بعد وفاة الملك بل هو يريده الآن وحذر الامير من سنوات سوداء ستأتي في المستقبل على عكس العادة التاريخية والتي تفضي باتباع سياسة الامل والوهم في المراحل الانتقالية للسلطة من شخص الى آخر. وربما يكون الحاح الامير على التغير السياسي الآن انعكاساً لمعرفته بطبيعة الحكم القادم والمرشحين لإعتلاء العرش في المرحلة القادمة حيث لا يأمل خيراً او ربما يعلم مدى قدرة هؤلاء المرشحين على اقصاء طاقم المساندة والمساعدة الحالي والذي ارتبط بفترة حكم الملك عبد الله حيث سيأتي هؤلاء الجدد بطاقمهم المرتبط بهم عبر طريق الولاء والعلاقات الاسرة والتاريخية مع بعض الجماعات وبالضرورة سيؤدي ذلك الى اقصاء حلقات الولاء الحالية المرتبطة بالعرش.

وعند تولي الملوك مسؤولياتهم يكون من الطبيعي ان يأتوا بمجموعتهم ويطهروا مفاصل الدولة الحيوية من بعض الشخصيات القديمة والتي تكون مرتبطة بالعهد البائد ولا يقتصر ذلك على الشخصيات الغريبة من الحكم بل يتعداها الى شرائح اجتماعية كبيرة قد تعزل وتهمش بعد قدوم ملك جديد على البلاد حينها تصبح آمال البعض كوابيس تهددهم بحياة على هامش الدولة واجهزتها لذلك في الايام الاخيرة من كل مرحلة ملكية تكون عادة مرتبطة برغبة جامعة في اقتناص الصلاحيات والاتاوات ونهب المال العام خوفاً من مرحلة قادمة تنعدم فيها مثل هذه الفرص تحت راية العهد الجديد.

 نستطيع ان نجزم ان السعودية تمر اليوم بمرحلة أمل جديدة مقترنة بأوهام خيالية تنسجها مخيلة اجهزة العلاقات العامة ليستهلكها الشعب ضمن سياسة الملكية المعروفة التي تعتاش على توزيع الامل والوهم. فهناك شرائح كبيرة في المجتمع تأمل أن يختم الملك عبد الله حكمه بسلسلة من المكارم الملكية السياسية التي تأمل بها معتقدة ان العهد الجديد لن يستطيع الرجوع عنها او الغاءها وهنا تكمن بذور الوهم حيث ان للملوك حرية مطلقة في الغاء القديم وتثبيت الجديد وهذا لا يعني دوماً التقدم والرقي بل قد يكون من باب الانتكاسة والانحدار الى مراحل تخلف جديدة واستئثار بالسلطة المطلقة وعزل المجتمع نهائياً واستبدال القرارات السابقة بأخرى تكون اكثر احكاماً لقبضة النظام على المجتمع ولنا هنا مثال وعبرة في بلدين عربيين هما الاردن والبحرين حيث ان اصلاحات الثمانينات في الاولى والتسعينيات في الثانية جاءت بالأمل لتعود فترة الانتكاسة وتستشري بالممارسة السياسية. وهذا هو حال السعودية حيث انها لم تدخل مرحلة متطورة من النقلة الحقيقية باتجاه انفتاح سياسي كما حصل في الاردن او البحرين ولكنها ظلت تعتاش على الوهم قيادة ومجتمعاً حتى هذه اللحظة رغم تصوير الآلة الاعلامية السعودية لأي قرار ملكي وكأنه قرار رباني له حكمة أزلية.

لقد اصبح المجتمع رهينة ازدواجية الأمل والوهم خاصة بعد أن علق جميع آماله على شخصية واحدة واناط بها كل مشاريع النهضة والتقدم والرقي حتى دخلنا مرحلة عبادة الفرد وتضخم الذات وانفجار الأنا. وعلى المجتمع ان يتذكر انه لا يجب اسقاط صفات الذات الالهية على البشر خاصة واننا في مجتمع يؤمن بالتوحيد وعليه ان لا ينجر خلف اوهام وآمال تجعل من البشر يشتركون مع الذات الالهية في صفات هم بعيدون عنها. وربما ان التغيير القادم والتي لا تعرف شخصياته حتى اللحظة قد يكون خاتمة ازدواجية الأمل والوهم فيلتفت المجتمع الى ذاته ويجد فيها القوة المحركة للتغيير السياسي المنشود وليس في شخصية بشرية تأتي وترحل وتوزع من الآمال والأوهام الكثير.

* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

القدس العربي

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 8/حزيران/2011 - 6/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م