في السيادة وشرعية السلطة عند الجمهور

الشيخ فاضل الصفّار

يظهر من تتبع كلمات أعلام العامة الإبهام في أمر السيادة وتحديد مصدرها ومنشئها، وقد اختلفوا فيها إلى أقوال:

أحدها: ذهب إلى ولاية الأمة.

ثانيها: ذهب إلى ولاية أهل الحل والعقد.

ثالثها: ذهب إلى ولاية الحاكم السابق.

رابعها: ذهب إلى ولاية القوة والقهر.

خامسها: ذهب إلى ولاية الله سبحانه وتعالى.

ووجه هذا الأخير ناشئ من أنهم يتفقون على أن الحاكم هو ولي الأمر الذي نص عليه الكتاب والسنة من حيث الكبرى، مما قد يستفاد منه الرجوع إلى النص الشرعي، إلا أنهم من حيث الصغرى جعلوا تعيين الحاكم يتم بالشورى بين المسلمين تارة، وباختيار أهل الحل والعقد تارة أخرى، وبواسطة اختياره ممن سبق من الحكام ثالثة، وبواسطة تصديه للسلطة وغلبته وقهره لغيره وتوليه لها رابعة، وفي الجميع يتوقف الأمر على البيعة، ومضافاً إلى المناقشات المفصلة والإشكالات التي ترد على هذه الاختيارات التي ذكروها فإنها توجب الاختلاف الشديد، وتتضمن في طواياها التناقض من وجوه عديدة، ولتفصيل الأمر في هذا نتعرض إلى كلمات بعض أعلامهم فيها، فنقول: قال الماوردي في الأحكام السلطانية: والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما: اختيار أهل العقد والحل. والثاني: بعهد الإمام من قبل. أما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد؛ ليكون الرضا به عاماً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدم غائب عنها، وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد بهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين:

أحدهما: أن بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها، وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن خضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة.

وثانيهما: أن عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة، وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين؛ ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين، وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد؛ لأن العباس قال لعلي(عليه السلام): أمدد يدك أبايعك، فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان؛ ولأنه حكم، وحكم أحد نافذ[1].

وعن القاضي أبو يعلى: وروي عن أحمد ما دل على أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد، فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً براً كان أو فاجراً. وقال أيضاً في رواية أبي الحرف في الإمام: يخرج إليه من يطلب الملك فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم، تكون الجمعة مع من غلب، واحتج بأن ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة وقال: نحن مع من غلب[2].

وفي الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي قال: رأي فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أن الإمامة تنعقد بالتغلب والقهر؛ إذ يصير المتغلب إماماً دون مبايعة أو استخلاف من الإمام السابق، وإنما بالاستيلاء، وقد يكون مع التغلب المبايعة أيضاً فيما بعد[3].

ولا يخفى أن مقتضى ما ذكروه من إمامة المتغلب مطلقاً يتضمن تناقضاً صريحاً؛ بداهة أن الخارج عن الإمام الموجود في أول الأمر يعد باغياً، ويجب قتاله ودفعه، ثم إذا فرض غلبته انقلب إماماً واجب الإطاعة وإن كان من الفسقة والظلمة، وهذا تناقض صريح، والملاحظ أن هذه النظريات تقف على خلاف نظرية النص التي يقول بها الشيعة الإمامية في زمن حضور المعصوم (عليه السلام)؛ لكونها تعمم مبدأ السيادة والسلطة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم الناس هذا، حيث تنتهي طرّاً إلى أن تعيين الإمام راجع إلى الأمة المسلمة، وهؤلاء في رأيهم هذا يسيرون وفقاً لما ذهبوا إليه من وجوب الإمامة على الأمة المسلمة، ومن كونها من فروع الدين.

فإذاً الإمامة من شؤون الأمة المسلمة وليست من شؤون النص الإلهي أو النبوي؛ ولذلك تكون الأمة مبدئياً هي المرجع في التعيين، وهي منشأ السلطة ومصدرها، وربما يثير هذا القول جملة من الأسئلة بسبب الغموض الذي يكتنفه؛ إذ لسائل أن يسأل كيف تكون الأمة هي المرجع في تعيين الإمام؟ وهل يجب أن تجمع الأمة المسلمة بأسرها على شخص واحد ليكون هو الإمام أم أن هناك شكلاً آخر من أشكال التعيين تكون الأمة المسلمة هي المرجع فيه؟ ثم من هي الأمة التي لها هذه الصلاحية والسيادة؟.

فقد اختلفت كلمتهم في تحديد معنى الأمة، وقد وردت هذه الكلمة في أحاديث رواها أهل الجمهور عن النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبغض النظر عن المناقشة السندية فيها فإنها من حيث الدلالة جعلت مصدراً تشريعياً لما ذهبوا إليه من سيادة الأمة، ومن هذه الأحاديث»لا تجتمع أمتي على ضلالة«[4] ومنها «لا تجتمع أمتي على خطأ»[5] الدالة على أن الأمة لو اتفقت على رأي كانت معصومة، وهناك أحاديث أخرى ورد فيها لفظ الجماعة، كالحديث الذي رووه «يد الله مع الجماعة»[6] إلى غير ذلك من الروايات.

فهذه الأحاديث في مضمونها تمنح الأمة شرعية وعصمة من الخطأ إذا أجمعت على أمر من الأمور، وقد فهم البعض من لفظ الأمة ما يدل عليه ظاهره، فذهب إلى أنه يعتبر في الإمام أن تجمع عليه الأمة بأسرها، وهذا مذهب الهشاميّة من المعتزلة وأبي بكر الأصم، فقد ذهبوا إلى أنه يعتبر إجماع الأمة عن بكرة أبيها[7].

هذا وقد ذهب آخرون إلى أن المراد من لفظ الأمة شيء آخر غير ما يبدو من ظاهره؛ لأنهم رأوا أن اشتراط إجماع الأمة عن بكرة أبيها شرط لا يمكن تحقيقه، فيستلزم التكليف بما لا يطاق؛ ولذا لم يصححوا هذا، وإنما قالوا: المراد بالأمة هو جماعة خاصة يناط بها هذا الأمر، وقد سموهم بأهل الحل والعقد، وفسروا لفظي الأمة والجماعة الواردين في الأحاديث المروية عن النبي بهذه الطائفة من الناس، فمن اتفقوا على إمامته كان إماماً.

قال التفتازاني: قال الرازي: الإمامة رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص من الأشخاص، وقال: هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه، وتابع التفتازاني تفسير قول الرازي قائلاً: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد، واعتبر رئاستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة[8]. وهنا يحدد التفتازاني أهل الحل والعقد بالعلماء والرؤساء ووجوه الناس، وأضاف النووي إلى هذا التعريف قوله: الذين يتيسر اجتماعهم[9]، الكاشف عن أن تيسر الاجتماع قيد احترازي لا توضيحي، بمعنى اجتماع أهل الحل والعقد الذين يمكن أن يجتمعوا فيخرجوا ما لا يمكن اجتماعه ولو كان كثيراً.

ويسمي أبو الحسن الماوردي أهل الحل والعقد بأهل الاختيار[10]، فمن ذهب إلى أن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار وأنها شورى بين المسلمين يريد بذلك شورى واتفاق أهل الحل والعقد واختيارهم، ولكن هل يعتبر في الإمام أن يبايعه أهل الحل والعقد في الأمة بأسرها أم يكفي أهل الحل والعقد في بلد الإمام فقط؟ وإذا اكتفينا بمن في بلد الإمام فهل يشترط اجتماعهم كلهم أو يكفي اتفاق عدد محدود منهم أم لا يشترط العدد أصلاً، فتكفي بيعة الواحد؟[11].

هذا غموض وإبهام آخر يضاف إلى الإبهام في معنى الأمة؛ ولذا قد اختلفت الأقوال فيه منذ قديم الأيام، فقد لخص أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين – الذي يبدو أنه ألفه قبل نهاية القرن الثالث – فقال: واختلفوا في كم تنعقد الإمامة من رجل، فقال قائلون: تنعقد برجل واحد من أهل العلم والمعرفة والستر، وقال قائلون: لا تنعقد الإمامة بأقل من رجلين، وقال قائلون: لا تنعقد بأقل من أربعة يعقدونها، وقال قائلون: لا تنعقد إلا بخمسة رجال يعقدونها، وقال قائلون: لا تنعقد إلا بجماعة لا يجوز عليهم أن يتواطؤوا على الكذب، ولا تلحقهم الظنة، وقال الأصم: لا تنعقد إلا بإجماع المسلمين[12].

وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة ومنهم الجبائية من المعتزلة أتباع أبي علي الجبائي إلى أن أقل عدد تنعقد به الإمامة هو بيعة خمسة من أهل الحل والعقد، كما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية[13]، ومن العلماء من ذهب إلى كفاية الاثنين لأنهم أقل الجماعة، وقيل: ثلاثة؛ لأنهم أقل الجمع، وقيل: أربعة؛ لأنهم أكثر نصاب الشهادة، وقيل: خمسة غير المبايع كأهل الشورى، وقيل: أربعين لأنه أشد خطراً من الجمعة[14]. وقد تقلص أهل الحل والعقد عند الأشاعرة وهم أكثر العامة اليوم إلى عدم اشتراط العدد إطلاقاً، فيكفي بيعة الواحد إذا شهد عليه الشهود كما في أصول الدين[15]، ويمكن القول: إن الرأي المذهبي عند العامة جميعاً قد استقر على ذلك.

قال عبد القاهر البغدادي المتوفى في 429ه‍: إن الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع إذا عقدها لمن يصلح لها، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته[16].

وقال الإيجي المتوفى في 756ه‍: وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك لا يفتقر إلى الإجماع؛ إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كافٍ[17]، وقريب منه ما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني[18]، والملحوظ في هذه الآراء ووجوه الاستدلال التي ذكروها لها أن المصدر التشريعي الذي ترجع إليه هذه الأقوال طرّاً لا يخلو من أمرين:

أحدهما: الاستحسانات والظنون العقلية.

وثانيهما: عمل الصحابة.

فلا يرجع المصدر إلى الكتاب أو السنة كما عرفت من أقوالهم؛ ولذا ردوا قول من ذهب إلى اشتراط إجماع أهل الحل والعقد في الأمة بأسرها ببيعة أبي بكر باختيار من حضرها، ولم ينتظر لبيعته قدم غائب، واستند من ذهب إلى انعقاد الإمامة بمبايعة خمسة إلى أمرين:

أحدهما: بيعة أبي بكر؛ إذ انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن خضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة.

وثانيهما: ما عمله عمر؛ إذ جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، كما أن من ذهب إلى كفاية الواحد استند إلى تصرف عبد الرحمن بن عوف، حيث انعقدت خلافة عثمان بمبايعته له، ثم تلاه بالبيعة سائر المسلمين[19].

وقال الإيجي: لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك، كعقد عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا إجماع من في المدينة فضلاً عن إجماع الأمة، هذا ولم ينكر عليه أحد، وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا[20]، واستند الذين اعتبروا اجتماع من في بلد الإمام من أهل الحل والعقد إلى قولة عمر عن بيعة أبي بكر: أنها كانت فلتة وقى الله شرها[21]؛ لعدم اجتماع أهل الحل والعقد كلهم؛ إذ تخلف بنو هاشم وغيرهم عن هذه البيعة[22].

هذا ولا يخفى أن اجتماع أهل الحل والعقد ليس هو الطريق الوحيد لتعيين الإمام عند العامة ومن تابعهم بالرأي، وإنما هو طريق من طرق عدة، فقد اختار بعضهم العهد والنص من الإمام السابق طريقاً أيضاً.

واعتبر الماوردي المتوفى في450ه‍أن العهد من الإمام السابق أحد الوجهين اللذين تنعقد بهما الإمامة، والوجه الآخر هو اختيار أهل الحل والعقد كما عرفت نص عبارته فيما تقدم، وهو ظاهر كلام أبي الحسن الأشعري أيضاً المتوفى في 330ه‍، حيث قال في الاستدلال على صحة خلافة أبي بكر: وإذا ثبتت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر؛ لأنه عقد له الإمامة[23]، وهذا هو الظاهر أيضاً من أبي بكر الباقلاني، حيث قال: ويوضح ذلك أيضاً أن أبا بكر عقدها لعمر، فتمت إمامته وسلم عهده بعقده له[24]، وهو ظاهر عبد القاهر البغدادي أيضاً، حيث قال: وإذا صحت بذلك إمامة عمر صحت إمامة من استخلف عمر، وهو أبو بكر[25]، وقال: واختلفوا أيضاً في الوصية في الإمامة إلى واحد بعينه يصلح لها، فقال أصحابنا مع قوم من المعتزلة والمرجئة والخوارج: إن الوصية بها صحيحة جائزة غير واجبة، وإذا أوصى بها الإمام إلى من يصلح لها وجب على الأمة إنفاذ وصيته، كما أوصى بها أبو بكر إلى عمر، وأجمعت الصحابة على متابعته فيها[26].

وقال التفتازاني: الثاني: استخلاف الإمام وعهده وجعله الأمر شورى بمنزلة الاستخلاف، إلا أن المستخلف غير متعين، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم[27].

هذا ومضافاً إلى ما ستعرفه من الإشكال على هذه النظرية من حيث الكبرى فإن الإشكال الآخر الذي ربما يرد هنا من جهة الصغرى؛ إذ الإجماع والاتفاق من قبل جميع الصحابة لم يتحقق في شخص أو إمام حتى يمكن أن يقال باتفاق جميع الصحابة عليه.

هذا وهناك طريق ثالث للشرعية وهو الدعوة إلى النفس والاستيلاء والغلبة، ويبدو أن هذا الرأي قد تبلور منذ عهد مبكر جداً، فقد روى تلاميذ الشافعي المتوفى في 204ه‍أن هذا مذهبه، وتثبت الإمامة من غير بيعة، وأن كل قرشي استولى على الخلافة بالسيف واجتمع عليه الناس فهو خليفة، فالعبرة عنده في الخلافة أمران، هما كون المتصدي قرشياً واجتماع الناس عليه، سواء أكان الاجتماع سابقاً على إقامته خليفة كما في حال البيعة أم كان الاجتماع تالياً لاستيلائه على السلطة بقوة السيف وغلبة الشوكة[28].

وعن احمد بن عبد الله القلقشندي المتوفى في 821ه‍ الطريق الثالث من الطرق التي تنعقد بها الإمامة القهر والاستيلاء، فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم ولا بيعة من أهل الحل والعقد انعقدت إمامته؛ لينتظم شمل الأمة، وتتفق كلمتهم، وإن لم يكن جامعاً لشرائط الخلافة بأن كان فاسقاً أو جاهلاً فوجهان لأصحابنا الشافعية، أصحهما انعقاد إمامته أيضاً؛ لأنا لو قلنا لا تنعقد إمامته لم تنعقد أحكامه، ويلزم من ذلك الإضرار بالناس من حيث إن من يلي بعده يحتاج أن يقيم الحدود ثانياً، ويستوفي الزكاة ثانياً، ويأخذ الجزية ثانياً[29].

وقريب منه ما قاله أبو حامد الغزالي وغيره[30].

وقال الباجوري في طرق تعيين الإمام ثالثها: استيلاء شخص مسلم ذي شوكة متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها، كصبي وامرأة وفاسق وجاهل، فتنعقد إمامته لينظم شمل المسلمين، وتنفذ أحكامه للضرورة[31].

والملحوظ على هذا الرأي أنه يرتضي إمامة القائم بالقوة والقهر من باب العنوان الثانوي لا الأولي، وهذه هي الطرق المعتمدة في الفكر الكلامي والسياسي عند العامة من المسلمين في مسألة مبدأ الشرعية وطريقة تعيين الحاكم، ولا يشذ عن هذه الطرق التي ذكرناها أحد من الباحثين منهم من الذين تعرضوا في أبحاثهم لهذه المسألة، والذي نستخلصه من مجموع هذه الكلمات والأقوال هو أن كل من خالف الإماميّة الذين يقولون بأن تعيين الإمام يرجع إلى النص من الله سبحانه ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) يجمعهم أمر واحد أيضاً من الناحية الجوهرية والمضمونيّة، وهو أن المرجع في التعيين هو الأمة، إلا أن لهم تفسيرات مختلفة للأمة، فبعضهم يرى أن المراد من الأمة هو ظاهرها باللفظ كما عرفت من الهشاميّة والأصمّ[32]، وبعضهم يرى أن المراد من الأمة من سماهم بأهل الحل والعقد، وهذا يتضمن أن ما عدا أهل الحل والعقد من أفراد الأمة المسلمة لا حق لهم في اختيار الإمام وتعيينه، فرأيهم ملغى، اما لانصراف لفظ الأمة عنهم، أو لتمثيل أهل الحل والعقد لهم، ثم رأينا أيضاً أن الكثرة الغالبة من هؤلاء يجعلون الحق في تعيين الإمام لأهل الحل والعقد، ويخرجون عن هذا المبدأ خروجاً واسعاً نحو الفردية وتركيز السلطة العليا في يد واحدة أو أيد قليلة، فنرى مثلاً من لا يشترط اجتماع أهل الحل والعقد في جميع الأمة، بل يكتفي بمن وجد فيهم في بلد الإمام، ونرى بعضهم لا يشترط اجتماع أهل الحل والعقد في بلد الإمام كلهم، بل يكتفي ببعضهم، كما نرى هذا المبدأ عند الجبائي ومن ذهب مذهبه، حيث جعل الحد الأدنى خمسة منهم، ويزداد انكماشاً عند أبي الحسن الأشعري حيث اكتفى بالواحد، واضمحل هذا المبدأ تماماً عند ابن حزم الأندلسي حيث قرر في الطريق الرابع من طرق تعيين الإمام أن عقد الإمامة يصح بواحد يبايع طالب الإمامة حتى ولو لم يكن من أهل الحل والعقد[33]، بعد هذا نلاحظ أن مبدأ الفردية تجسد تجسداً تاماً عند الزيديّة، حيث رأوا أن من نهض بالإمامة مطالباً بها تعينت إمامته، ووجبت طاعته، ولا يحتاج إلى سلطة أعلى منه تكون أساساً لشرعية سلطته، وهكذا عند العامة الذين جعلوا التسلط والتغلب بالقوة مبدأ معترفاً به لشرعية السلطة[34].خو الإمام زيد بن علي ابن الحسين عليهما السلام وبعد مقتله ثار ولده يحيى بن زيد وفي عهد الإمام الصادق حدثت ثورة عبد ا

ويظهر مما تقدم أن الآراء المختلفة على الرغم من إبهامها ترجع إلى جوهر واحد في مبدأ السيادة وشرعية السلطة، وهو سيادة الأمة.

تقديم مبدأ التعيين على غيره

يظهر من كلماتهم أن مبدأ التعيين والوصية من شخص إلى شخص يأخذ صفة الأفضلية عند الجميع، فقد صرح ابن حزم بجعله أفضل الوجوه وأصحها، كما صرح بذلك الغزالي، وقدمه على أهل الحل والعقد أيضاً، وكذلك الكمال بن أبي شريف، والإيجي في شرح المواقف في باب الإمامة، وحق الاختيار هنا ينحصر في الخليفة فقط دون اعتبار لغيره، سواء أكانوا من أهل الحل والعقد أو من غيرهم. يقول ابن حزم في هذا المبدأ: أولها وأصحها وأفضلها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته،[35] وليس في هذا النص ما يوحي بأن صحة اختيار الإمام منوطة بأن يستشير أهل الحل والعقد.

ويقول الغزالي في تقرير هذا المبدأ: إن ذلك لا يسلم لكل أحد، بل لا بد فيه من خاصية، وذلك لا يصدر إلا من أحد ثلاثة. إما التنصيص من جهة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإما التنصيص من جهة إمام العصر بأن يعين لولاية العهد شخصاً معيناً من أولاده أو من سائر قريش، أما الثالث فهو الرجل ذو الشوكة الذي يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة [36].

ونلحظ في هذا القول انه جعل راي أهل الحل والعقد في الرتبة الثالثة من الطرق، وينص الشيخ محمد الشربيني على أنه لا يشترط في الاستخلاف رضا أهل الحل والعقد في حياة الإمام أو بعد موته إذا ظهر له واحد جاز بيعته من غير حضور غيره، ولا مشاورة أحد، ويجوز العهد إلى الوالد والولد، كما يجوز إلى غيرهما، وقد جزم به صاحب الأنوار وابن المقري[37]، وذهب إلى أن أهل الحل والعقد لو اختاروا بعد موت الإمام غير من استخلفه الإمام فليس لهم ذلك. قال: وإن مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء فيما لو جعل الخليفة ثلاثة أولياء متتابعين للعهد مثلاً وانتصب الأول كان له أن يعهد بها إلى غير الأخيرين، لأنها لما انتهت إليه صار أملك بها، بخلاف ما لو مات ولم يعهد إلى أحد فليس لأهل البيعة أن يبايع غير الثاني، ويقدم عهد الأول على اختيارهم [38].

ويقول أبو الحسن الماوردي في هذه المسألة: فإذا أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجهد رأيه في الأحق بها والأقوم بشروطها، فإذا تعين له الاجتهاد في واحد نظر فيه، فإن لم يكن ولداً ولا والداً جاز له أن ينفرد بعقد البيعة له، وبتفويض العهد إليه وإن لم يستشر فيه أحد من أهل الاختيار، لكن اختلفوا هل يكون ظهور الرضا منهم شرطاً في انعقاد بيعته أو لا؟ فذهب بعض علماء البصرة إلى أن رضا أهل الاختيار لبيعته شرط في لزوم الأمة؛ لأنه حق يتعلق بهم، فلم تلزمهم إلا برضا أهل الاختيار لبيعته، والصحيح أن بيعته منعقدة، وأن الرضا بها غير معتبر؛ لأن بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة، ولأن الإمام أحق بها، فكان اختياره فيها أمضى، وقوله فيها أنفذ، وإن كان ولي العهد ولداً أو والداً فقد اختلف في جواز انفراده في عقد البيعة له على ثلاثة مذاهب:

الأول: لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لولد ولا لوالد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلاً لها، فيصح حينئذ عقد البيعة له؛ لأن ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشهادة، وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم، وهو لا يجوز أن يشهد لوالد أو لولد، ولا يحكم لواحد منهما للتهمة العائدة إليه بما جبل من الميل إليه.

الثاني: يجوز أن ينفرد بعقدها لولد أو والد؛ لأن أمير الأمة نافذ الأمر لهم وعليهم، فغلب حكم المنصب على حكم النسب، ولم يجعل للتهمة طريقاً على أمانته، ولا سبيلاً إلى معارضته، وصار فيها كعهده بها إلى غير ولده ووالده.

الثالث: يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده، ولا يجوز أن ينفرد بها لولده؛ لأن الطبع يبعث على ممايلة الولد أكثر مما يبعث على ممايلة الوالد، فأما عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبيه فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرده بها[39].

وهذا الكلام ظاهر في الاستحسانات الظنية أيضاً؛ إذ لا يرجع إلى دليل ومستند واضح، ومن ناحية أخرى نرى أن العامة يصححون خلافة بني أمية وبني العباس على الرغم من أن هؤلاء كانوا يعهدون إلى أولادهم دون أن يرجعوا إلى أهل الحل والعقد مطلقاً، فجعلوا الحكومة وراثية. وإذا رجعنا إلى النصوص الواردة في هذه المسألة كما في شرح المقاصد وحجة الله البالغة وحاشية الباجوري على شرح الغزي والمسامرة في مباحث الإمامة ومباحث البغاة نرى أن هؤلاء أطلقوا القول بصحة الاستخلاف من دون أن يذكروا لذلك قيدا، أو شرطاً[40].

 وكيف كان، فالظاهر أن هذا الرأي الذي يستند إلى تعيين الإمام السابق لمن بعده من الحكام ينتهي إلى تخطئة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ والعياذ بالله - أو تكذيب فعل الصحابة، وكلاهما لا يلتزمون به؛ وذلك لأنه اعتبر أصح الطرق في شرعية السلطة العهد والنص من الإمام السابق، مع أنهم ينفون أن يكون قد فعله النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنكروا نصه لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) في أمر الخلافة، فيدور الأمر بين أمور:

أحدها: أن يكون نفيهم لنص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صحيحا عندهم، فيثبت بطلان هذا الرأي؛ لأنه لو كان هذا الطريق هو الأصح من الطرق الأخرى لفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثانيها: أن يكون هذا الرأي هو الأصح فعلاً فيثبت لزوم فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له، وحينئذ يمكن أن يسأل هل فعله النبي بالفعل أم لا؟ إن قيل: فعله، فيثبت صحة ما تقوله الامامية من نصه (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة، وبطلان فعل الصحابة في تعيين الخليفة دون الالتزام بنص من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن قيل: لم يفعله، فيلزم منه نسبة النقص إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ وذلك لرجوع السؤال عن سبب عدم فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) له، مع أنه أفضل الطرق وأصحها، والاحتمالات العقلية المتصورة لعدم فعله عديدة حينئذ؛ إذ تدور بين الجهل والظلم والتشفي والإضلال ونحوها نسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلها تتنزه ساحته المقدسة المعصومة عنها [41].

ثالثها: أن يكون هذا الرأي عندهم أصح وليس عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيستلزم إما بطلان هذا الرأي لعدم الدليل عليه بعد ثبوت عدم تصحيح النبي الأعظم له، أو يقال: إنهم أعلم من النبي وأفهم منه بالصالح والأصلح، وهذا واضح البطلان، ولعل من مؤيدات ضعف هذا الرأي مخالفته لآراء جمع من الصحابة فضلاً عن بعض أعلامهم، حيث التزموا بأن الإمامة والخلافة تكون بالنص والتعيين كما هو مقتضى ارتكازهم العقلائي من حيث الكبرى، ولكنهم أنكروه على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فنسبوا إليه النقص والخروج عن الطرق والموازين الصحيحة - والعياذ بالله ـ وقد حكي أن عالماً من علماء الشيعة مر على جماعة من العامة فأصروا على أن يبيت عندهم ليلاً، فأجابهم بشرط أن لا يقع بحث مذهبي، فلما تعشوا قال له أحد علمائهم: ما رأيك في أبي بكر؟ فقال: كان هو مسلماً فاضلاً، يصلي ويصوم ويحج ويتصدق، ورافق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال العامي: أضف، فقال العالم: وخلاصة الكلام أن أبا بكر كان أفضل وأعقل من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمراتب، وتعجب الحاضرون، وقالوا: كيف تقول هذا؟ قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولي المسلمين ثلاثا وعشرين سنة ومع ذلك لم يعقل وجوب الاستخلاف ومصالحه، وأبو بكر وليهم أقل من ثلاث سنوات وعقل ذلك وفهمه، فهو لا محالة كان أعقل منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالتفت الحاضرون إلى عمق نظرية الشيعة في تعيين السلطة والسلطان بالنص الخاص من الله عز وجل ومن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا من كل أحد، ولعل هذا ماألمح اليه عمر في بعض كلامه حينما بويع ابو بكر[42]، وحينما طعن قال له ابنه: سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك، زعموا أنك غير مستخلف، وأنه لو كان راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيع، فرعاية الناس أشد. قال: فوافقه قولي[43].

وروي عن عائشة انها قالت لعبد الله بن عمر: يا بني، أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة.

وكأن عائشة أدركت ضرر الفتنة ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدركها؛ ولذا قالوا: إنه لم ينص على الخليفة من بعده [44]، مع أنهم يروون عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «من مات على وصية مات على سبيل وسنة، ومات على تقى وشهادة، ومات مغفورا له»[45].

كما يروون عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): «أن المحروم من حرم منها»[46]، وانعقد اجماع المسلمين على وجوب الوصية[47]، بل يروون انه (صلى الله عليه وآله وسلم) اراد الوصية ومنعه بعض الصحابة بسبب لغطهم واختلافهم،[48] كما قالوا في نزول قوله سبحانه وتعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس[49] إنها نزلت في تعيين الخليفة والإمام؛ إذ إنها تنادي بأعلى صوتها بأمر مهم يتمم الرسالة ويحفظها، بحيث لو لم يبلغه الرسول كانه لم يبلغ الرسالة.

 ويستفاد من ظاهر الآية أن الناس كانوا مخالفين لذلك، بل ويعارضونه؛ ولذا عصمه الله سبحانه وتعالى منهم، وقد ورد من طرق الفريقين أن هذه الآية نزلت في قصة الغدير. منها: ما ورد في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك على رسول الله يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.[50]

واخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ياايها الرسول بلغ ماانزل اليك من ربك ـ ان عليا مولى المؤمنين ـ وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس[51]،

وفي كنز العمال روى ماينص على حق الامام علي امير المؤمنين (عليه السلام) فيها، وانه سكت عنه لمصلحة الاسلام والمسلمين[52].

ولعل من المناسب هنا أن ننقل حواراً جرى بين هشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وبين عمرو بن عبيد المعتزلي البصري لأهمية دلالته فيما نحن فيه ـ قال هشام: دخلت البصرة يوم الجمعة، فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متزر بها من صوف، وشملة مرتد بها، والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت: أيها العالم، إني رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟ فقال: يا بني، أي شيء هذا من السؤال؟ وشيء تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يا بني، سل وإن كانت مسألتك حمقاء. قلت: أجبني فيها... قال: نعم.

 قلت: فما تصنع بها؟ قال: أرى بها الألوان والأشخاص. قلت: فلك أنف؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة. قلت: ألك فم؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم. قلت: فلك أذن؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح والحواس. قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا. قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني، إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فيستيقن اليقين، ويبطل الشك. قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم. قلت: لا بد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم، فقلت له: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح، ويتيقن به ما شك فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم؟ ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟ قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً؛ ثم التفت إلي فقال لي:أنت هشام بن الحكم؟ فقلت: لا. قال: أمن جلسائه؟ قلت: لا. قال: فمن أين أنت؟ قال: قلت: من أهل الكوفة. قال: فأنت إذاً هو، ثم ضمني إليه، وأقعدني في مجلسه، وزال من مجلسه، وما نطق حتى قمت.[53]

وكيف كان، فإن القول بأن الإمامة والسيادة وتعيين الحاكم اذا صح أن يكون بالنص والتعيين من الإمام السابق كما رآه علماء الجمهور فانه ينبغي ان يصح بالنسبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل اولى، لكنهم سلموا بالمبنى وأنكروه في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا من المفارقات؛ ولذا أقر جمع من أعلامهم ببطلان ما ذهبوا إليه، وانكروا هذه الآراء، منهم عبد الكريم الخطيب في كتاب الخلافة والإمامة. قال ما نصه: وقد عرفنا أن الذين بايعوا أول خليفة للمسلمين ـ أبا بكرـ لم يتجاوزوا أهل المدينة، وربما كان بعض أهل مكة، أما المسلمون جميعاً في الجزيرة كلها فلم يشاركوا في هذه البيعة، ولم يشهدوها، ولم يروا رأيهم فيها، وإنما ورد عليهم الخبر بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)مع الخبر باستخلاف أبي بكر، فهل هذه البيعة أو هذا الأسلوب في اختيار الحاكم يعتبر معبراً عن إرادة الأمة حقاً؟ وهل يرتفع هذا الأسلوب إلى أنظمة الأساليب الديمقراطية في اختيار الحكام؟ لقد فتح هذا الأسلوب الفريد الذي عرف في المجتمع الإسلامي لاختيار الحاكم أبواباً للجدل فيه والخلاف عليه [54].

ومنهم الشيخ علي عبد الرازق من علماء الأزهر قال في كتابه الإسلام وأصول الحكم: إذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي بكر واستقام له الأمر تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية عليها طابع الدولة المحدثة، وأنها قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف.[55]

هذا وهناك نظريات وآراء أخرى أعرضنا عنها؛ لوضوح ضعفها.

مناقشة الأقوال

 وأما الآراء التي ذكرناها فيمكن المناقشة فيها من جهات، أما نظرية أهل الحل والعقد فيمكن أن نتساءل فيها، انه إذا كانت بيعة أهل الحل والعقد كاشفة عن أن من بايعوه هو الإمام عند الله سبحانه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن الذي جعل لبيعتهم هذا الكشف؟ كما لسنا ندري شيئاً عن المستند التشريعي لهم في هذه الدعوى، فقد ذكروها في كتبهم دون أن يصحبها أي مستند.

 ونلاحظ أن القول باعتبار تعيين الإمام بإجماع أهل الحل والعقد في الأمة المسلمة كلهم عليه، وإن كان أقرب نظرياتهم هو القول بأن المرجع في تعيين الإمام هو الأمة المسلمة، وهو لهذا أقرب الأقوال في روحه إلى الشورية، أو ما يصطلح عليه بالديمقراطية، ولكن هذا لم تذهب إليه إلا أقلية ضئيلة منهم، وقد كرس الجميع جهوده للرد عليه وأبطاله، ويليه في القرب من روح الشورية القول بأنه يعتبر في تعيين الإمام إجماع من كان في مركز الخلافة من أهل الحل والعقد، ولكن هذا القول أيضاً لا يتمتع برضا الكثرة الغالبة منهم، والقول الذي تذهب إليه الكثرة العظمى هو القول بكفاية الواحد والاثنين كما عرفته مما تقدم، وهو يتناقض مع مبدأ سيادة الامة، كما يلغي الشورى والاختيار العام المنصوص عليه في الآيات والروايات بالمرة، ونسوق هنا بعض النصوص الصريحة في ذلك.

 قال الجرجاني: وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك الحصول لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحل والعقد؛ إذ لم يقم على هذا الافتقار دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف في ثبوت الإمامة ووجوب اتباع الإمام على أهل الإسلام؛ وذلك لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين وشدة محافظتهم على أمور الشرع كما هو حقها اكتفوه في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين، كعقد عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة من أهل الحل والعقد، فضلاً عن إجماع الأمة من علماء أمصار الاسلام ومجتهدي جميع أقطارها. هذا كما مضى، ولم ينكر عليهم أحد، وعليه ـ أي على الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الإمامة ـ انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا.[56]

وهنا نقف متسائلين هل يستطيع الواحد والاثنان والخمسة والعشرة أن يضمنوا سلامة تنفيذ هذا المبدأ الاجتماعي على الوجه الشرعي والعقلائي الذي يريده الإسلام؟ كما أن الذي يزيد هذه المسألة خطورة هو أن مبدأ تعيين الإمام بواسطة أهل الحل والعقد كان جنوحاً عظيماً نحو الفردية وتركيز السلطة في يد واحدة، فهم يكتفون لتعيين الإمام ببيعة الواحد والاثنين، ولا نرى كيف يتسنى لهذا الواحد أو لهذين التمكن من اختيار أصلح الناس لهذه المهمة الخطيرة؟ وكيف يمكن أن يرضى أهل الحل والعقد بما فعله هذا الواحد أو هذان الاثنان؟ بل كيف يمكن أن يعصم المجتمع من ان يتمزق شر ممزق بهذا التصرف الفردي؟ وأي سلطة عليا هي التي جمعت في يد هذا الواحد أو هذين الاثنين هذه القوة العظيمة الخطرة؟ ثم ما الذي يؤمننا أن لا ينحرف هذا الواحد أو هذان الاثنان عن الجادة فيسيران وفق اهوائهما في تعيين الإمام؟ أهي العصمة وهم ينكرون العصمة الشاملة حتى بالنسبة للأنبياء% فضلاً عن غيرهم من الحكام؟ ومن ناحية أخرى فإذا كان التعيين راجعاً إلى هذا الواحد فلماذا لا يجعل هذا الواحد نفسه إماماً؟ وإذا لم يكن له أن يجعل نفسه إماماً وإنما له أن يكشف عن الإمام فلماذا لم يكشف الله عنه دون أن يحمل المسلمين هذا الدور؟ هذا ومضافاً إلى ما تقدم فإنه يدل على بطلان هذا الاختيار أمور:

أحدها: إلزامي، وهو فعل أبي بكر وعمر، حيث يكون شاهداً على أن هذا الطريق في التعيين طريق لا يلائم المجتمع الإسلامي من قريب أو بعيد، ولو أنهما رأيا في هذا الطريق ما يكفل للمسلمين الخير والسلامة في دينهم ودنياهم لما حادا عنه، ولكانا خليقين باتباعه ومراعاته، ولكنهما حادا عنه إلى التعيين، فنرى أبا بكر قد عين عمر، ونرى عمر قد عين عثمان بواسطة الشورى، والذين ضمتهم الشورى ونص عليهم عمر كانوا كلهم من قريش، مع العلم بأن أهل الحل والعقد يومئذ لم يكونوا محصورين في قريش، بل كانوا فيها وفي غيرها من سائر المسلمين، بل أطلق تصريحات تنم عن بطلان هذا الرأي عن نفسه من قبلهم، حيث قال أبو بكر بعد بيعته في اكثر من موضع: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم. وقال عمر في بيعة أبي بكر: كانت فلتة وقى الله شرها، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه[57]،

وهذا دليل على أن عمر لم ير في الأسلوب الذي اتبع في استخلاف أبي بكر طريقاً مشروعاً يقره الإسلام ويرضاه المسلمون، والقول: إن دوافع هذه الكلمة من عمر هي أن خلافة أبي بكر تمت دون أن يستشار فيها جميع أهل الحل والعقد من المسلمين تناقض من قائليه، حيث يصرحون بكفاية الواحد والاثنين من أهل الحل والعقد دون أن يعتبروا إجماعهم شرطاً للإمامة، ثم أن عمر نفسه عين من دون أن يستشار فيه أهل الحل والعقد، وهو الذي وضع نظام الشورى ولم ينتخب له إلا أفرادا من قريش ما كانوا وحدهم أهل الحل والعقد عند المسلمين.

ثانيها: تاريخي، فإن الواقع التاريخي المتفق عليه بين الجمهور وبين الامامية ينفي أن يكون المناط في تعيين الإمام هو اجتماع أهل الحل والعقد عليه، وإذا هي صنفت بحسب أهميتها كانت قضية جيش أسامة في رأس القائمة، وخلاصة قضية أسامة هي: أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما رجع من حجة الوداع وشعر بدنو أجله عقد لأسامة بن زيد اللواء بيده، وأمره على جيش كان فيه شيوخ المهاجرين والأنصار وأعيانهم وذوو الرأي منهم والمكانة فيهم، كأبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن خضير وبشير بن سعد وغيرهم من الذين يقر لهم بأنهم كانوا من ذوي الرأي، وكانت وجهة أسامة قبائل قضاعة الضاربين في جهات الشام مما يلي مؤتة لمظاهرتهم الروم على المسلمين في غزوة مؤتة. شدد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في إنفاذ الجيش، ولعن من تخلف عنه، وراجعوه في أن أسامة صغير السن، ولا يصلح للإمارة، فلو ولي عليهم من هو أسن منهم، فغضب (صلى الله عليه وآله وسلم)وخطبهم قائلاً: «لئن قلتم في امارته لقد قلتم في امارة ابيه من قبله، وانه لخليق للامارة وان كان ابوه لخليقا لها»[58].

والحقيقة التي يجدر بنا أن نشير إليها قبل كل شيء هي أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حين قام بهذا التصرف كان على يقين من دنو أجله، فقد صرح مراراً بعد رجوعه من حجة الوداع أنه سيغادر المسلمين، وكان يحذرهم من الانشقاق والفتنة، والمستفاد منها هو أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوكل أمر اختيار الإمام إلى الأمة، وبالتالي لم يكن المرجع في ذلك أهل الحل والعقد، ويؤيده أنه إذا كان مناط تعيين الإمام هو أهل الحل والعقد فكيف جاز للنبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يزج بهم في جيش إلى مركز قصي عن مركز الخلافة في الوقت الذي يحتاج الى وجودهم في المدينة ليعينوا الإمام الذي سيحكم المسلمين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فهذا العمل الذي أقدم عليه النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الظروف مع علمه بقرب وفاته حين أقدم عليه يدل دلالة قاطعة على عدم ضرورة اجتماع أهل الحل والعقد لتعيين الإمام.

 ثالثها: عقلي، وينشأ من السؤال عن مدى شرعية رأي أهل الحل والعقد كي يعطوا الشرعية للحاكم والدولة، فإن كانت شرعيتهم من جهة كونهم أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت الشرعية في الواقع للنبي لا لهم، وهذا يثبت صحة ما يقوله الامامية، وإن كانت من أنفسهم ففاقد الشيء لا يعطيه، بل ويلزم منه الدور وسلب الشيء عن نفسه؛ بداهة حكومة شرعية الحاكم على أهل الحل والعقد بعد اختيارهم له، والقول بأن شرعيته ناشئة من سيادتهم على أنفسهم بمقتضى قانون السلطنة لا ينفع في المطلوب؛ لأن قانون السلطنة من جهة ذاته ومقتضيه محدود بحدود الشخص صاحب السلطنة، ولا تعميم له ليشمل نظام الحكم الحاكم على الجميع، مضافاً إلى أنه لا ينفي سلطنة الآخرين عن أنفسهم، فمن أين جاز إعطاء الشرعية للسلطة على الغير؟ وإن كانت من اجتماعهم فقد صرحوا بعدم لزوم اجتماعهم وكفاية الواحد والاثنين في إعطاء الشرعية، وإن كانت من بعضهم فلو خالف البعض الآخر ولم يتفق على اختيارهم وكانوا أيضاً من أهل الحل والعقد فكيف ستكون الشرعية؟ لأن تقديم رأي الموافق على البيعة يستلزم الترجيح بلا مرجح، وتقديم رأي المخالف يبطل شرعية السلطة، فيلزم ثبوت شرعية أهل الحل والعقد عدمه وهو محال.

وأما نظرية العهد والشورى التي أجمع العامة على شرعيتها فالسلطة فيها سلطة فردية يجمعها في يديه شخص واحد، ويفوضها إلى من يشاء، والشورى كما مورست في التاريخ بحسب ما صورها وصاغها عمر في تعيين عثمان، فهي مظهر من مظاهر العهد من الإمام السابق، وهي وإن بدت من الناحية الشكلية غير فردية؛ لأنها عبارة عن هيئة تجتمع فيها طائفة من أهل الحل والعقد، وتنظر فيمن توليه أمور المسلمين، ولكنها في جوهرها لا تخرج عن كونها مظهرا من مظاهر حكم الفرد؛ وذلك لأن قرار هذه الطائفة من أهل الحل والعقد إنما يتخذ صفة قانونية محترمة وملزمة بمجرد تعيين الإمام السابق لهم، ولولا ذلك لما كان لاجتماعهم أية صفة شرعية قانونية نافذة، والمظهر الوحيد للجنة الشورى في التاريخ الإسلامي هوما فعله عمر حين فوض أمر النظر فيمن يحكم المسلمين إلى ستة اختارهم، وهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعثمان بن عفان، والزبير بن عوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، كما في روايات الفريقين.[59]

والذي يبدو للباحث من خلال النصوص والحوادث التي رافقت هذه السابقة التشريعية من عمر أنه كان يرغب بعثمان خليفة من بعده، ولكنه لم يرد أن يتحمل مسؤولية استخلافه، فأوجد هذه الهيئة، وفوض إليها أمر تعيين الخليفة من بعده، وحدد سبيل التعيين بأن الحق مع أربعة إن خالف اثنان، وإذا استوت الكفتان فالحق مع من فيهم عبد الرحمن بن عوف، وبهذا يكون كأنه عين عثمان سلفاً؛ لوجوه عديدة، ولكنه ألبس هذا التعيين لباس الشورى، ولا يدري شيء عن الدافع الذي دفع عمر إلى إيجاد هذا الشكل الذي يضمن لعثمان الفوز في هذا المجال.[60]

وعلى أية حال فربما يرى البعض بأنه كانت لعمر مبرراته التي دفعت به إلى هذا التصرف، إلا أنه مع ذلك له آثار سلبية كبيرة كشف عنها معاوية بن أبي سفيان لابن حصين حين أرسله إليه زياد ابن أبيه، فقد استدعاه ليلةً، فخلا به وقال له: يا ابن حصين، قد بلغني أن عندك ذهناً وعقلاً فأخبرني عن شيء أسألك عنه. قال: سلني عما بدا لك. قال: أخبرني ما الذي شتت المسلمين، وفرق أهواءهم، وخالف بينهم؟ قال: نعم، قتل الناس عثمان. قال: ما صنعت شيئاً. قال: فمسير علي إليك وقتاله إيّاك. قال: ما صنعت شيئاً. قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال علي إيّاهم. قال: ما صنعت شيئاً. قال: ما عندي غير هذا. قال: فأنا أخبرك، إنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم، ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر، وذلك أن الله بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمر الله به، ثم قبضه الله إليه، وقدم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله لأمر دينهم، فعمل بسنة رسول الله، وسار بسيره حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف،[61] وقريب منه رواه المتقي الهندي في كنز العمال عن عمر[62].

فبغض النظر عما ورد في هذه المقالة من المناقشات فإنها كاشفة عن الأطماع المثارة التي أنتجت الحروب والنزاعات بين المسلمين بسبب الصياغة التي صاغها عمر للخلافة، وحرب الجمل لم تكن إلا نتاجاً لها، وقد رأت طائفة أخرى أنها ليست دون بعض الشخصيات التي جمعها عمر بالشورى، فطمحت بدورها إلى الاستيلاء على الخلافة، ومن هؤلاء معاوية بن أبي سفيان الذي بدل الخلافة إلى ملك عضوض يقوم على السيف والمال والخداع[63]، وهذه هي طريقة الشورى في تعيين الإمام، وما بنا حاجة إلى ما فيها، فحسبنا هذه الملاحظة التي أفضى بها معاوية في حديثه الآنف.

وأما طريق العهد من الخليفة إلى شخص خاص ـ وهي الطريقة المفضلة عند الجمهور ـ فهي ترتبط بحق الخليفة في أن يعهد بالحكم إلى من يخلفه دون أن يستشير أحدا من المسلمين، وإنما يعينه بنظره أجنبيا كان أم ولداً أم والداً، وثمة شيء آخر، وهو أن له أن يعهد إلى أكثر من واحد، كما ذكره بعض أعلامهم. يقول الماوردي: ولو عهد الخليفة إلى اثنين أو أكثر ورتب الخلافة فيهم فقال: الخليفة بعدي فلان، فإن مات فالخليفة بعد موته فلان، فإن مات فالخليفة بعده فلان جاز، وكانت الخلافة منتقلة إلى الثلاثة على ما رتبها.[64]

والسؤال الذي يرد هنا عن الضمانة التي نطمئن لها في عدم خطأ الخليفة وانحرافه وتحيزه، حيث إنهم ينكرون العصمة للأنبياء% فضلاً عن غيرهم من الحكام، وهذا السؤال وعدم تمامية جوابه كاشف عن عدم شرعية هذه الطريقة في تعيين الحاكم وشرعية نظام الحكم.

وأما نظرية الاستيلاء بالقوة فهي أيضاً بعيدة عن مبادئ الدين؛ لأنه طريق استبدادي يقوم على القهر، والإسلام يمنع كل من تحدثه نفسه بالاستئثار بالحقوق والواجبات، ويتربع على سلطان الناس بالقوة والظلم والغلبة، كما وأن مثل هذا الأسلوب خليق بأن يعصف بهذه الحقوق وهذه الواجبات كافة، وقد يقال في تبرير هذا اللون من الحكم: إنه أمر تدعو إلى إقراره الضرورة، ولو كان لدى المحكومين الاختيار فيمكنهم من استبداله لاستبدلوه.

 نقول لمن يقدم هذا التبرير: إنه مخطئ في دعواه؛ لأن الشعب إذا ما تعرف على هذا الحاكم وثار عليه تمكن من استخلاص حقه، أما أن ندعوه إلى الخنوع والذل والاستكانة ونطلب منه الطاعة لمثل هذا الإمام الذي غلب عليهم بالقوة والسيف فإننا نعطي هذا الحكم صفة القانون والإلزام، ونوقع الشرع والمتشرعين به في تناقض صريح.

هذه مجموعة الآراء التي يراها علماء العامة أنها أساس ومصدر لشرعية السلطة ونظام الحكم، وبعض المناقشات فيها في الجملة.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

.............................................

[1] الاحكام السلطانية: ج2 ص6 ـ 7 بتصرف؛ وانظر الكامل: ج2 ص330 ـ 331؛ شرح نهج البلاغة: ج2 ص39.

[2] الأحكام السلطانية: ج1 ص23.

[3] الفقه الإسلامي: ج6 ص682 نقلاً عن دراسات في ولاية الفقيه: ج1 ص403 ـ 404.

[4] الملل والنحل: ج1 ص13؛ مستدرك الصحيحين: ج1 ص115 ـ 117.

[5] شرح نهج البلاغة: ج20 ص34.

[6] الفردوس بمأثور الخطاب: ج5 ص257.

[7] الملل والنحل: ج1 ص72.

[8] شرح المقاصد: ج5 ص234.

[9] مغني المحتاج: ج4 ص130.

[10] الأحكام السلطانية: ج2 ص6.

[11] نظام الحكم والإدارة في الإسلام: ص108 ـ 109.

[12] مقالات الإسلاميين: ص460.

[13] الأحكام السلطانية: ج2 ص7.

[14] مغني المحتاج: ج4 ص131.

[15] أصول الدين: ص281.

[16] المصدر نفسه.

[17] المواقف: ص400.

[18] انظر نظام الحكم والإدارة في الإسلام: ص111.

[19] الأحكام السلطانية: ج2 ص6 ـ 7؛ وانظر الإرشاد: ج1 ص285 ـ 286.

[20] المواقف: ص400 ؛ نظام الحكم: ص113.

[21] شرح نهج البلاغة: ج2 ص26.

[22] انظر الإمامة والسياسة: ص12 ـ 13.

[23] الابانة عن أصول الديانة: ص187 بتصرف.

[24] التمهيد: ص179.

[25] أصول الدين: ص284.

[26] أصول الدين: ص285.

[27] شرح المقاصد: ج5 ص233.

[28] الشافعي حياته وعصره: ص121.

[29] نظام الحكم والإدارة في الإسلام: ص117.

[30] الاقتصاد في الاعتقاد: ص97 ـ 98.

[31] حاشية الباجوري على شرح الغزي: ج2 ص259 ـ 260.

[32] الملل والنحل: ج1 ص72.

[33] الفصل في الملل والأهواء والنحل: ج4 ص169 بتصرف.

[34] نظام الحكم والإدارة في الإسلام: ص1120 ـ 121.

[35] الفصل في الملل والاهواء والنحل: ج4 ص169.

[36] الاقتصاد في الاعتقاد: ص97.

[37] مغني المحتاج: ص131.

[38] المصدر نفسه.

[39] الاحكام السلطانية: ج2 ص10.

[40] انظر المسامرة في شرح المسايرة: ص281 وما بعدها؛ المواقف وشرحها للايجي: ج8 ص352 وما بعدها؛ حاشية الباجوري: ج2 ص259.

[41] وتوضيحة ان يقال: انه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفعله جهلا بالصحيح، او يقال: انه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفعله عمدا مع علمه بالمصلحة؛ لغرض ايقاع الناس بالفساد، او انه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفعله عالما عامدا تشفيا من الناس، او لغرض اضلالهم وابعادهم عن طريق الهدى، او خوفا على مصالحه، او خوفا منهم، او لغرض من جهات النقص التي يتنزه عنها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

[42] انظر كنز العمال: ج5 ص601 ح14064، وفيه قال – اي عمر-: ايها الناس، اني قد كنت قلت لكم بالامس مقالة ماكنت وجدت لها في كتاب الله، ولاكانت عهدا عهدها الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن قد كنت ارى ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سيدبر امرنا. انظر المصدر نفسه: ص715 ح4239.

[43] صحيح مسلم: ج4 ص102 – 103 ح12؛ وانظر صحيح البخاري: ج3 ص1355 ح3497.

[44] انظر صحيح مسلم: ج4 ص102 – 103؛ والمصدر نفسه: ج3 ص451 ح16 وح 19؛ صحيح البخاري: ج3 ص1006 ح2589 وح 2590.

[45] سنن ابن ماجه: ج2 ص901 ح2701.

[46] المصدر نفسه: ح2700.

[47] صحيح مسلم: ج3 ص443 هامش 1.

[48] صحيح مسلم: ج3 ص455 ح22؛ مجمع الزوائد: ج4 ص215.

[49] سورة المائدة: الاية 67.

[50] الدر المنثور: ج2 ص298 ؛ وانظر الارشاد: ج1 ص262.

[51] المصدر نفسه.

[52] كنز العمال: ج5 ص724 – 725 ح14243.

[53] الكافي: ج1 ص169 – 170 ح3.

[54] انظر دراسات في ولاية الفقيه: ج1 ص401 نقلا عن الامامة والخلافة: ص272.

[55] الاسلام واصول الحكم: ص183 – 184.

[56] شرح المواقف: ج8 ص352 – 353.

[57] انظر كنز العمال: ج5 ص601 ح14064 وص607 ح14073 وص636 ح14119؛ صفة الصفوة: ج1 ص260 ؛ مجمع الزوائد: ج5 ص186؛ الامامة والسياسة: ص24 – 27 ؛ العقد الفريد: ج4 ص274 – 280 ؛ شرح المقاصد: ج4 ص266 ؛ كشف المراد: ص399 – 400.

[58] السيرة النبوية لابن هشام: ج4 ص300.

[59] العقد الفريد: ج4 ص273 ؛ وانظر شرح المقاصد: ج4 ص247 ؛ والمصدر نفسه: ص288.

[60] انظر الارشاد: ج1 ص285 – 286.

[61] العقد الفريد: ج4 ص281.

[62] انظركنز العمال: ج5 ص741 ح14267.

[63] انظر مجمع الزوائد: ج5 ص192 – 193 ؛ شرح المقاصد: ج4 ص239.

[64] الاحكام السلطانية: ج2 ص13 ؛ شرح المقاصد: ج8 ص254.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 18/آيار/2011 - 14/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م