مقالة العبودية المختارة

كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد!؟

إعداد: مير ئاكره يي

كلمات موجزة:

مذ أقدم العصور التاريخية لبني الانسان في المعمورة كلها، حتى يومنا هذا والاستبداد يشكّل أعظم خطر وأكبر معضلة سبّبت للمجتمعات البشرية مآسي وكوارث وويلات لاتعد ولا نحصى. إذ لم تراق وتستنزف دماء ودموع مثلما أريقت وسالت في طريق الاستبداد من قبل المستبدين لبني جنسهم. وذلك حفظا على سلطانهم الجبري الجوري وسلطاتهم القمعية القهرية للشعوب والنهبية لثرواتها وخيراتها!.

لاشك أن للرئيس المستبد آليات متنوعة ووسائل مختلفة وملتوية يعمل عبرها في ترويض المجتمع، وفي تسكينه وتخديره وتنويمه، وفي قتل مشاعر العزة والأُباة والكرامة والحرية والفطرة لديه.

إن الرئيس المستبد، إضافة الى أجهزته القمعية والبطشية المتمثلة في البوليس السري والظاهري، وفي الأمن والمخابرات والمباحث، وفي الحرس الخاص والقوات الخاصة فإنه أيضا يمتاز بصفات رديئة وسلوكيات مشينة أخرى كالتمثيل والتلوّن والحربائية والخداع والكذب المستمر على الناس، وهو يلعب كل هذه الأدوار المكشوفة لدى ذوى الألباب والثقافة لأنه مُتخم بجنون العظمة ومرضها والتقديس الذاتي، بل التأليه الأنوي لشخصه الزائلة الفانية ولو بعد حين!.

وفي كل ذلك فللرئيس المستبد القمعي النهّاب أعوان ومستشارين باعوا ضمائرهم وحريتهم وكرامتهم وإنسانيتهم ومجتمعهم وبلادهم، لأجل رضا السلطان وما يغدق عليهم من ثروات الشعب، حيث هم يمدّون كبيرهم المستبد أكثر فأكثر من دروب الحيل والتحايل وفنون الخداع، ومن التطور في المناورة والكذب والدجل والرياء لكي يبقى المجتمع على ما هو عليه من سكون وتسكين وتخدير، ومن ذل وإذلال وهوان، ومن فقدان للحرية والكرامة والعزة والارادة والسيادة والثروات!.

على هذا، هناك أكثر من طرف في المجتمع يمكن توجيه اللوم والعتاب والتقصير الشديد لهم وتحميلهم المسؤولية والأوضاع البئيسة التي آلت اليها المجتمع / المجتمعات في ظل حكم الاستبداد والمستبدين، لأنهم العامل في بقاء الرئيس المستبد فترة أطول في سدة الرئاسة وهم ؛ قسم من المثقفين والمتعلمين، وقسم من شيوخ وفقهاء وعلماء الدين، بالاضافة الى البرلمان الصوري والشكلي والتصفيقي الموظّف أولا وأخيرا لخدمة حضرة السلطان وعائلته وحاشيته.

ومن الحيف والاجحاف إطلاق مصطلح البرلمان على هكذا برلمان الذي ارتضى لنفسه العبودية المختارة، كما يقول لابواسييه، لأن هذا الصنف من البرلمان هو برلمان مُسيّر ومُستعبد ومحتل ومغتصب من قبل الرئيس المستبد الحاكم.

 لذا فهكذا برلمان فاقد لخاصية البرلمان وخصائصه ومهامه الكبرى ووظائفه العظمى وأبعاده الهامة للشعب والوطن. وهذا النوع من البرلمان لايوجد في قاموسه، ولا في جدولة أعماله الاعتراض والمعارضة وسحب الثقة من الحكومة، أو من الرئيس الحاكم اذا ما جاروا واستبدوا وناقضوا القوانين ومصالح الشعب والبلاد، واذا ما نهبوا الثروات الوطنية نهبا وآستعبدوا المواطنين إستعبادا، بل بالعكس فإن هذا النمط من البرلمان تخصّص في التبريك والمباركة والمبايعة الدائمة للرئيس الحاكم السلطان والابتهال له، مع الموافقة والمسايرة الدائمة له والتصفيق الحار له ولو كان على حساب البلاد والعباد، وعلى حساب دمائهم وآهاتهم ومظلوميتهم ومظالمهم ومعاناتهم!.

..............................................

مقالة العبودية المختارة!

بقلم: الفيلسوف الفرنسي إيتيين دي لابواسييه

 [ أما طغاتنا نحن فقد نثروا في فرنسا رموزا لا أدري كنهها كالضفادع، والزنابق، والقارورة المقدسة، والشعلة الذهبية، وكلها أشياء لا أريد أيّا كانت ماهياتها أن أثير التشكك فيها ما دمنا، وما دام أجدادنا، لم نر مدعاة للارتداد عن تصديقها، إذ وهِبنا على الدوام ملوكا طيبين في السلم، شجعان في الحرب، حتى ليخال المرء أنهم وإن ولدوا ملوكا لم تُسوِّهم الطبيعة على غرار الآخرين، وإنما إختارهم الله القدير قبل أن يولدوا لحكم هذه المملكة والحفاظ عليها. وحتى لو لم يكن الأمر كذلك لما أردت الخوض في الحديث عن صحة قصصنا، ولا نقدها نقدا دقيقا، حتى لا أفسد جمالا قد يتبارى فيه شعراؤنا أمثال رونسار وباييف وبلاي، الذين لا أقول إنهم حسّنوا شعرنا، بل خلقوه خلقا جديدا، وبذا تقدموا بلغتنا تقدما يجعلني أجرؤ على الأمل في ألاّ تعود بعد ذلك لليونانية واللاتينية مزية عليهم سوى حق الأقدم. فلا شك في أني سوف أسيء الآن الى نظْمنا، ولا أنكر أني أستخدم هذه الكلمة طواعية، لأنه اذا كان من الحق أن البعض قد جعل من النظْم صنعة آلية، فمن الحق أيضا أن هناك عددا كافيا من القادرين على إسترجاع نبله ومقامه الأول، أقول إني أسيء الآن الى نظْمنا لو أني جرّدته من حكايات الملك كلوفيس الجميلة، بعد أن رأيت بأيّ رشاقة وسهولة يسبح فيها وحي رونسار في فرنسوياته. إني أحس أثر الرجل في المستقبل، إني أعرف توقّد فكره وأعلم لطفه، لسوف يوفي الشعلة الذهبية حقها مثلما صنع الرومان بدروعهم، دروع السماء الملقاة على أرضنا.

كما يقول فرجيل، لسوف يرفق بقارورتنا الأثينيين بسلّة أريكتون، ولسوف يجعل الناس تشيد بشعاراتنا مثلما شاد الأثينيون بغص الزيتون، الذي لا زالوا يحفظونه في برج مينرفا. لهذا كنت أتجاوز الحد يقينا لو أني أردت تكذيب كتبنا وجريت في مراتع شعرائنا. ولكني لكي أعود الى موضوعي الذي لا أدري كيف أفلت مني خيطه، ألحظ أن الطغاة كانوا يسعون دائما كيما يستتب سلطانهم، الى تعويد الناس على أن يدينوا لهم لا بالطاعة والعبودية فحسب، بل بالاخلاص كذلك. فكل ماذكرته حتى الآن عن الوسائل التي يصطنعها الطغاة ليعلّموا الناس كيف يخدمونهم طواعية إنما ينطبق على الكثرة الساذجة من الشعب.

إني أقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها على ما أعتقد مفتاح السيادة وسرها، وفيها أيضا يكمن أساس الطغيان وعماده. إن من يظن أن الرمّاحة والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطيء في رأيي خطأ كبيرا. ففي يقيني أنهم يعمدون اليها مظهرا وإثارة للفزع لا إرتكازا عليها. فالقوّاسة تصد من لا حول لهم ولا قوة على إقتحام القصر، ولكنها لا تصد المسلحين القادرين على بعض العزم.

ثم إن من السهل أن نتحقق أن أباطرة الرومان الذين حماهم قوّاسوهم يقلون عددا عمن قتل حراسهم، فلا جموع الخيّالة، ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة، تحمي الطغاة. الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى، ولكنه الحق عينه، هم دوما أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدّون له البلد كله الى مقود العبودية، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ اليهم أذن الطاغية، يتقرّبون منه أو يقرّبهم اليه ليكونوا شركاء جرائمه، وخُلاّن ملذاته، وقواد شهواته، ومقاسميه فيما نهب. هؤلاء الستة يدرّبون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لا بشروره وحدها، بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع، يوكلون اليهم مناصب الدولة ويهبونهم إما حكم الأقاليم، وإما التصرّف في الأموال، ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم، وليطيّحوهم بهم متى شاؤوا، تاركين إيّاهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاء إلاّ في ظلّهم، ولا بعدا عن طائلة القوانين وعقوباتها إلاّ عن طريقهم. ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك!.

إن من أراد التسلّي بأن يتقصّى هذه الشبكة وسعَهُ أن يرى لا ستة آلاف، ولا مئة ألف، بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل، مثل جوبيتر، إذ جعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب اليه الآلهة جميعا. من هنا تضخّم مجلس الشيوخ في عهد يوليوس، وجاء خلق المناصب الجديدة، وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه، كل هذا يقينا لا من أجل إصلاح العدالة، بل أولا وأخيرا من أجل أن تزيد سواعد الطاغية.

 خلاصة القول إذن، هي أن الطغاة تُجنى من ورائهم حظوات، وتجنى مغانم ومكاسب، فإذا بالذين ربحوا من الطغيان، أو هكذا هُيِّىء اليهم، يعدلون في النهاية من يؤثرون الحرية. فكما يقول الأطباء ؛ إن جسدنا لا يفسد جزء منه إلاّ إنِ آنجذبت أمزجته الى هذا الجزء الفاسد، من دون غيره، كذلك ما إن يعلن ملك عن إستبداده بالحكم إلاّ إلتفّ حوله كل أسقاط المملكة وحُثالاتها، وما أعني بذلك حشد صغار اللصوص والموصومين الذين لا يملكون لبلد نفعا، ولا ضرا، بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد، يلتفون حوله ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة، وليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغّرين في ظل الطاغية الكبير!.

هكذا الشأن بين كبار اللصوص ومشاهير القراصنة: فريق يستكشف البلد، وفريق يلاحق المسافرين، فريق يقف على مرْقَبة، وفريق يختبيء، فريق يقتل وفريق يسلب. ولكنهم وإن تعدّدت المراتب بينهم، وكانوا بعض توابع وبعض رؤساء، إلاّ أنه ما من أحد منهم إلاّ خرج بكسب ما، إن لم يكن بالغنيمة كلها فيما إنتشل. ألا يحكي أن القراصنة الصقليين لم تبلغ فقط كثرة عددهم حدا لم يجعل بُدا من إرسال < بومبي > أعظم قواد العصر لمهاجمتهم، بل هم فوق ذلك قد جرّوا الى التحالف معهم عددا كبيرا من المدن الجميلة، والثغور العظيمة، التي كانوا يلوذون بها بعد غزواتهم لقاء بعض الربح مكافأة على إخفاء أْسْلابهم!؟

هكذا يستعبد الطاغية رعاياه بعضهم ببعض، يحرسه من كان أولى بهم الاحتراس منه لو كانوا يساوون شيئا، وهكذا يصدق المثل: لا يفلأّ الخشب إلاّ مسمار من الخشب ذاته، هاهو ذا يحيط به قوّاسته وحرّاسه وحاملو حرباته، لا لأنهم لا يقاسون الأذى منه أحيانا، بل لأن هؤلاء الضالّين الذين تخلّى الله عنهم، وتخلّى عنهم الناس، يستمرئون إحتمال الأذى حتى يردّوه لا الى من أنزله بهم، بل الى من قاسوه مثلهم من دون أن يملكوا إلاّ الصبر. غير أني إذ أنظر الى هؤلاء الضالّين الذين يجْرون وراء كُرات الطاغية، حتى يحققوا مآربهم من وراء طغيانه، ومن وراء عبوادية الشعب على حد سواء يتملكني أحيانا كثيرة العجب لردائتهم، وأرثي أحيانا لحماقتهم: فهل يعني القُرب من الطاغية، في الحقيقة، شيئا آخر سوى البعد عن الحرية وإحتضانها بالذراعين، اذا جاز التعبير؟. ]

* كاتب بالشؤون الاسلامية والكوردستانية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 14/نيسان/2011 - 10/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م