خيار الأنظمة المستبدة بين يوم الغضب وميدان التحرير

خليل الفائزي

من المؤكد ان انتصار الانتفاضات في الدول المستبدة وسقوط الأنظمة التوريثية والحكام الطغاة الواجد تلو الآخر في دول المنطقة والعالم يشكل عرسا رائعا وانتصارا باهرا للجماهير المنتفضة خاصة وان الشعوب الثائرة والمتحررة بدأت تدرك قدرتها وصارت تتحدى بثبات وشجاعة الحكومات البوليسية والأنظمة المحتكرة للسلطة، وخلافا لمزاعم المنظّرين وبعض السياسيين والإعلاميين الذين ظلوا ولازالوا يشككون بإمكان انتصار اي انتفاضة وثورة في حال افتقادها لقيادة معروفة وبارزة او حتى لنهج معروف وفكر مدون فان الجماهير لوحدها استطاعت قيادة الانتفاضات وحققت ما لم تحققه الأحزاب والتجمعات والشخصيات وانتصرت إرادتها وعزمها وصمودها على أقوى الأنظمة الاستخباراتية وسوف تنتصر قريبا المزيد من الجماهير على الحكام المحتكرين للسلطة بشكل أكيد ولا ريب فيه لان أوراق جميع الزعماء والمسئولين المستبدين قد انكشفت وسقطت ورقة التوت عن عراهم واتضح مدى نهبهم للمال العام وقمعهم لارادة المواطنين وإصرارهم غير القانوني للبقاء في السلطة والمسئولية لمدى الحياة او على الأقل حتى اندلاع انتفاضة الجماهير الجارفة للحكام الطغاة والأنظمة المستبدة

وبالرغم من ان الانتفاضة في تونس ظلت مبتورة ولم تحقق كافة أهدافها المرجوة حتى الان لاسيما ضرورة إسقاط النظام الحاكم وإنزال العقوبات برموز النظام السابق، وبالرغم من ان الانتفاضة العارمة والشجاعة في مصر لم تنتصر بالكامل على أركان نظام مبارك القمعي والمستبد الا انه من المؤكد هاتين الانتفاضتين شكلتا انعطافا هاما ومسيرا منارا في إطار تحفيز شعوب المنطقة للقيام بثورة هادرة على الأنظمة الطاغية وضرورة إلزام كافة الأنظمة والحكومات بقبول قرار إرادة أكثرية الشعب والتحول من دول توريثية او مستبدة او حكومات محتكرة ومتفردة بالسلطة الى دول دستورية وحكومات مبنية على تشريعات قانونية وأسس مدنية وإنهاء قرارات حكام ومسئولي الأنظمة الداعية دوما تحقير وإذلال المواطنين من خلال مصادرة حقوقهم وتقليص حرياتهم ورفع أسعار السلع الأساسية والخدمات الحكومية لملأ جيوب المنتفعين من الأنظمة الناهبة لخيرات وعائدات البلدان.

ان من ابرز المهازل السياسية والإعلامية التي رافقت انتفاضة تونس وبعدها انتفاضة مصر، هو زعم بعض الشخصيات والمسئولين في هذين البلدين ودول أخرى من انهم كانوا وراء اندلاع واستمرارا الانتفاضات في المنطقة وانهم توقعوا حدوثها منذ عدة عقود لكنهم لم يفصحوا عن ذلك حتى حين انتصارها!.

والأكثر سخرية في هذا السياق زعم أولئك الذين قالوا من ان الانتفاضات التي تحدث الان هي نسخة مقتبسة من بعض الثورات والأنظمة في المنطقة والعالم او الادعاء زيفا من ان أفكار ومناهج شخصيات هذه الأنظمة كانت الحافز الرئيسي لاندلاع الانتفاضة في تونس وبعد أيام ما شهدناه من تدرج سريع لاندلاع شرارة الثورة الجماهيرية في مصر وحتى هروب مبارك المذل الذي كان يترأس اعتى وأقوى الأنظمة البوليسية والقمعية في المنطقة وكان يعد ركيزة أساسية للمخططات الأمريكية والسبّاق للمساومة مع إسرائيل.

للرد على مثل هذه المزاعم لابد من التذكير هنا من ان الانتفاضة في تونس حدثت بشكل عفوي جدا وانطلقت شرارتها على اثر إحراق شاب عاطل عن العمل نفسه وانتشار صوره وأخباره على الإنترنت مما أوجد حالات من السخط والغضب على نظام بن علي، وكذلك انتفاضة الشعب المصري اتسعت على اثر نجاح الانتفاضة في تونس وإقدام العديد من الشباب بإحراق أنفسهم لفضح سياسة نظام مبارك الرامية لتجويع الشعب ونهب الثروات وتكديس الأموال في حساب أسرة مبارك طيلة العقود الماضية.

وقد ساهم الإنترنت بشكل مباشر في تواصل الشباب في مصر للتجمهر في ميدان التحرير ورفع شعارات الإصلاح والتغيير التي تحولت بعد ذلك الى إصرار جماهير لاسقاط النظام، ومع هذا لا يمكن الزعم من ان الإنترنت او فيس بوك او موقع كوكل اواي من التقنيات الرقمية والاتصالات كانت وراء اندلاع هذه الانتفاضة لان نظام مبارك ومنذ اليوم الاول للانتفاضة سارع لقطع الإنترنت والاتصالات وفرض حصار إعلامي على كل البلاد ومع هذا لعبت أجهزة الإعلام المرئية ونقصد القنوات الفضائية دورا أساسيا في فضح أساليب النظام وعجلت بسقوطه، وايضا لايمكن الجزم من ان هذه القنوات كانت الدافع الأساسي وراء استمرار الاعتراضات والانتفاضات، فكيف يسمح البعض لأنفسهم بالزعم انهم او أفكارهم كانت وراء الانتفاضتين في تونس ومصر بل والتباهي بأنهم قادتها الواقعيون وأصحاب الفضل على الجماهير في تونس ومصر، حسب زعم هؤلاء الذين لا شغل ولا عمل لهم سوى التدخل غير الإنساني وغير الأخلاقي في شئون الدول والأمم الأخرى دون إصلاح الأوضاع في بلدانهم.

وكما أكدنا في السابق ونؤكد دوما ان اي انتفاضة تحدث قريبا في اي بلد وهي متوقعة اندلاعها خلال أيام مقبلة في اليمن والجزائر ومن ثم الأردن وليبيا والعراق ودول أخرى تخص البلد ذاته وهي انتفاضة مستقلة وذاتية الحركة ولشعب شجاع وثوري ولبلد ذات سيادة ولا يحق لاي مسئول سياسية وإعلامي من دول أخرى التدخل وحشر انفه الطويل قسرا في شئون ومسير الانتفاضات الجماهيرية لانها ستشمل قريبا جميع الأنظمة المستبدة والمحتكرة للسلطة وان الدور آت على جميع الحكام الطغاة، ونقترح هنا على الجماهير المنتفضة بان تواصل انتفاضاتها دون توقف او ركون مع الأخذ بعين الاعتبار هذه النصيحة وهي ان يكون اندلاع كل انتفاضة شعبية به انتهاء تحقق مطالب وإرادة الانتفاضة التي سبقتها في دولة أخرى وبعبارة أدق ان لا تكون الانتفاضات فجائية في آن واحد في عدة دول لان الإعلام الإقليمي والدولي سيكون مجبرا التركيز على واحدة منها فقط ويتجاهل الانتفاضات الأخرى او يتعمد بعدم نقلها ووضعها تحت المجهر الإعلامي خاصة من خلال الفضائيات كما حدث مؤخرا في الأردن واليمن ودول عدة حيث تزامنت الاعتراضات في هذه البلدان مع انتفاضة الشعب المصري فإختار الإعلام الإقليمي والعالمي التركيز على هذه الانتفاضة دون سواها وعدم التوجه او إعارة اي اهتمام واقعي للاعتراضات التي اندلعت في الدول المشار إليها.

 ولكن مع هذا فانه وبعد تحقق إرادة الشعب المصري ولو على الظاهر بتنحي مبارك عن السلطة، فإننا ندعو الجماهير المستعدة والمتحفزة لخوض المواجهة مع الأنظمة المستبدة في الدول التي فيها أرضية مناسبة للانتفاضة، البدء فورا بالتنظيم والتنسيق والتجمهر واختيار المكان المناسب للمعترضين على غرار ميدان التحرير ليكون رمزا لانطلاق الاعتراضات والتمدد بالانتفاضة الى مدن ومناطق أخرى، ونتحدى اننا دعاة إرساء المجتمعات المدنية كافة الأنظمة في المنطقة خاصة تلك الزاعمة زيفا وبهتانا من ان الشعب يقف الى جانبها ويعبد المواطنون قادتها صبحا وعشية ان تسمح هذه الأنظمة للجماهير مرة كل أسبوع او كل شهر او حتى مرة كل عام في يوم محدد بنيل الحرية كاملة للتجمهر في ساحة عامة مثل ميدان التحرير ليكون منبرا حرا لبيان وجهات النظر وإبداء اعتراضات الجماهير ورفع لافتات وإطلاق شعارات تعبر عن إرادة المواطنين وما يجول في نفوسهم من آراء وأفكار ومواقف، شريطة ان لا يتم قمع او احتواء مثل هذه الاعتراضات السلمية والحضارية وان لا يقطع الإنترنت والاتصالات ولا يتم التشويش على القنوات الفضائية وان يسمح لأجهزة الأعلام المحلية والعالمية بتغطية هذه الاعتراضات وان يتعهد النظام الحاكم والمنفرد بالسلطة بان لا يتعقب او يعتقل اي من المعترضين والمطالبين بحقوقهم او حتى الذين يعرضون وجهة نظرهم بشكل منتقد للسلطة وهو أمر مقبول ودارج في العديد من الدول العصرية والمتقدمة في مجال حقوق الإنسان والحفاظ على موقف المعارضة واحترام رأي الناقدين للحكومة.

من المؤكد ان مثل هذا الاقتراح الذي هو في الواقع لصالح الجميع بما فيهم الحكام والمواطنين والمعارضين لانه يعطي الفرصة من جهة للمواطنين والمعارضين الحضور في ساحة عامة للتعبير عن آرائهم وتقديم مقترحات مفيدة وطرح المعضلات في إطار مدني وحضاري، ومن جهة أخرى يستفيد النظام الحاكم كثيرا من معرفة مطالب الشعب او جزءا منها مباشرة وليس عبر القنوات الأمنية المغرضة ويطلع على حقيقة الأزمات والمعضلات القائمة والتي يغطيها او يحورها التافهون الإعلاميون من عملاء النظام والمسئولون غير الأكفاء بالمسئولية، وثانيا ان النظام سوف يحظى بفرصة كبيرة لتنفيس المواطنين والمعارضين عن أنفسهم شهريا او مرة كل عام من خلال الحضور في ساحة مخصصة لطرح المعضلات والشكاوى بدلا من تكدس الاعتراضات والانتقادات وتحولها الى بالون من الغضب الجماهيري الذي قطعا له حجم محدود مهما كبر واتسع وسوف ينفجر في النهاية مع او شرارة تنطلق من اي معترض او فئة فاضت بها الاعتراضات وصارت ترجح الموت على البقاء في وطن مليء بالمذلة للنظام ومقيدة بأصفاد سياسية وأغلال أمنية وإجراءات قمعية.

من هنا ندعو كافة الأنظمة خاصة تلك التي انتفخت جيوب وحسابات حكامها ومسئوليها بأموال وعائدات الشعوب وتلك الدول التي تفتقد لقوانين وأسس دستورية وليست فيها انتخابات واقعية ونزيهة اويتم تزوير نتائج الانتخابات والتلاعب بأصوات الناخبين والإصرار على مواقف غير مقبولة من جانب أغلبية الجماهير والاختباء وراء متاريس وادعاءات غير مدنية وغير قانونية لتبرير التمسك بالسلطة والانفراد بالحكم، وتلك الأنظمة المبنية على أرضية هشة للنظام الشخص الواحد وأنظمة توريث الحكم دون إرادة المواطنين والأنظمة التي تفتقد اوفيها سلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية شكلية وخاضعة لقدرة الحاكم المستبد او تلك الأنظمة الخاضعة لسلطة السلاح وبطش القوات المسلحة والمراكز الأمنية والعسكرية وتلك الأنظمة المستبدة التي تعتبر أعضاء القوات المسلحة والميليشيات والمنتفعين ماديا من النظام بأنهم أبناء الشعب وان هؤلاء يمثلون إرادة المواطنين من خلال الزج بهم دوما في الشوارع للدفاع عن مواقف النظام وتبرير سياساته الخاطئة ولاستمرار نظام الفرد الواحد لعقود من الزمن حتى يتذكره ملك الموت عزرائيل، وتلك الأنظمة التي لا تعترف بتاتا ولا باي شكل من الأشكال بموقف المعارضة والقوى الناقدة والأفكار البناءة والمفيدة أساسا لاصلاح أركان البلاد، وتعارض ايضا دعاة الإصلاح وأصحاب الآراء الناقدة وتعتبرهم خارجين عن القانون ودعاة للفوضى والشغب وتصر عللا قمعهم وتصفيتهم.

على هذه الأنظمة ان تدرك من ان عهد أنظمة انا ربكم الأعلى قد انتهى وعهد إستغباء وإستحمار الناس وخدعهم بالشعارات والخطابات قد تلاشى وعهد الاستفراد بالسلطة وتحكم شخص واحد بمصير الملايين قد سقط الى دون رجعة وان الشعوب اليوم باتت حرة وواعية وهي تصر على تعيين مصيرها بنفسها ولا تسمح من الان وصاعدا التلاعب بإرادتها ونهب ثرواتها وإذلالها او تجويعها وتقييدها بأغلال الكبت والاستبداد.

 ومن البديهي القول هنا ان الذي كان يحول او يبطأ حركة اندلاع انتفاضة الشعوب وعدم تحقق مطالب المواطنين كان هو حاجر الخوف من قمع الأنظمة المستبدة التي أسست لها خلال العقود الماضية جيشا من المرتزقة والمنتفعين المسلحين الذين أوهمهم النظام بضياع مصالحهم واحتمال محاكمتهم وقتلهم في حالة سقوط رأس النظام الحاكم، فإذا سقط حاجز الخوف او تبدد جزء منه فمن المؤكد ان الجماهير سوف تنزل الى الشوارع وتزداد قوة وعددا خلال أيام فقط، فاذا سمح اي نظام مستبد بإيجاد ميدان تحرير في بلاده فانه قد ينجو من تحول الانتفاضة السلمية الى ثورة غضب شعبية كاسحة لا يمكن التكهن بمصير اي من المسئولين والحكام وأسرهم ولا يمكن التصدي او احتواء اي عمليات ثأر وانتقام، وغير ذلك فان هذه الأنظمة عليها ان تعلم من ان النصر آت لا ريب فيه على يد الجماهير وان ليس هناك اي نظام محصن او مستثنى من قاعدة ثورة الغضب والعصيان المدني وإجبار رأس النظام المستبد الرحيل عن السلطة او التنحي الفوري والركوع أمام إرادة الأحرار من الجماهير الغاضبة والثائرة في المنطقة.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/شباط/2011 - 11/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م