لا مكانة للأنظمة العسكرية في المجتمعات المدنية

خليل الفائزي

ابتلت الأمم والشعوب ومنذ فترة انتقال السلطة من الاستعمار الحديث الى ما تسمى الأنظمة التوريثية والجمهوريات السياسية خاصة في العقود الأخيرة من القرن الماضي، بأنظمة دكتاتورية ومستبدة ومحتكرة للسلطة لم تجلب الذل والاحتقار والبؤس والحرمان والمساومة والتخلف للجماهير والمجتمعات العربية والإسلامية فحسب بل ونهبت هذه الأنظمة وأسيادها من الدول الأجنبية أموال وعائدات وخيرات هذه الدول تحت ذرائع وشعارات براقة ومخادعة لم تحقق اي من تطلعات وأهداف الشعوب طيلة العقود الماضية.

ومن أقسى الأنظمة وأكثرها استبدادا وقمعا لارادة الجماهير كانت ولازالت هي الأنظمة العسكرية والأمنية او تلك التي قاد حكمها عسكريون وامنيون انقلبوا على الأنظمة السابقة بحجة قيادة الثورة الشعبية والدفاع عن حقوق المواطنين ونيل الحرية وصيانة الاستقلال. ولكن يا ترى لماذا نعارض نحن دعاة إرساء المجتمعات المدنية في الدول العربية والإسلامية فكرة إبعاد كافة القادة العسكريين والأمنيين عن مقاليد السلطة المدنية والسلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية وحتى إبعادهم بالكامل عن السلطة الرابعة اي سلطة الصحافة والإعلام؟

 ان جميع الحقائق والدراسات الاجتماعية والعلمية المستقلة أكدت من ان بعض الذين ينخرطون في السلك العسكري لمدة طويلة ، والطبع لا نقصد هنا خدمة العلم او التجنيد الإلزامي الذي له مدة معنية في كل دولة وهي خدمة وطنية قطعا، هم بالأساس من الفاشلين في الحياة الاجتماعية او غير الموفقين في الدراسة والعمل وعدم حصولهم على اي شهادات جامعية او تحقيق إنجازات علمية او إنسانية وهؤلاء العسكريون الذين يتدرجون في الجيش او القوات المسلحة يحصلون بعد أعوام او عقود من الزمن على درجات ورتب عسكرية تمكنهم من تنفيذ نواهم الخبيثة وتخضع تحت أمرتهم قوات عسكرية ومجندين يستطيعون بعدها التغلغل في أركان ومؤسسات النظام والضغط على الحكومة لكسب مزايا فئوية ومزايا شخصية او يتمكنون حتى من القيام بانقلابات عسكرية للإطاحة بالأنظمة المدنية او غير المدنية في إطار التنافس او التناحر على السلطة وليس لتنفيذ إرادة الجماهير، وخير نموذج في هذا السياق هو نظام القذافي القمعي في ليبيا ونظام مبارك المستبد في مصر ونظام الهارب بن علي في تونس ونظام أسرة الأسد العسكرية في سوريا ونظام البشير الذي قسم السودان وباع بلاده لحفظ عرشه وأنظمة عربية وإسلامية أخرى كلها تدخل في نطاق الأنظمة القمعية والمعارضة لارادة الجماهير، وحتى نوع وشكل الحكومة في لبنان الذي هو من المفترض والمزعوم ان يكون قدوة للأنظمة العربية في مجال توزيع السلطات الا انه صار أكثرها مهزلة وتم تقسيم السلطات على أساس طائفي ومذهبي واحتكرت مسئولية رئاسة الجمهورية لأشخاص عسكريين مثل اميل لحود وميشال سليمان باعتبارهما قائدين للجيش وليست لهما اي تجارب او خبرات في المجال السياسي.

 وكذلك الوضع في دول عربية وإسلامية أخرى حيث سيطر العسكريون بالقوة على مقاليد السلطة وصاروا يحكمون الشعوب فيها قسرا وبقوة الحديد والنار بعدما خلع بعضهم زيه العسكري واستبدله بزي مدني وتحول القادة العسكريون الى رؤساء للجمهورية ورؤساء للوزارات ونواب في المجالس والبرلمانات وحصلوا هؤلاء فورا ودون دراسة او جهد على شهادات جامعية عليا مثل الدكتوراه والتخصص في مجالات تثير السخرية والضحك كما هو الحال لشخص مثل علي عبدالله صالح الذي كان عريفا في الجيش اليمني اي أدنى درجة من ضابط وتحول الى رئيس للجمهورية بدعم من أمريكا وبريطانيا، فيما يطلق على رؤساء للجمهوريات وحكام لأنظمة أخرى ألقاب وعناوين مثل البروفيسور والدكتور والملك والأمير والزعيم والقائد والمشير والرب الذي يمشي على الأرض وغيرها من الألقاب غير الواقعية وغير الجديرة والتي هم من أطلقوها على أنفسهم او نعتتهم بذلك الدول التي كانت تستعمر دول المنطقة وهذه الألقاب قطعا ليست من حقهم ولا تنطبق عليهم لانه وكما أوضحنا ان معظمهم لم يحصلوا حتى على شهادات ابتدائية مثل العريف اليمني علي عبدالله وابو الخيمة القذافي والبشير المقسم للسودان خير دليل على ان هؤلاء أميون او لم ينالوا شهادات عليا انهم لا يجيدون التحدث على مستوى شخص جامعي متعلم او حتى ترجمة جملة "كيف الحال" بالإنجليزية ولا يستطيعون النطق بثلاث جمل مفيدة وان معظم هؤلاء قضوا حياتهم في المعسكرات والثكنات لفترات طويلة فكيف حصلوا على كل هذه الألقاب المدنية والشهادات الجامعية ؟

إضافة الى ذلك فان حكام وملوك مفروضين بقوة الاستعمار الحديث كالذين يحكمون في الأردن والبحرين ودول أخرى وبهدف إرعاب المواطنين ونشر حالات القمع والكبت فقد رأيناهم يلبسون ايضا الزي العسكري ويختارون لانفسهم درجات عالية في الترتيب العسكري وكأنهم حاصلون على شهادات عليا في الجامعات المدنية والقوات المسلحة في آن واحد ولكن مثل هذه التصرفات سوف تساهم وتعجل فقط في إسقاط هذه الأنظمة لان جميع المواطنين يرفضون عادة الحكومات والأنظمة العسكرية القمعية ولا يحبذون ان يحكمهم شخص عسكري مستبد برأيه وطاغية بتصرفاته.

 ومن البديهي القول أيضا ان شخصية القادة العسكريين هي شخصية قاسية وشديدة وغير مستقرة ولا رحمة ولا رأفة لهم في الغالب وانهم يميلون للتطرف والعنف بالإضافة انهم نرجسيون وأنانيون ويعتبرون كافة أبناء الشعب عبيد وجنود لديهم وعلى الجميع إطاعتهم والتذلل لهم دون إبداء اعتراض او انتقاد على غرار الأنظمة الفرعونية "انا ربكم الأعلى"، وهذه الخصائص وغيرها ولدت على مرور الأعوام حالات من الاستبداد والدكتاتورية لدى جميع الأنظمة الخاضعة لسلطة العسكريين، ولاحظنا كيف تعامل نظام بن علي بقسوة مع أبناء شعبه في تونس وكيف قمع نظام علي صالح الشعب في شمال وجنوب اليمن بكل استبداد ووحشية وكذلك كيف تعامل نظام مبارك الذي نهب 70 مليار دولار من جيب الشعب المصري الفقير بكل حقارة وقسوة مع الانتفاضة الأخيرة وكيف عين نائبا ورئيس وزراء له من العسكريين الانتهازيين لابقاء نفسه في السلطة، وفي خطة مدروسة وخبيثة دفع قوات الحرس الجمهوري باسم الجيش المصري لاحتواء انتفاضة الجماهير المصرية ونجح في ضرب حصار شامل وقوي على المعترضين والثوريين وحاصرهم في ميدان التحرير لمنع تمددهم الى مناطق أخرى في القاهرة ، وبإسم تلاحم الجيش مع الشعب هددت دبابات القوات المسلحة عدة مرات باقتحام مكان المنتفضين في ميدان التحرير اذا واصلوا اعتراضاتهم على النظام وإصرارهم على طرد مبارك من رأس السلطة ورأينا نذالة أساليب وقسوة قلوب العسكريين في عمليات دهس المواطنين بشاحنات عسكرية في العديد من دول المنطقة وكيف أطلق الامنيون والعسكريون النار بكل خسة ودون رحمة النار على المعترضين العزل في هذه الدول بما فيها مصر وتونس ، وكل ذلك تم تحت يافطة وقوف قادة الجيش والقوات المسلحة الى جانب الشعب وحماية أمن البلاد وحفظ الاستقرار والهدوء في حين ان هدفها الأول والأخير هو حفظ مصالح الأنظمة القمعية والدفاع عن منافع المستبدين من الحكام والقادة.

 وفي تونس استطاع الجيش احتواء غضب الشعب منع تحول الانتفاضة الى ثورة عارمة تطيح بالنظام كله وليس قطع رأسه فقط خاصة وان هذا الرأس المقطوع استطاع وتحت حماية الجيش الهروب بمليارات الدولارات مصطحبا معه طائرات محملة بالمجوهرات والذهب الى الخارج دون اعتراض اي من القادة العسكريين الذين هم شركاء اساسيون في عمليات النهب والقمع، فأي جيش وطني هذا يدافع عن أركان الأنظمة المستبدة ويحافظ على الأموال التي نهبوها ويهرب قادتها علانية الى الخارج ويمنع المواطنين من الاستمرار بالانتفاضة ويحول دون تحقيق أهدافهم الداعية لإرساء الثورات الشعبية والحكومات المنبثقة من إرادة الجماهير؟

الى جانب الحكم القسري والباطل شرعا وقانونا للمسئولين العسكريين في السلطات الثلاث ، فإن حكم او مسئولية اي من القادة العسكريين والأمنيين وأمناء السجون اواي من المسئولين في الأركان العسكرية او شبه العسكرية والأمنية والاستخباراتية اوفي الاجهزة الإعلامية والمراكز الخطابية باطل ومدان وغير مقبول في إطار المجتمعات المدنية لانه مبني بالأساس على أركان هشة وغير قانونية وان الأنظمة والأجهزة العسكرية جاءت وظلت في الحكم بشكل قسري وبعيدا عن قبول ورضاء الجماهير او معظمها.

ان افضل مكان للمسئول الأمني او القائد العسكري هو منصبه في القوات المسلحة ومسئوليته في جهازه ومركزه العسكري الذي يجب ان يكون خارج المدن وبعيدا عن المؤسسات المدنية. فلا يحق لاي من المسئولين العسكريين والأمنيين إدارة مؤسسة إذاعة وتلفزيون او رئاسة تحرير صحيفة او وكالة أنباء او حتى اي موقع سياسي وإعلامي حكومي مهما كان، الا في حالة استثنائية واحدة وهي ان ينهي المسئول العسكري والأمني وبشكل واقعي كل ارتباطاته العسكرية والأمنية وينفض عقله وروحه وفكره من الطرق الاستخباراتية والأساليب العسكرية وان يتعهد أخلاقيا وقانونا بخدمة إرادة المواطنين وان يكون واحدا منهم على مستوى أفقي وليس مرؤوسا ومفروضا عليهم.

من المؤسف اننا نلاحظ ولدينا أدلة ووثائق تكشف وتؤكد من ان معظم او بالأحرى جميع المسئولين الإعلاميين والسياسيين وحتى نواب البرلمانات وقضاة المحاكم في الكثير من الدول العربية والإسلامية هم بالأساس من كبار المسئولين العسكريين والأمنيين وان هؤلاء ارتكبوا ويرتكبون ابشع الجرائم ضد الإنسانية من خلال انتهاك حقوق المواطنين والعمل لصالح قادة النظام والحكومة ضد إرادة أكثرية أيناء الشعب الى جانب عمليات النهب والسلب للمال العام وهذا الأمر قطعا مرفوض في اي مجتمع مدني الذي يجب ان يكون مسئوليه وقادته السياسيين والإعلاميين من صفوة المفكرين ونخبة المثقفين وحماة المواطنين وليس من الجهلة العسكريين والأميين الأمنيين.

اننا ندعو كافة الشعوب المنتفضة او تلك التي تنوى الانتفاضة ضد قادتها المستبدين اذا كانت لدى تلك الشعوب ذرة من الشجاعة والمروءة وسجايا الثوار والأحرار، ان تطالب هذه الشعوب برحيل العسكريين والأمنيين من مناصبهم ومسئولياتهم في المراكز السياسية وأركان السلطة التنفيذية والمؤسسات الإعلامية وان لا يسمح ايضا لمثل هؤلاء الترشيح لعضوية البرلمان والمجالس البلدية ولا حتى قيادة الأحزاب السياسية والمراكز المدنية لان مكانهم الواقعي هو داخل الثكنات العسكرية والمراكز الأمنية واننا دعاة إرساء المجتمعات المدنية في الدول العربية والإسلامية نحترم القادة العسكريين والأمنيين اذا كانوا في ثكناتهم وقواعدهم التي من الضروري ان تكون خارج المدن وان تكون مهام القوات المسلحة مهما كانت منظمة او شبه منظمة منصبة لمواجهة الأخطار الخارجية والتصدي لعدوان الأجانب وليس ان تستغل القوات المسلحة او القوات الشعبية المزعومة في مواجهة المواطنين وقمع الشعب وإرعاب الناس تحت ذريعة حفظ الأمن واستقرار البلاد وهدوء المجتمع التي هي مهمة قوى الشرطة فقط وعلى تكون مهمة قوى الشرطة حفظ الأمن والدفاع عن حقوق المواطنين بشكل واقعي وعملي وليس لقمعهم او الانتقاص من حرياتهم الشخصية المعترف بها شرعا وقانونا.

ونظرا لان الأجهزة العسكرية والأمنية قد اتسعت وتفشت في بلداننا العربية والإسلامية وأصبحت كالوباء القاتل تسيطر على الأركان السياسية وتحول القادة العسكريون من معدومين ماليا ومحرومين ماديا الى أغنى الأغنياء وأثرى الأثرياء بسبب عمليات السطو وسلب المال العام وعقد الصفقات المشبوهة في جميع الدول العربية والإسلامية فلابد من انتفاضة عارمة ضد هؤلاء العسكريين والأمنيين الذين شاركوا أيضا في عمليات اعتقال وتعذيب واغتصاب وقتل الكثير من المواطنين المعترضين على تزوير الانتخابات او انتهاك حقوق الإنسان والإطاحة بهم وبكل حكام الأنظمة العسكرية والقمعية والتمهيد لإجراء انتخابات حرة وشفافة لاختيار القادة السياسيين من طبقة المثقفين والمدنيين وطرد كافة المهرجين الإعلاميين والمطبلين للحكام في أجهزة الإعلام من الجهلة الأمنيين والعسكريين وكتاب التقارير الاستخباراتية الذين هم على مستوى الحكام العسكريين المستبدين لا مكانة ولا عزة لهم في المجتمعات المدنية.

وخلافا لما يزعم ويطالب به البعض من السياسيين والإعلاميين المنخدعين فاننا لا نريد بتاتا ان يكون قادة الجيش ولا القوات المسلحة ولا قوى الأمن الاستخباراتية حافظة للتغيير ولا الإصلاحات ولا حتى الحفاظ الأمن الداخلي المزعوم بل نطالب ونصر بعدم تدخل او إقحام هذه القوى في اي من الأمور السياسية او عمليات الانتخابات او انتقال السلطة او تغيير سلوك الأنظمة وإصلاح مواقفها وان تبقى هذه القوات على حدود ثغور الأوطان اوفي ثكناتها العسكرية البعيدة وان يكون هناك دوما بينها وبين الجماهير حاجبا وخندقا لإبعاد خطر وسلطة الحكام العسكريين المستبدين والفاسدين بشكل مستمر وقاطع والتأكد من عدم تدخلهم لا من قريب ولا من بعيد في الشئون السياسية والإعلامية.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 13/شباط/2011 - 9/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م