النموذج التونسي وأنظمة برسم السقوط

ماجد الشّيخ

مع دخولنا إلى رحاب العام الجديد، لا يبدو أن الأزمة المالية العالمية، في سبيلها إلى الانتهاء بتعافي الاقتصاد العالمي، لا سيما وأن بداية العام أخذت تشهد المزيد من الاضطراب والاحتجاجات الشعبية، واهتزاز الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي على حد سواء، في العديد من بلدان العالم، حيث الأزمة باتت تستفحل أكثر.

ومن جراء استفحالها صارت تتوالد أزمات فرعية أخرى، كأزمة الجوع وأزمة ارتفاع الأسعار، وأزمات البطالة، وغيرها العديد، مما هز استقرار العديد من بلدان العالم التي لم تهتز قبلا، على وقع الأزمة المالية العالمية منذ خريف العام 2008، ومنها بعض البلدان العربية كتونس والجزائر ومصر والأردن وموريتانيا ومن قبلها المغرب، وربما كنا أمام المزيد من استفحال الاحتجاجات الشعبية على العديد من مظاهر سلطوية وتسلطية إستبدادية، تضاف إلى ظواهر الإفقار والفساد والإفساد والإثراء غير المشروع، والقمع المضاعف ومصادرة الحياة السياسية، وفرض سياسات عقيمة غير مسؤولة، انحطّت معها ظروف الحياة المعيشية لكامل طبقات المجتمع.

 وطالما بقيت تتحكم سياسات الجشع والطمع الرأسمالية، وليبراليو موجة العولمة المتوحشة بالأوضاع الاقتصادية العالمية، وطالما وجدت هذه السياسات من يتواطأ معها في العالم الثالث والدول الفقيرة والمُفقرة، فإن العالم على وشك مواجهة صدمة في أسعار الغذاء قريبا، وذلك وفقا لتقارير نُشرت مؤخرا، خاصة في أعقاب تحذيرات أطلقتها الأمم المتحدة، قالت أن العالم قد يشهد أزمة غذائية، ربما تكون أكثر قسوة من تلك التي شهدها العام 2008.

 في ضوء ذلك تقول منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) وبرنامج الأغذية العالمي، أنه رغم التراجع الطفيف لعدد جياع العالم إلى ما دون مليار نسمة، إلاّ أن عدد من يعانون الجوع المزمن بلغ 925 مليون نسمة، ما دفع جاك ضيوف المدير العام لمنظمة الفاو، للتحذير من الارتفاع المستمر لمستوى الجوع في العالم، ما يبشّر بجعل تحقيق هدف الألفية الأولى، وهو القضاء على الجوع صعبا، علاوة على صعوبة إن لم نقل استحالة تحقيق أي من الأهداف الإنمائية الأخرى في دول ومجتمعات سلطوية، لا يُتاح فيها لأي من القوى النهوض بأعباء الاقتصاد وأعباء تحقيق أهداف تنموية حقيقية، إلى جانب كل ذلك، فإن الارتفاع الأخير في أسعار المواد الغذائية، يمثّل معوقا آخر أمام جهود تقليص أعداد الجياع في العالم.

 في ضوء ذلك.. لا يبدو أن الأزمة المالية والاقتصادات المعولمة، حتى المتقدمة منها، قادرة على مد يد العون للاقتصادات الضعيفة، ولتقليص أعداد الجياع في العالم، وإبقاء السلع والمواد الأساسية عند حدود القدرة الشرائية السابقة لشعوب العالم، خاصة دول العالم غير النامية، أو غير القادرة على التكيّف والتماثل مع إمكانياتها وقدراتها على النهوض، نحو إنماء أوضاعها المتردية بفعل فساد سلطوي عميم ومقيم، يضاف إليه وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وغيرهما من مؤسسات مالية عولمية.

على الرغم من ذلك فقد حذّر الصندوق من أن إنقاذ جهود القضاء على الفقر والجوع من الآثار السياسية لأزمة المال والاقتصاد العالمية، لن يتحقق ما لم يستعد الاقتصاد العالمي قدرته على النمو القوي والمُستدام. وهذا دونه إصرار النظام الرأسمالي العالمي على العمل وفق معاييره القديمة، بترك الأسواق تقود ذاتها ولو نحو الكارثة، وتجاهل الدور الرئيس للدولة، وتلك طامة كبرى تقع على عاتق الاقتصاد الأميركي الذي ما يني يجرجر أذيال الخيبة، وهو يحاول الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، في ظل توقعات بأن يشهد العام الحالي، المزيد من دخوله نفقا مظلما جديدا لا يختلف عن تلك الأنفاق التي دخلتها الولايات المتحدة، ومهّدت لها عبر حروبها السابقة التي جرّت إدارة بوش الإبن إلى أنفاق حروب العراق وأفغانستان والإرهاب المعولم.

 وإذ لا تجري هذه الحروب في ظل أوضاع مالية واقتصادية مريحة، قد تستدعي إنماء قطاعات معينة (عسكرية على سبيل المثال)على حساب قطاعات أخرى، فإن كوارث الإفقار المتدحرج لدول وشعوب العالم، جراء عدم قدرة الاقتصاد العالمي وأدوات الرأسمالية العالمية على القيام بأي شكل من أشكال الإنقاذ المالي، وابتعاد التعافي عن الاقتصاد الأميركي ووقوع العديد من الاقتصادات الأوروبية في وهدة التقشف ومراكمة الديون السيادية، وارتفاع الديون الأميركية وحدها إلى أكثر من 13 تريليون دولار؛ كل هذا يضع الاقتصادات الضعيفة تحت رحمة الحراك  والاحتجاجات والانتفاض الشعبي، ولكن إذا ما استمرت الهيمنة القطبية الأحادية.

 في ظل هذا الضعف المتفشي في دور ومكانة الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية، على ما يتجاوز الاقتصادات العالمية، للاستمرار بالتحكم بطبيعة الأنظمة السياسية التابعة في العالم الثالث، فإن مثل هذه الهيمنة لا بد لها من أن تتحوّل إلى كارثة اجتماعية وسياسية واقتصادية جماعية قد تصيب –  وإن بتفاوت – العديد  من دول وشعوب العالم، ومن ضمنها شعوبنا العربية، وبعض الاقتصادات الأوروبية الطرفية، ممن يضطرون إلى دفع ثمن الديون التي تراكمها الولايات المتحدة على نفسها، لتمويل مغامرات حروبها العسكرية على حساب شعوب العالم، وزيادة إفقارها في العديد من الدول، التي تلجأ إلى سياسات غير شعبية وغير اجتماعية، تزيدها حالات الفساد والإفساد السياسي، ومركزة الثروة المحلية في أيدي القلة من المتنفّذين والمقربين من زعامات الأنظمة الحاكمة، لتجعلها عرضة لانتفاضات شعبية، ليس من السهل إخمادها، إلاّ بتنازلات راديكالية سياسية ملموسة، على ما جرى ويجري اليوم في تونس، وهو تغيير على وقع انتفاضة شعبية، يسجل لبدء انهيار أحجار دينمو الأنظمة الطرفية التابعة، مع ما يعنيه هذا من رسالة قوية وواضحة، للرأسمالية المعولمة التي تقود اليوم إدارة أزمة من أطول أزمات النظام الرأسمالي المتدحرجة.

 وما انهيار النموذج الاقتصادي والتنموي التونسي، وسقوط الطاغية ولو مع بقاء قسم من النظام قائما حتى اللحظة؛ إلاّ الرسالة الأفصح عن عمق الأزمة التي باتت تستحكم حلقاتها اليوم، في فضاءات الدول والشعوب المفقرة والمنهوبة ثرواتها وإمكانياتها، على يد القلة السلطوية الحاكمة والمتحكمة بالبشر والحجر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 23/كانون الثاني/2011 - 17/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م