حين تصنع الشعوب التاريخ وتُسقط الديكتاتورية

محمود عبد الرحيم

ما جرى في تونس حدث تاريخي بكل معنى الكلمة، ويوم الرابع عشر من يناير سيكون، بحق، علامة فارقة، ليس في تاريخ الشعب التونسي وحده، وإنما في تاريخ الشعوب العربية كلها، التي حتما ستستعيد الثقة من الآن في نفسها وقدرتها على التغيير، ذلك الحلم الذي كنا نظن أنه بعيد المنال، تحت وطأة اليد الباطشة لحكام فاسدين ومفسدين، ومعارضة واهنة أو متواطئة تتحرك بحسابات أفقدتها قيمتها وجدواها ومصداقيتها.

 وما حدث يمكن توصيفه، بالفعل، كـ "ثورة شعبية".. ثورة على الفساد والطغيان والافقار وكبت الحريات، وتكريس التبعية وإغلاق أبواب الأمل أمام الملايين، تلك السمات أو بالأحرى الجرائم التي تتشارك فيها كل الأنظمة العربية بلا استثناء، التي شاخت على كراسي الحكم الفاقد للشرعية الشعبية.

 وربما أروع ما في هذه الملحمة الجديرة بالتقدير والفخر أنها جاءت بشكل غير متوقع، وبوتيرة متسارعة، لتؤكد أن امكانية التغيير قائمة أكثر مما نتصور، وانتصار ارادة الجماهير، وهزيمة الديكتاتورية ليست بالمستحيل، وإذا ما انطلق مارد الغضب الشعبي، فلا يمكن للقبضة الحديدية، ولا كل صنوف الترويع والارهاب ولا حتى الوعود الكاذبة، أن يعيدوه للقمقم مرة أخرى.

ورغم أن الفرح التونسي لم يكتمل بعد، وثمة مخاوف متصاعدة بين النخبة المثقفة لمستها في حديثي مع بعضهم.

أثناء تبادل التهاني بهروب الديكتاتور، بشأن تكرار سيناريو انتقال السلطة في العام 1987، ليستمر النظام كما هو، خاصة مع إعلان الوزير الأول محمد الغنوشي تسلم السلطة من بن على مؤقتا، والتلميح أن بن على مازال الرئيس الشرعي للبلاد وغائب لمدة مؤقتة، إلا أنه لا يمكن التقليل من حجم ما جرى، حيث أن عقارب الساعة لن تعود للوراء بأي حال من الأحوال، وما بعد الرابع عشر من يناير لن يكون كما كان قبله، مهما حصلت محاولات التفافية وصفقات برعاية فرنسية أو عربية أو بين أركان الحكم في تونس، لإمتصاص الغضب الشعبي وإهدار الثورة، وإفشال طموحاتها في تغيير شامل يشمل كل البنى السياسية والاقتصادية والثقافية، وكل الوجوه التي كانت جزءا من هذا النظام الفاسد القمعي.

وربما من أبرز دروس هذه التجربة المدهشة التي يجب أن يعيها الحكام والشعوب العربية معا.. أن رد الفعل الشعبي لا يمكن التوقع بأبعاده، فإشتعال النيران جاء من مستصغر الشرر، فلم يكن أحد يتخيل أن حرق شاب تونسي لنفسه احتجاجا على وضعه الاقتصادي السيء، وعلى المعاملة بازدراء وتعسف من قبل مسئولين صغار، ستفجر كل هذا الغضب العارم.

الدرس الثاني هو أن امتلاك الارادة والاستعداد للتضحية هو الذي يصنع التغيير، وليست الخطب والشعارات وتسجيل المواقف التليفزيونية ثم المضي في سلام، وكأن مهمة التغيير نزهة مجانية بلا ثمن، مثلما يحدث للأسف في مصر التي تم فيها إهدار مئات الفرص، فلولا عشرات الضحايا الذين سقطوا برصاص أمن الديكتاتور بن على، ولولا أن عشرات وربما مئات والاف الشباب كانوا على استعداد لدفع ثمن الحرية والكرامة من أرواحهم ودمائهم، ما تمت كتابة هذه اللحظة التاريخية.

الدرس الثالث هي الصدقية في النضال، ووضوح الرؤية والهدف، وليس المتاجرة به أو المساومة الانتهازية والمناورة الرخيصة التي توصل إلى إدامة الحكم الفاسد واعطائه مزيد من الاوكسجين ليطيل عمره في سلطة مفتقدة للشرعية الشعبية، وربما تجسدت هذه الروح بقوة في التجربة التونسية كون الاحتجاجات الشعبية تزعمها الشباب وليس أصحاب ياقات بيضاء ومصالح وحسابات ضيقة، ما جعلها تتحرك بشكل عفوي، بلور سريعا وعي ثوريا ناضجا مستمدا من الحركة على الأرض، يربط المستقبل باللحظة الراهنة، و يمزج الخاص بالعام والمطلب الاقتصادي بالسياسي، والخبز بالحرية، الأمر الذي جعل بن على يفشل في احتواء الشارع، وتوجيه ضربة قاصمة للمعارضين كما أعتاد، رغم أنه لجأ إلى كل حيل البقاء من الترهيب الذي وصل إلى إطلاق الرصاص الحى على المحتجين، ومحاولة تشويه هذه الثورة الشعبية، بوصف ابنائها بأنهم مخربون ومجرمون، وأن ما يحدث وراءه أياد خارجية، أو إطلاق أفراد ملثمين للقيام بهذه الأدوار المشبوهة لترويع الشعب، وفي نفس الوقت سعى للترغيب والإحتواء بالحديث عن إطلاق الحريات العامة وحرية الإعلام، وإقالة وزير الداخلية وحل الحكومة وتخفيض الأسعار، لكنها حيل لم تنطو على شباب واع ومثقف، وشعب وصل إلى قناعة أن من يفسد ليس بمقدوره أن يصلح، ومن ثم واصل احتجاجه، ولم يجعل جذوة الثورة تخبو، بل تزداد اشتعالا يوما تلو يوم، بلا كلل ولا ملل.

الدرس الرابع هو كسر حاجز الخوف، فهذه هي الورقة التي يراهن بها الحكام الفاسدين لقمع الشعوب، لكن إذا تم إحراقها، ولم يعد للخوف مكان في الصدور، فسيكون الخوف من نصيب الجلاد وليس الضحية، وهو المعنى الذي لخصه الشاعر الفلسطيني محمود درويش ببراعة بقوله "حاصر حصارك"، ونتيجته مبهرة بلا شك كما رأينا في حالة شاه إيران الذي فر هاربا، وهو السيناريو الذي كرره الديكتاتور بن على، عندما وجد أن عصا القمع والترويع فقدت مفعولها، وأنه لا صوت يعلو فوق الشعب، وحتى من كانوا يدعموه في واشنطن وباريس تخلو عنه بعد أن صار ورقة محروقة وأنتهى دوره الوظيفي كخادم للامبريالية الغربية، واكتفوا بتسهيل هروبه هروب الجبناء المهزومين، بل وإمتداح الجماهير، الذين في السابق سكتوا سنين على قمعهم وانتهاك آدميتهم، فيما كانوا يشيدون بديمقراطية الديكتاتور.

 انه فجر جديد نصحو عليه، فليت الرسالة تصل للحكام العرب، علهم يفيقوا من غيهم ويسمعوا صوت الشعوب التي اشتعلت صدورها بالغضب وضاقت بالقهر والاستغلال، وعلهم يلحقوا بالقطار الأخير قبل أن يصيبهم ذات المصير الحتمي للديكتاتوريات، وليت الرسالة تصل أولا للجماهير العربية من المحيط للخليج، ليثبتوا لأنفسهم قبل غيرهم أنهم يستحقوا الحياة، مثل أحفاد أبو القاسم الشابي الذي ننحي لهم ولشهدائهم إجلالا، لأنهم برهنوا أنه "إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر."

*كاتب صحفي مصري

Email:[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/كانون الثاني/2011 - 11/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م