وثائق ويكيليكس، قطرة من بحر الحقائق

خليل الفائزي

مرة أخرى أثار انتشار ما تسمى وثائق ويكيليكس الأمريكية موجة من الغضب والاعتراض بين معظم أنظمة الدول في المنطقة والعالم وعبّرت حكومات ودول ومنظمات وأحزاب وشخصيات عن قلقها حيال نشر هذه الوثائق التي ادعى البعض انها صيغت في دهاليز ومطابخ المخابرات المركزية الأمريكية، وزعم آخرون انها "لعبة قذرة" من ألاعيب الصهيونية العالمية، ووصفها زعماء ومسئولون في المنطقة انها مخطط أمريكي جديد قامت به إدارة باراك اوباما للضغط عليهم وتشويه سمعتهم المقدسة والطاهرة أمام شعوبهم.

 بالطبع اننا وكسائر الإعلاميين والمواطنين لم نطلع بالكامل على فحوى جميع هذه الوثائق التي وصل عددها حتى الان اكثر من 800 ألف وثيقة نشرت عبر موقع ويكيليكس او صحف ومجلات أوروبية معروفة الا ان ما اطلعنا عليه او ما سمعناه لم يروي ظمئانا الشديد وعطشنا الإعلامي للاطلاع على الحقائق ومعرفة كل او جزء من أسرار أفعال وسلوكيات أنظمة المنطقة وبعبارة أخرى ان ما نشر حتى الان من قبل موقع ويكيليكس كان قطرة من بحر الحقائق القائمة في ساحات دول المنطقة وان هذه الوثائق على الأقل لم تزودنا بأي معلومات جديدة عما نعرفه ونعلمه من فضائح مؤكدة وواضحة للعيان خاصة ما يتعلق منها بسلوك ومواقف وسياسة الحكام والمسئولين في دول المنطقة.

 فمثلاً تشير بعض هذه الوثائق الى إصابة العديد من زعماء المنطقة بأمراض عضال وخطيرة مثل السرطان وان المسئولين في هذه الدول قلقون جداً بشأن مصيرهم في حالة وفاة زعيمهم فلان ابن فلان!.

 يا ترى ما الجديد في هذه المعلومات وما هو الخبر المهول والخطير في صحة او عدم صحة ادعاء إصابة هذا الزعيم او ذلك المسئول بمرض السرطان او مرض خطير وما الهدف والمغزى من تغيير إرادة الله والقدر المحتوم، وهل المطلوب منا اومن شعوب المنطقة الحزن والأسى المسبق على نظام قد يضعف او يسقط او يندثر لمجرد وفاة زعيمه او المساواة والربط بين مصير قائده مع مصير بلاده واستقلال وعزة شعبه في حين ان مثل هذه القاعدة غير الصائبة تتعارض مع ما جاء في الكتب السماوية ولا حتى الشرائع التي وضعها الحكماء والعلماء، فلم يتم القضاء على الإسلام لمجرد وفاة الرسول (ص) ولم تتوقف المسيحية من الانتشار السريع بعد صلب المسيح (ع) او ما شبّه له، وعلى هذا الأساس فان الأنظمة المستبدة وغير الديمقراطية هي التي تربط مصيرها بمصير قائدها او زعيمها ومثل هذه الأنظمة البائسة والمبنية على نظام الفرد الواحد قد تسقط وتندثر حتى في حياة زعمائها وهذه سنة الحياة وإرادة الخالق لا تغيير ولا تبديل فيها.

 الموضوع الثاني الذي أثارته وثائق ويكيليكس هو عمليات تزوير الانتخابات في بعض دول المنطقة وفوز المعارضة في الانتخابات لكن تم تزويرها بواسطة الأنظمة الحاكمة و..

 نكرر القول يا ترى ما الجديد في هذه الوثائق وما الذي جاء فيها من غرائب لتتعالى الأصوات الحكومية والرسمية ضدها وتتهم ويكيليكس بالنفاق والكذب وتحوير الحقائق، في حين ان جميع الأدلة والمستندات والأمور الواقعة على الساحة تؤكد من ان ليس بعض أنظمة المنطقة بل جميعها دون استثناء كانت ولازالت تمارس أسلوب الغش والتزوير والتلاعب بأصوات الناخبين منذ العقود الماضية وحتى الان وخير دليل على ذلك ان هذه الأنظمة رفضت وعارضت مشاركة او إشراف لجان دولية مستقلة على الانتخابات في هذه الدول بذريعة ان مثل هذا الأسلوب يعرض البلاد الى التبعية او مشاركة اللجان الدولية يعتبر تدخلا سافرا في شئون تلك الدول في حين ان السمة البارزة لهذه الدول التي لا تعترف بالديمقراطية ولا تعترف بحقوق المواطنين ولا حقوق النساء او المعارضة ولا حتى حقوق الإنسان هي ماركة عالمية مسجلة.

 وآخر نموذج شهدناه في هذا السياق قبل ايام هو تزوير الانتخابات البرلمانية في مصر حيث ادعى النظام الحاكم فوزه بـ 99% من الأصوات كما عودنا في السابق في حين ان جميع الأدلة والحقائق تؤكد انه لا يحظى باي شعبية تذكر داخل مصر وان 95% على الأقل من أبناء الشعب يعارضون نظام حسني مبارك.

 الموضوع الثالث الذي تطرقت إليه الوثائق هي ظاهرة القمع والتعذيب والإرعاب الذي تمارسها أنظمة المنطقة مع شعوبها او حتى معارضيها، فأين الغريب او الشيء غير الواقعي في هذه الوثائق والجميع في دول المنطقة والعالم يدركون ويعرفون الممارسات غير القانونية وغير الإنسانية التي تمارسها هذه الأنظمة لحفظ مصالحها الفئوية وتستغل القوانين وتلفق الأكاذيب من اجل الاستمرار بحكمها دون رضاء او إرادة من قبل شعوبها.

 الموضوع الرابع هو الإشارة مرة أخرى لتدخل دول الجوار والعديد من دول العالم في شئون العراق والتآمر عليه ونهب خيراته وثرواته ودعم فصائل في هذا البلد لإشعال نار الفتنة الطائفية وتحريض جماعات فئوية ضد جماعات أخرى، وآلاف آلاف من الوثائق بشأن الشهداء والقتلى والجرحى والقتل عن طريق الخطأ! وتصفية إعلاميين وناشطين في مجال حقوق الإنسان والتآمر بين أمريكا ودول في المنطقة ضد مصالح الشعب العراقي و..

 ونكرر السؤال، اين الأكاذيب او الأخبار والتقارير الملفقة في وثائق ويكيليكس وهذه الوثائق لا تعكس سوى الواحد من المليون من الحقائق القائمة في الساحة العراقية خاصة ما يتعلق منها بتدريب وإرسال الإرهابيين ودعم الجماعات الإرهابية من قبل دول الجوار وإرسالهم الى العراق للقيام بعمليات قتل وتفجيرات إرهابية منظمة، فلماذا كل هذه الاعتراضات او بالأحرى الهلع والخوف من نشر جانب ضئيل جداً مما يجري من حقائق على الساحة العراقية؟.

 الموضوع الخامس هو الكشف عن تآمر حكام المنطقة في الدول العربية النفطية ومصر ضد النظام الإيراني او العكس ومطالبة هؤلاء الحكام من أمريكا علانية بقصف إيران بهدف إسقاط نظامها وإبلاغ ملك السعودية كبار المسئولين الأمريكان بضرورة قطع ما وصفه رأس الأفعى للنظام الإيراني، وتكشف هذه الوثائق حصول النظام الإيراني على صواريخ متطورة من كوريا الشمالية والعمل بسرية على تطوير نشاطه النووي والتخطيط دوماً لقمع المعارضة الإصلاحية والدفاع عن مصالح النظام باي ثمن!.

 فأين الغريب وغير الواقعي او المريب في هذه الوثائق والجميع يعرفون مثل هذه الحقائق جيداً الا انها لا يقرون بها وان أنظمة المنطقة لا تطيق بعضها البعض وتتآمر باستمرار ضد بعضها وتدعم المعارضة وتحرض الجماعات المؤيدة لها ضد الأنظمة الحاكمة ومعظم دول المنطقة تنهب خيرات جيرانها وتعتدي على حدودها وتصادر مواردها في السر والعلن وتنتهك أجوائها وسيادتها البحرية والبرية والجوية وان تعامل بعض دول المنطقة مع جيرانها أسوء من تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين، فلماذا كل هذا الهلع والقلق على نشر وثائق تعكس نزر ضئيل جداً من الحقيقة القائمة ؟.

 الموضوع السادس هو قمع الاقليات ومصادرة حقوق القوميات وانتهاك حقوق اتباع المذاهب والمعتقدات غير الرسمية في العديد من دول المنطقة، وهو موضوع ليس بجديد او مختلق من وحي أجهزة المخابرات الغربية او أجهزة الإعلام الصهيونية، فموضوع قمع الاقليات ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق المعارضة هي من ابرز سمات نظام "انا ربكم الأعلى" ونظام "الحاكم المستبد" ونظام "القمع والإرعاب والتزوير"، وهي الأنظمة الحاكمة في اغلب دول المنطقة والعالم، وربما ان وثائق ويكيليكس نشرت جزءاً ضئيلاً جداً من مثل هذه السمات البارزة والحقائق الدامغة للأنظمة الحاكمة وغابت عن هذه الوثائق ما هو ابشع واعظم من أعمال القتل والظلم والقمع والإرهاب لدى العديد من هذه الأنظمة.

 ومن طرائف وثائق ويكيليكس انها تطرقت الى الصفات والأساليب والممارسات الشخصية للكثير من زعماء ومسئولي دول المنطقة والعالم. فمثلاً قيل عن العقيد القذافي انه ترافقه ليل نهار ممرضة أوكرانية شقراء جميلة جدا ويبدو أنه يحبها ويرجحها على كافة المسئولين في ليبيا.. وانه هدد بعدم تفكيك برنامج بلاده النووي إذا لم يسمحوا له بنصب خيمته في نيويورك ! والملك عبدالله عن المالكي: جزء من الشعب العراقي في قلبي ولكن هذا الرجل-المالكي- لا أطيقه.. وايضا الملك عبدالله عن رئيس باكستان : هو السبب في ازمة باكستان....إذا كان الرأس فاسدا يفسد البدن ! نائب كرازاي الافغاني زار الإمارات ومعه شنطة فيها 52 مليون دولار..كاش ! وبيرلسكوني- رئيس الوزراء الإيطالي - صديق لبوتين رئيس وزراء روسيا ليسهل لشركاته العمل هنالك...وبوتين صديق حميم للمافيا الروسية ! والحكومة القطرية أضعف حكومة في مكافحة الإرهاب...فهي لا تعتقل الإرهابيين المعروفين خوفا من ردة فعل القاعدة ضدها وان بعض انظمة المنطقة تسمح بانتقال المتطرفين من بلدانها الى العراق لتخلص من وجودهم وإبعاد خطرهم عن هذه الأنظمة ! ونقل عن محمد بن زايد الإماراتي حول البرنامج النووي الإيراني: أي ثقافة تصبر عدة سنوات لحياكة سجادة حريرية واحدة... ايران لديها ثقافة الصبر لصنع القنبلة النووية.. ! ولا تمتلئ خزائن الخليج الا ويفرّغها الغرب في حروب لا يستفيد منها سواه والكيان الصهيوني.

وسماح السعودية للكيان الصهيوني باستخدام المجال الجوي السعودي لضرب إيران وتآمر الدول النفطية مع اسرائيل ضد الدول العربية والاسلامية.. ووصفت الوثائق الرئيس الروسي ديمترى ميدفيديف انه موظف لدى رئيس وزرائه فلاديمير بوتين وتكشف عن دكتاتورية الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وخصومته المستمرة للسياسة الأمريكية في اوروبا وتتطرق الوثائق بالسخرية من سياسة ومواقف زعماء مثل المستشارة الألمانية ومسئولين أوروبيين، وتشير الوثائق الى طرائف وأحداث جانبية تتعلق كلها بمواقف وتصريحات مسئولي المنطقة والعالم مع مسئولين ومبعوثين أمريكيين نقلوا مثل هذه المواقف والطرائف على شكل تقارير موثقة الى حكومتهم كأي من المسئولين والمبعوثين لسائر الدول الذين يكتبون تقارير مهامهم ولقاءاتهم وهذا يعني ان هذه التقارير عادية جداً، وانها لا تخريج من نطاق الاحتمالات التالية:

- ان الإدارة الأمريكية تعمدت لنشرها للحصول على مزايا وإتاوات لصالح سياستها في المنطقة والعالم، وتهديد زعماء ومسئولي هذه الدول من انها تملك معلومات كافية عن بلدانهم وما يجري فيها من تطورات وأحداث.

- ان يكون نشر هذه الوثائق بالفعل خارج نطاق سلطة الإدارة الأمريكية خاصة وان وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون نددت بنشر الوثائق ودعت لمحاكمة الذين سربوها من داخل أجهزة الإدارة الأمريكية الى الإعلام والإنترنت.

- قد يكون نشر الوثائق يدور في محور انتشار الحريات غير المحدودة في الغرب، وان ناشري الوثائق قد حصلوا ربما على مبالغ طائلة من أجهزة ومؤسسات دولية لنشر الوثائق التي أكدت في الواقع الرؤى والمعتقدات التي كانت لدى الرأي العام حيال مواقف وسياسة الكثير من أنظمة وحكام دول المنطقة والعالم.

ومن السخرية ان يزعم البعض من ان نشر هذه الوثائق هو مخطط صهيوني او مؤامرة ماسونية خطيرة على دول المنطقة لان الوثائق بحد ذاتها تزيح الستار عن الجرائم البشعة التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين خاصة في حربها الأخيرة على قطاع غزة.

اننا اذ نؤيد نشر المزيد من مثل هذه الوثائق التي نعترف من انها تعكس وجهة نظر السياسة العامة للإدارة الأمريكية ومصالحها في المنطقة والعالم ندعو بل نتحدى في الوقت ذاته كافة الحكام والقادة والمسئولين خاصة في منطقة الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية نشر ولو مئة او عشرين او حتى وثيقة واحدة بشأن سياسة هذه الدول او تكشف عما دار بين مبعوثها وزعماء المنطقة والعالم، ليثبتوا انهم على حق والآخرون جميعاً على باطل وانهم لا يخشون من اطلاع الرأي العام عن خبايا سياستهم ومواقفهم وتصريحاتهم.

قطعاً ان هذه الأنظمة لم ولن تنشر مثل هذه الوثائق بتاتا لانها ستفضحها وتعرض نفسها للمسائلة وللنقد والاعتراض بالتأكيد، في حين ان معظم هذه الأنظمة تدعي القداسة والنزاهة والسموولا تقبل حتى بالنقد الذاتي والبنّاء مهما كان نوعه ومقداره.

* كاتب وإعلامي - السويد

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 2/كانون الأول/2010 - 25/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م