في رحاب الحج

قيمة التعاون أداة بناء الشخصية

السيد محمود الموسوي

لكل عبادة من عبادات الإسلام غاية تحققها في بناء الشخصية، بالإضافة إلى ما تبنيه في جوانب أخرى، ولكل عبادة خصوصيتها وآلياتها في بلوغ هدف بناء الشخصية وإيصالها إلى المقامات السامية من التقوى والصلاح والإستقامة، والحصول على التوازن الروحي، من أجل التغلب على المشكلات والأزمات، وتسخير إماكاناته في سبيل تقدّمه وصلاحه.

ومن خصوصيات الحج ومناسكه أنه يساهم في بناء الشخصية على المستوى الفردي من خلال المجموع، ومن خلال اغتنام فرصة اجتماع الناس في هذه الرحلة المباركة، وبالرغم من أن الفرد يمكنه أن يحقق نتائج باهرة في صياغة شخصيته وبنائها فردياً ومن خلال الخشوع والنظر للأعمال من خلال معرفة معانيها ومضامينها المعنوية، إلا أن بناء الشخصية من خلال المجموع لا يمكن تجاوزه أو غض الطرف عنه.

فأنت يمكنك أن تصلّي لله في جوف الليل سرّاً والناس نيام.. ويمكنك أن تخرج من مالك صدقة تدفعها سرّاً.. ويمكنك أن تصوم وتمسك عن الطعام دون أن يشعر بك أحد من الناس.. إلا أنه لا يمكنك أن تحج حجاً خفياً صامتاً بمفردك.. فلابد أن ترتحل مع المجموع وتجتمع مع الناس وتتعامل مع المختلفين.. لابد أن تحتاج إلىى غيرك من الناس سواء جئت راجلاً أو على ضامر من ضمائر البر أو البحر أو الجو، ففي كل تفاصيل رحلة الحج ستحتاج إلى التعامل مع الآخرين.

ويمكن أن نصيغ هذه المعاني وهذه الآليات في الإصلاح وبناء الشخصية في الحج من خلال المجموع، في عبارة (التعاون) كقيمة معبرة عن عمق حركة التعامل مع الناس في موسم الحج بوصفها أداة للإصلاح، وآلة لبناء الشخصية السوية والمستقيمة، فإننا نرى أن آية التعاون التي جاءت في القرآن الكريم التي تحث المسملين عليه في البر والتقوى وتنهاهم عن التعاون في الإثم والعدوان، جاءت في سياق الحديث عن الحج والتواجد في بيت الله الحرام والشهر الحرام.

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة : 2]

ففي حركية الحج الجمعية، التي تتفاعل فيها مختلف النفوس ومختلف الثقافات ومختلف المآرب والإرادات، حيث أن (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) بما تعكسه دواخله النفسية والثقافية على سطح الواقع، تتجلّى الحاجة إلى روح التعاون، التي هي منطلق إرادة التغير والبناء الصحيح، وهي في ذات الوقت نتيجة السلوك الفاضل بين الناس.

أن تكون متعاوناً مع الآخرين والمختلفين، فهذا يعني أنك تجاوزت العديد من المسافات للوصول إلى التعايش وإلى السلام الاجتماعي المراد تحقيقه في رحلة الحج وعندما يكون الإنسان ضيفاً في بيت الله الحرام، ومن خلال هذا التوجيه الاجتماعي في عبادة الحج الجمعية، يمكن للفرد أن يبني شخصيته ويطور من ذاته ويصيغ روحه في قالب إيماني.

ولذلك فإننا نرى أن هنالك مجموعة من الآفاق التي وردت في الحج وتجلّت في هذه الرحلة المباركة، سواء في أحكامها أو في أجوائها أو في مستلزماتها، تعزز فاعلية التعاون في بناء الشخصية، وهنا نذكر بعضها، لتكون مورداً لدخول الفرد في بناء شخصيته عبر وعيها ووعي لوازمها.

(1)

لقد كانت خطابات القرآن الكريم في الدعوة إلى الحج وفي بيان أحكامه وبيان مناسك الحاج بصيغة جمعية، حيث قال تعالى في دعوة الناس إلى الحج لكي يتوافدوا بكثافة وتنوّع:

(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). [الحج : 27]

وقال عز وجل في صلاة الحاج: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، وقال ربنا: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ).

وقال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً).

فالحج رحلة جماعية يأتيه الناس من كل بلد سحيق، فيتوافدون في مكان واحد وزمن واحد مما يستدعي تحقيق التعاون في كل حركة تدفع باتجاه بلوغ أهداف الحج العليا كالوصول إلى التقوى والحفاظ على السلام في النفس والعلاقات والأمن الاجتماعي، فالتعاون هنا هو منطلق للحفاظ على أهداف الحج وآلية للحصول على بركاته.

(2)

في رحلة الحج منافع الدنيا وحوائج الآخرة، وهذه المنافع يشهدها الحاج حيث يقول تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ). [الحج : 28]

ولا تحصل المنافع ولا تتحقق هذه الغاية إلا عبر مبدأ التعاون الذي ينظر للآخرين على أنهم يشتركون معه في الإنسانية وفي الدين، فمادام أنه سيشكر الله تعالى على ما رزقه من بهيمة الأنعام، ويجب عليه أن يضحي بها ليطعم الأطراف الضعيفة في المجتمع، فلابد هنا أن تذوب الحواجز النفسية التي تخلق التعالي على الآخرين والتكبر عليهم، لتحقيق هذا الهدف.

(3)

في رحلة الحج العبادية والتي يبدأها الحاج بلبس ثوبي الإحرام، ثم يعقد نيته فتحرم عليه مجوعة من الأفعال، هو مطالب بأن ينتهي عنها، فمن أهم ما يحرم عليه هو ما يكون في المسار الاجتماعي حيث الاختلاط مع الناس، وما تستوجبه هذه الرحلة الجماعية، يقول تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ). [البقرة : 197]

فلا (رفث) حيث تهذيب الشهوة الجنسية والامتناع عن مباشرة النساء وما يتبع ذلك من أفعال متلازمة مع الشهوة، و لا (فسوق) لكي لا يحصل التعالي على الآخرين حيث التجرد من كل علائق الدنيا ليكون مع الآخرين سواء، ولا (جدال) لضبط وتنظيم التحاور مع الناس لتكون علاقاتهم علاقة عنوانها السلام والأمن، فإن محرامات الإحرام تدفع باتجاه تقنين حالة الاجتماع الحاصلة في الديار المقدّسة.

وبلا شك فإن قمّة تحققها تتم عبر التعاون فيما بين الحجاج، ليتعاونوا في البر والتقوى، ولابد أن لا يتعاونوا على الاثم والعدوان.

(4)

يتجلّى مبدأ التعاون بين الناس في رحلة الحج بمراعاة الظروف الخاصة عند الضعفاء وأصحاب الاحتياجات الخاصّة، فإن حكم مرافقة النساء لقضاء مناسكهن من هذا القبيل، والحاج الرجل تنطبق عليه بعض أحكامهن إذا كان مرافقاً لهن، كجواز إفاضته من المشعر الحرام إلى منى لرمي الجمرات ليلاً، فهو فعل جائز للنساء ضمن ظروفهن، والمرافقين لهن من الرجال يجري عليهم هذا الحكم أيضاً، كما أكد الشرع على قائد القافلة أو (الحملة) على مراعاة المرأة التي تطرقها عادتها عند دخول مكة أو ماشابه ذلك، مما يتطلب منها التمهّل.

فعن علي بن أبي حمزة، أنه سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن الحائض، فذكر الحديث ـ إلى أن قال : ـ قلت : أبى الجمال أن يقيم عليها والرفقة، قال: فقال: ليس لهم ذلك، تستعدي عليهم حتى يقيم عليها، حتى تطهر وتقضي مناسكها .

(5)

البيت الحرام مهوى أفئدة الناس من كل حدب وصوب، ولذلك فهو يحتاج إلى الرعاية والاهتمام، ولأنه الموقع الذي يلتمس فيه الناس الطهر، فلا بد أن يكون طاهراً ومطهراً من كل نجس معنوي أو مادي، حيث أوعز الله تعالى إلى الأنبياء والرسل أن يقوموا بهذه المهمة لتهيئة المكان لاستقبال الوفود من ضيوف الرحمن، فقد قال تعالى:

(وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). [البقرة : 125]

وقد توعد الله تعالى كل من يعمل خلاف ذلك، ويصد هذه المهام الخدمية الجليلة، ويصد الناس عن البيت الحرام في قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).[الحج: 25]

وقد دعى المصدود والمعتدى عليه أن لا يعتدي على من صدّه ولا يتجاوز حدّه لكي لا تحصل الفتنة ويتحوّل البيت الحرام إلى ساحة اقتتال ونزاع بين الأطراف، فقد قال جلّ شأنه: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ).

فخدمة الحجاج ووفد الله في الأرض المقدّسة أمر بالغ الأهمية، إلا أنه لابد أن يكون ذا صدى معنوياً على أرض الواقع، فلا يفضّل الناس شكل الخدمة على مضمونها، ولا ينبغي أن يكتفون بمسماها وينسون الرسالة التي تخدمها في رحلة الناس إلى الحج، فإن الإيمان والاعتقاد الصحيح، والجهاد وترجمة الإيمان إلى واقع، هو الأساس الذي تخدمه سقاية الحاج، لذلك قال تعالى:

(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). [التوبة : 19]

العمل الخدمي وعدم الصدّ عن بيت الله تعالى هو ترجمة لمضمون التعاون بين الناس، فالإنسان يرتفع بنيته إلى مقام خدمة الآخرين وتهيئة الخدمات لهم كل في موضعه، كأن يشارك في النظافة والتنظيم والعمل الصحي والعلاجي، وتقديم الإرشاد الديني والتوجيه والتبليغ، وغيرها.

(6)

رحلة الحج محفوفة بالمشاركة الاجتماعية، فكما أكد الشرع على استحباب الاحتفاء بالحاج وحسن استقباله وتوقيره، فإنه وجه الخطاب إلى الحاج ليأخذ معه من الحج تحفة هدية الحج التي تعبّر عن تواصله مع أحبابه وأهله، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (هدية الحج من الحج).

وقال الصادق ( عليه السلام ): (من عانق حاجاً بغباره كان كأنما استلم الحجر الأسود) .

وعنه (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: يا معشر، من لم يحج، استبشروا بالحاج وصافحوهم وعظموهم، فإن ذلك يجب عليكم تشاركوهم في الاجر) .

ابن شخصيتك بالتعاون

إن بناء الشخصية وصياغتها من خلال التعامل مع الناس ومن خلال حركته في دائرة الاجتماع البشري، سيكون بناءاً قوياً ومتيناً، لأن معدن الإنسان يعرف من خلال الاحتكاك والامتحان، فإن (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)، ولأن رحلة الحج رحلة اجتماع أمم مختلفة في الأذواق والألوان والطباع والأفكار، وهي مسافرة نحو بقعة واحدة، هناك هم بأمسّ الحاجة إلى أن تكون شخصياتهم سوية، ونذكر مجموعة من التوجيهات التي ينبغي أن يعيها الحاج لتساهم في بناء شخصيته بناءاً متميّزاً:

1/ عندما تضع مبدأ التعاون على البر والتقوى مع الآخرين نصب عينيك، فإن الكثير من مقدمات التعامل مع الناس سوف تتجاوزها، لأن التعاون هو نتيجة وغاية لا تحصل إلا عبر السلوك الحسن والتحلّي بفاضائل ومكارم الأخلاق، كالتواضع، والبشاشة، والعطاء، وحب الآخرين. فهذه المواصفات سوف تكون كالمسلمات لأنك وضعت في اعتبارك النتيجة وهي (التعاون).

2/ كل ما يضر بمبدأ التعاون، ينبغي أن تهمشه ولا تعيره اهتماماً، بل ينبغي تجنّبه، كالنظرة الدونية للآخرين، وسوء الظن والتجسس وإشاعة الفاحشة، والعصبيات، فأنت مسكون بروح التعاون التي ينبغي أن لا تقوم بأي فعل يضر بها.

3/ في حال النزاع والحدّة وحصول المشكلات، فينبغي أن تفكّر في الحلول التي تقود إلى تعزيز مبدأ التعاون، وتحقيقه في الواقع، وأي حل وأي تصرّف تراه لا يدعم هذا الهدف، فسيكون خياراً فاشلاً.

4/ كل موقف يمر عليك في رحلة الحج مع الآخرين، لابد أن يكون درساً تربوياً يساهم في حصولك على المزيد من المواصفات الإيجابية، مثل التمرّن على التحمّل وعلى الصبر، والحلم وكظم الغيظ، فكلها خير دروس لبناء شخصيتك. وبهذا سوف تكون قد دخلت دورة تدريبية في فن التعامل وحسن التصرف.

5/ من خلال رحلة الحج وسّع أفق تعاملك مع الآخرين، وانفتح على الشعوب المختلفة وعلى الثقافات المتباينة، لتضيف إلى رصيدك المزيد من الوعي، هذا ولكي يأخذ مبدأ التعاون أفقاً عالمياً واسعاً، ولا يقتصر على المحيطين بك. فإن الله جعلنا شعوباً لنتعارف، وقدّم لنا رسالة الدين العالمية.

6/ التعاون في الخيرات هو النتيجة الأسمى التي يخرج بها الحاج من مدرسة الحج في الميدان الاجتماعي، ولهذا فإن مفردات التعاون لابد أن تحمل المعاني السامية، كخدمة الناس، ومد يد العون لهم، وخدمة الدين وتعزيز مكانته في النفوس، والعمل العلمي والثقافي، وبناء العلاقات الاجتماعية التي تساهم في تماسك المجتمع ورصّ صفوفه لتكون متضامنة مع بعضهاً البعض في الأزمات.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/تشرين الثاني/2010 - 4/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م