مقدمة فى نظرية القوة المقبولة

تنبؤات عما قد يسود التعاملات الدولية فى العقود القادمة

غادة عبد المنعم

تقديم

قد أكون مبالغة فى تفاؤلى، حيث أتصور أن العالم يتجه نحو الأفضل، وهو تصور قد لا تدعمه الكثير من الدلائل الثابتة، فكما نعلم أحيانا لا تسير حركة التحضر بالاطراد المفروض سلفا، والتاريخ يشهد على عدد من النكسات الحضارية التى تؤكد ذلك، وقد أستشعر، وقد يكون شعورا عاما، نهايات لمرحلة لا يمكن أن تستمر الحضارة فى السير بعدها على نمطها الحالى، وقد لا يستشعر هذا الشعور غيرى، عموما لا يهم عدد من يعتقدون ذلك أو يستشعرونه، فكما نعلم هناك دائما قلة من البشر يستشعرون نهاية مرحلة من التاريخ وبداية أخرى، بعضهم يسجل تصوراته والبعض الآخر يتمكن بقليل من الحراك التغيير والمساهمة فى بدء المرحلة الجديدة من التاريخ بنفسه.

 وليس ببعيد عنا مرحلة الثورات على الاستعمار وتحرير بلدان أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، إن القادة الذين بدءوا هذه الثورات الاستقلالية تميزوا باستشعار حركة التاريخ فى اللحظة التى وجدوا فيها، وبالطبع لست فى وضع يتيح لى من الفعل على أى من المستويات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أن أحدث تغييرا من هذا النوع، تغييرا يبدأ بالجديد ويشير للمختلف، هذا إذا كنت محقة فيما أتصوره..؟! ولكن قد لا أكون محقة فربما تكون تصوراتى مبالغ فيها أو غير واقعية وربما يسير بنا التاريخ فى السنوات القادمة فى اتجاهات غير التى أتصور، ومع ذلك يبقى أن تصور ما يفرض نفسه علىَّ، ويفرض على التفاؤل والتنبؤ بأن شخصيات سوف تتمكن من ضبط حركة التاريخ فى توجه جديد قد تبدأ حركته فى السنوات التالية.

مقدمة فى نظرية القوة المقبولة:

فى الوقت الحالى حيث يغلب الاقتصاد والمصالح التى تحكمه السياسة، تلك التى تركت له الكثير مما كانت تمارسه من ضغوط، وحيث صارت المصالح الاقتصادية هى الحاكمة والمتحكمة فى التعاملات الدولية، فى هذا الوقت الذى بلغ فيه التطور الحضارى درجة دفع فيها البشرية لميل لتفضيل كل ما هو سلمى والبحث عن الحلول السلمية بدلا من العسكرية، حيث تتنامى كراهية ضد الحرب وما تخلفه من دمار، كراهية كادت معها النظرة القديمة للحرب، تلك التى تقدسها وتعتبر التلويح بها هو الطريقة الفضلى لإظهار القوة نحو الآخر والخوض فيها هو الفعل النهائى للتغلب عليه و التحكم فيه والاستفادة من ممتلكاته وإجباره على السير طبقا لنهج الطرف الأقوى ولمصالحه، فى هذا الوقت الذى بدأ فيه البشر يتفهمون فكرة التعدد دينيا وثقافيا وبدؤوا أيضا القبول والتفهم لقوة الآخر ونفوذه، فى هذا الوقت صار من الضرورى، أو بات العالم مستعد للقبول بأن تحكم معاملاته – المعاملات الدولية خاصة –ما أسميه بـ (القوة المقبولة) ومضمون هذا التصور هو أنه قد صار من الضرورى القبول بقوة الآخرين والسماح لهم باستخدام نفوذهم وسلطانهم والشعور بتأثير قوتهم فى دوائر نفوذهم بل وإقامة الدول لعلاقاتها الدولية لا على أساس الحد سياسيا أو اقتصاديا من تأثير غيرها وتقليص نفوذهم بل على العكس من ذلك على أساس إتاحة الفرصة للدولة التى بصدد التعامل معها لتوسيع دوائر نفوذها وقدرتها على التأثير فى تلك الدوائر، فى تصورى أن الدولة التى ستفهم هذا النوع من السياسة الخارجية، وهى سياسة من الضرورى تنفيذها داخليا أيضا، تلك الدولة هى القادرة على إدارة دفة معاملاتها السياسية والاقتصادية بنجاح والقادرة بلا شك على اكتساب أكبر قدر من القوة والقدرة على التأثير فى محيطات متعددة ومتباينة أحيانا، وهى أيضا القادرة على تحقيق أكبر قدر من النمو الاقتصادي واكتساب مساحة أكبر من التحضر و التقدم.

 ذلك على شريطة أن يكون هذا التأثير المسموح به من جانبها للدول الأخرى والقوة موضوع السعى تأثير مرغوب من الطرف الممارس عليه، و قوة ممارسة من النوع المقبول من كافة الأطراف سواء القائمة بفعل القوة أو المتأثرة به – الممارس عليهم – فالقوة المقبولة من الطرف الذى يتم عليه فعل الممارسة، هذا النوع من القوة هو ما أتصوره مقبول فى العقود والقرن الحالى أو ما يليه وهو ما أتصوره قادرا على فتح أفاق للمعاملات السلمية تنمى بدورها إمكانات للتطوير والتنمية فى مختلف الدول.

 وقد يبدو كلامى عن القوة المقبولة كلام غير مفهوم وقد يبدو مصطلح القوة المقبول بها مصطلح ملغز. كما قد يبدو تصورى طوباوى لحد كبير لكن بعض الشرح والأمثلة ستعد تلك النظرية وهذا التصور للوضوح وستبينه وتقربه، وقبل أن أعرض لشرح ما أسميه بالقوة المقبولة وأدعى أنها الطريق الأمثل للمعاملات خاصة الدولى منها على أن أعرض أولا وبإجمال للواقع الحضارى الحالى والمستقبل الذى قد يدعو لها..

الواقع الحضارى الحالى وأفقه المستقبلى

لم يجد البشر أنفسهم فجأة وقد ارتقوا حضاريا وصاروا يرفضون الحروب التى كانت تمثل فيما مضى إعلان عن القوة والنفوذ، لكنهم وصلوا لرفضها بعد مسار طويل من التحضر.. وبمساعدة عاملين ظلا يتفاعلان لعصور، وهما الإيمان بأن لأى إنسان آخر من الحقوق ما يساوى حقوق الآخر، ونمو وانتشار المدنية التى صار من الممكن معها الحصول على المكاسب دون التورط فى خسائر الحروب، بسبب من هاذين العاملين وجد الإنسان المعاصر نفسه غير قادر على الخوض فى صراعات نتائجها التضحية بحياته كما وجد نفسه قد يتعرض للكثير من النقد إذا خاضها وعرض الآخرين لممارسات غير إنسانية أو لإزهاق الكثير من أرواحهم.

وحيث أن الكثير من الآليات الدولية المنتشرة فى شكل جمعيات ومؤسسات دولية كالأمم المتحدة – مثلا - قد صارت إلى حد ما تشارك فى إدارة العالم وهى وإن كانت قد فشلت فى أن تجبر الكثير من الدول على تبنى السياسات السلمية التى تقرها، إلا أنها على الرغم من ذلك ظلت تقوم على الأقل بدور تنويرى فى تبصير العالم بالأوضاع الإنسانية لكافة الأطراف المشتركة فى أى صراع ومع وجود هذه المؤسسات الدولية وخاصة مع ما تحقق فى عصرنا من سرعة فائقة لكافة طرق الاتصال والتواصل صار من الطبيعى أن يجد الطرف المنتصر فى كل حرب نفسه وقد تم الحد كثيرا وتقليص المكاسب التى حصل عليها.

ذلك، حيث يتابعه العالم كله بعدد من الآليات المستعدة دائما لإدانته عند أى اختراق لحقوق الإنسان أو أى اغتصاب لحقوق الطرف المهزوم، وهو الوضع الذى قد يؤدى فى يوم ما – لا أظن أنه قريب – لاعتبار شن الحروب عمل ضد حقوق الإنسان، عمل يستحق مقاطعة القائم به ومعاقبته من المجتمع الدولى بشكل سريع وحاسم.

أما حاليا فلم يعد من المستغرب أن يرى الكثير من مواطنى الدول التى تشن الحروب حجم مخاطر أى حرب من موت للبشر ودمار وآثار سيئة على اقتصادهم حتى وإن كانت بلدانهم هى الطرف المنتصر، هذا علاوة على ما يكسبه الطرف المغير من سمعة عالمية سيئة، وصار على مواطنى كل بلد متقدم أن يقارنوا خسائرهم التى لاشك فيها، بحجم المكاسب التى سيحصلون عليها، مما قد يدفع الكثير منهم لمعاداة الحروب.

وانتشار مزيد من الانفتاح الاعلامى والذى سيؤدى لمزيد من التقارب بين البشر فى جميع أنحاء العالم من مختلف الأديان والثقافات ذلك بعد أن يؤدى للتعارف المحتم بين كافة طوائف البشر فى كل أنحاء العالم بمختلف ثقافاتهم وحضاراتهم ومعتقداتهم سينتج المزيد من تقدير الاختلاف الثقافى والدينى واستيعابه كحتمية عالمية بل واستحسانه باعتباره داع للحراك الثقافى وباعتبار التنوع دافع لطرد الملل وموسعا لأفاق متعددة للمعرفة، مع تلك الحركة المستقبلية من التحضر والتى يسير البشر تجاهها مع كل زيادة فى الانفتاح الاعلامى وتحقق لمزيد من سرعة المواصلات والاتصالات، وإذا تزامن هذا مع زيادة فى انتشار الديمقراطية – حيث انتشار الديمقراطية فى المزيد من الدول ضرورى لمصالح الدول الأكثر ثراء وتقدما صناعيا مما يشير لأن الدول الأغنى فى العقدين القادمين ستسعى بشكل حثيث لتحقيقها، مع تحقق هذه الاحتمالات فإن ميول البشر ستتطور لكراهية الحروب وتوجه لاستبدال المواجهات الحادة التى يخرج فيها بعض الأطراف منتصرا ومزهوا وبعضها مهزوما ومحققا لتعاطف الآخرين،والذى يهدد تعاملات الدولة المنتصرة سلبا، بتوجه لاستبدال المواجهات الحادة بنوع آخر من التعاملات يحقق للطرف الأقوى ما يسعى له من تحقق لحاجته للشعور بالزهو بقوته والقدرة على تسيير الأضعف والسيطرة عليهم، تلك الحاجة الإنسانية التى لا يمكن للبشر الاستغناء عنها، الحاجة تدفعهم حثيثا لإحراز المزيد من القوة باطراد.

ولتقريب هذا التصور علينا فقط النظر لكيف تأثرت صورة الولايات المتحدة وكيف تهددت مصالحها التجارية مع الدول الإسلامية والعربية بعد شنها لهجومها على العراق، ولو كانت دول المنطقة العربية دولا تحكم بشكل ديمقراطى، لأزداد تأثر هذه المصالح سلبا ولكانت خسائرها الاقتصادية ضخمة بشكل يساهم فى تنامى المعارضة للحرب داخل الولايات المتحدة. ومع ذلك فكما نعلم فلدى الأمريكان جميعا توجه لإدانة غزو بلادهم للعراق حتى أن الكثيرين منهم يرونه عار عليها، وهو ما يؤكد أن دولة كالولايات المتحدة مستقبلا وعلى سبيل المثال قد لا تورط نفسها قريبا فى حرب أخرى وأنها فى المستقبل القريب ستحاول الخروج سريعا من أفغانستان وقد تحاول حل مشكلات تواجهها مع دول ذات سياسات لا تتوافق معها كإيران وكوريا الشمالية بطرق أخرى غير الغزو العسكرى، قد يحدث هذا وبالطبع قد لا يحدث.. فربما على العكس تورط الولايات المتحدة نفسها فى المزيد من الحروب..!! ولكن ذلك إن حدث سيكون حدثا ضد توجه اللحظة والشعور الجماعى للمواطنين الأمريكان وبما يمثل مزيد من التعدى على مشاعر الجماهير فى كل بلدان العالم ودافعا للمزيد من مشاعر الغضب والإدانة منهم للدولة الأغنى والأقوى فى العالم.

لذا قد يكون عصر شن الحروب قد تم تجميده مؤقتا فيما بين الدول الكبرى أو منها على الدول الأضعف ومع ذلك فالحروب ستبقى ولكن فى حدود أقل وأماكن أخرى، خاصة بين الدول الأقل حضارة ورقى حيث يدفع للحرب ويهيأ لها أصحاب المصالح الضيقة، وتجار الأسلحة الذين لن يغيروا مجال تجارتهم فى الوقت القريب ولكن فقط بعض من أماكن بيعهم.

أتخيل إذن أن خيار الحروب لم يعد الخيار المتاح حاليا فى مجال العلاقات الدولية خاصة بين الدول القوية والغنية أو منها وأن هذا التوجه سيستمر لعدة عقود قادمة، هذا على الرغم من أن حروبا صغيرة مبيدة ربما، ما بين دول متخلفة بلا حكومات ديمقراطية، أو بين جماعات معارضة وحكومات فى دول صغيرة، أو حتى بين جماعات قبلية أو دينية قد تستمر ولكن فقط فى دول تبدو خارج منظومة التحضر الدولية..؟! دول فقيرة وغير متحضرة ويتم حكمها بشكل غير ديمقراطى، ومستوى دخل الأفراد فيها منخفض جدا، ومستوى ثقافتهم، وتعليمهم متدنى، مثل هذه الدول قد ينظر لها على أنها خارج إطار الثقافة والدولى، وهما ثقافة وعرف فى طورهما للوضوح والتنامى وسيحكمان معظم دول العالم فى الحقبة التالية من التاريخ. وهذه الدول التى يمكن أن نطلق عليها تسمية دول خارج المنظومة الدولية هى دول فى التصور الكبير الذى سيتم رؤية العالم من خلاله ستتسم بأنها دول غير مستقرة..! ولا ساعية للاستقرار.. (السياسى أو الاقتصادى)، أما فى غير ذلك من الدول الديمقراطية (المستقرة أو الساعية للاستقرار) والأخرى و الدول الغنية، الكبرى (النامية) فسيؤدى ضغط المواطنين المثقفين على حكوماتهم للانحياز للحلول السلمية.

وعلىَّ هنا أن أوضح لماذا استخدمت تعبير الدولة النامية للإشارة للدول الغنية على عكس ما دأب المعاصرون على استخدامه، حيث يشيرون بمصطلح الدول النامية لمجموعة الدول التى لم تحقق استقرارها الاقتصادى بعد، على اعتبار أنها دول تسعى للنمو، بينما أقوم باستخدام المصطلح نفسه ولكن فى صيغة الماضى ليعنى الدول التى حققت نموها، وصار لديها من الإنتاج ما يفوق حاجات مواطنيها، وهى فى حاجة للسوق العالمى لتصرف تلك المنتجات.

البعض من الكتاب والفلاسفة والمفكرون كانوا قد سبقونى لتصور المستقبل ورؤيته على أنه: مستقبل مظلم، حيث دفعهم لذلك شعور ساد فى سنوات سابقة بالوصول لحافة الأفق الحالى لحضارتنا، وربما أتفق معهم فى الشعور بالوصول لنهاية أفق من أفاق حضارتنا البشرية لكننى أختلف معهم فى أننى أرى فى هذه اللحظة أفاقا أخرى تفتح لتلك الحضارة، أفاق ليست بالجديدة تماما، أفاق كانت قد استشعر بداياتها فى العديد من المجالات خلال القرن الماضى وهى فى هذه اللحظة على وشك التجمع فى أفق واحد بسمات حضارية مميزة، سمات ستميز المستقبل وحضارته، إذن أتخيل أننا نعيش بداية مستقبل له سمات حضارية، تحدد الكثير منها، ومع تحدده ظهرت للبشر فى هذا العصر أفاق حضارة قادمة، أفاق قد يتوسع المعاصرون فى الخوض فيها كلها – وهو ما أرجوه وأبنى تصورى عليه – أو قد يتراجع بعض تلك الأفاق عن التنامى مع إغفال البشر لها، أو ربما تتراجع كلها ليظهر أفق مجمع، آخر مختلف، جديد وبطبيعة الحال مكونا من عدة أفاق عدة أفاق لا أراها أو أتصورها، وحيث يتشكل مستقبل آخر لا أعرفه.

فى مثل هذا الأفق المتَّصَور، أرى أن الديمقراطية سمة من سمات الدول التى ستندمج فى حركة التحضر القادمة، وهى سمة قد لا تتوافر فى الدول التى لن تشارك (مؤقتا..!) فى المسار التالى للتاريخ، وأكثر من غيرى أرى أن الفرصة القائمة وكبيرة للدول العربية ولكل دول منطقة الشرق الأوسط للمشاركة فى حركة التحضر التالية، وهى فرصة للأسف، قد لا تتوفر للكثير من دول أفريقيا، وذلك حيث سيدفع احتياج الدول الكبرى لدول الشرق الأوسط كسوق كمنتجاتها لحث دول المنطقة كلها، أو بعضها للخروج من حالة الغياب الحضارى التى تتسم بعدم الاستقرار الاقتصادى والحاجة لنظام حكم ديمقراطى وفقدان الإستراتيجية، ودفعها لتحقيق مراحل أكثر استقرارا حضاريا واقتصاديا، بحيث يتاح لمواطنى هذه البلاد التمتع بقدر من الرفاهية يمكنهم من الإقبال على المنتجات الغربية، وقدر من التعليم والتثقيف يبعد التطرف الدينى عن أبناء هذه البلاد ويدفعهم لتقبل دول الغرب حضاريا بلا مشاعر من ضغينة ناتجة عن الفقر أو قصور فى الثقافة.

والدول الغنية التى حققت نموها هى كما لابد أن نستنتج مهددة بعدم قدرة الدول التى تستهدفها كسوق على استهلاك المزيد من منتجاتها، وذلك بسبب من الانخفاض المتنامى فى مستوى دخل الفرد فى الدول ذات الدخل المتوسط والتى يزداد مواطنيها فقرا بسبب توقف التنمية فيها، وهذا يعنى أن الدول الأغنى ستضطر للتوقف عن إنتاج المزيد أو بمعنى آخر ستتقهقر عن المستوى الصناعى الذى وصلت له، وبالتالى عن درجة الرفاهية التى يتمتع بها مواطنوها. إن هذا الاحتياج من جانب الدول الغنية المنتجة لسوق يتكون من شعوب ذات دخل مرتفع نسبيا لتستطيع شراء منتجاتها هو ما يؤكد مصلحة الدول الأغنى فى تنمية الدول ذات الدخل القومى المتدنى كمعظم دول منطقة الشرق الأوسط وذلك لفتح المزيد من الأسواق شبه المغلقة فى الوقت الحالى. أسواق يؤدى واقع بلدانها لأنها ستغلق تتضاءل أمام جميع المنتجات فى السنوات التالية.

لذا أتخيل حالة الضياع وعدم تحديد خطة تنموية وانعدام الديمقراطية وبقايا الفكر القبائلى والتحيز للقومية وانخفاض مستوى التعليم والتطرف ضد الآخر ومعاداة الواقع متعدد الثقافات، وضع مؤقت فى دولنا رغم كل الاستقراءات الواقعية التى تقول بغير ذلك.

ولنتخذ دولة كمصر مثالا يمكننا به أن نتخيل الآليات التى قد تعمل لدفعها لمزيد من النمو ولإتباع خطة تنموية واعية.

فى مصر وحيث مستوى دخل الفرد يتدهور بشكل سريع حتى صار أقرب للكفاف لدى الطبقات الوسطى، أى ما يكفى فقط لشراء الطعام والتكفل بأجر مسكن صحى تتوفر فيه بالكاد الاحتياجات الرئيسية من كهرباء ومياه شرب نظيفة. ومع ما يتاح للأطفال من مستوى منخفض من التعليم، مع واقع له هذه خصائصه يبدو من غير المعقول أن تأمل دول غنية منتجة فى ترويج بضائعها المرتفعة الثمن فى السوق المصرى، خصوصا لو كانت منتجاتها منتجات كمالية. لذا فقد تدفع الدول التى تأمل فى فتح السوق لها فى اتجاه تحقيق قدر من النمو الاقتصادى بمصر ليتيح هذا النمو ارتفاع دخل الفرد والتالى قدرته على شراء المزيد من المنتجات الترفيهية الحديثة التى تنتجها الدول المتقدمة، لا تلك المنتجات المقلدة منخفضة الجودة رخيصة السعر التى تنتجها دول كالصين، هنا تقابلنا معضلة وهى أن دولة تتسم بهذه السمات غالبا ما تتقلص ممارسة الديمقراطية داخلها وغالبا ما تعانى من الفساد وعدم امتلاكها لخطة تنموية طموحة تسعى بذكاء لرفع مستوى دخل الفرد بل على العكس تستقر سياسات اقتصادية تزيد من دخل قلة قليلة من كبار الموظفين الفاسدين ورجال الأعمال المتعاونين مع الفساد زيادة ضخمة، وتؤدى إلى إرهاق باقى المواطنين بالمزيد من الضرائب وبزيادة البطالة وبانخفاض مستوى دخل المواطنين الذين يعانى معظمهم من نوع من البطالة المقنعة وبزيادة الأسعار وانخفاض أجور الكفاءات الحقيقية أو إهمال سوق العمل لاستخدامهم، وهذه السياسات المتخبطة لن تؤدى فى المستقبل سوى لمزيد من انحطاط مستوى دخل الأفراد ولانتشار الفقر الذى يؤدى بدوره لانخفاض مستوى التعليم ولانتشار الفكر المنغلق ومزيد من التطرف، فى وضع تتطور فيه الأمور بهذا الشكل يستحيل ازدهار السوق فيه وسيؤدى هذا كما شرحت سابقا، لتعطيل إمكانيات إنتاج المزيد لدى الدول التى كان يمكن لها الاستفادة من السوق المصرى والوضع نفسه سيؤدى عند تفاقمه لمستوى من التأزم الاقتصادى الذى سيؤدى لفقدان الدولة لإمكانية تشغيل رؤوس الأموال الوطنية – الداخلية – فضلا عن الأجنبية – الخارجية – حيث تتوقف قدرة البلد تماما على الاستثمار ويتحدد سوق البيع فيه بالمنتجات الأساسية، منخفضة الجودة.

 هنا قد يتسنى لأصحاب رؤوس الأموال المحلية، إذا تمتعوا بقدر من الحنكة، وحتى فى حالة استفادتهم السابقة من الواقع الفاسد أن ينقلبوا على استمرار الأوضاع غير الديمقراطية بما تؤسس له من فساد وقصور فى الرؤى التنموية وقد ينحازون بإرادتهم لحكومات يمكنها أن تتبع خطط من شأنها إنعاش الاقتصاد وبالتالى نمو مشاريعهم وازدهار أموالهم. إذن فأغنياء مصر يمكن أن يعملوا مستقبلا فى إطار دافع للتنمية ذلك على الرغم من اعتبارهم فى الوقت الحالى من كبار المستفيدين من الأوضاع المتخبطة والفاسدة وسيدفعهم لذلك انعدام قدرة الاقتصاد المحلى على مدهم بمزيد من الثراء، وهذا التصور يعنى أن مصالح رجال الأعمال الأثرياء فى دولة كمصر تحتاج كمصالح نظرائهم فى الدول الأكثر تقدما للمشروع حضارى واعى، ولسلطة ديمقراطية كضمان لانحياز السلطة الحاكمة لهذا المشروع التنموى، وسعيها لتطويره سريعا (وهذا سعى لن تقوم به سوى حكومات تأتى للسلطة بطرق ديمقراطية وتعرف أن سر بقائها فى السلطة يتمثل فى التنمية) مشروع تنموى يطور الإمكانات الاقتصادية للبلد، ويفتح الباب للحد من البطالة ورفع مستوى دخل الفرد، مشروع لن يضمن تحققه واستمراره ونموه سوى ديمقراطية صارت منذ الآن، على الرغم من عدم إدراك الكثيرين من أصحاب رؤوس الأموال، ضمانتهم الوحيدة لمزيد من الثراء والكسب وصار عليهم فى الوقت الحالى أو فيما بعد..! الدفاع عن هذه الديمقراطية بدلا من الدفاع عن الفساد، الذى يمثل الخيار الحالى لهم، وطبقة رجال الأعمال الأثرياء هذه قد تسعى فى وقت قريب لتبنى خيار الديمقراطية وحث الجماهير على ممارستها أو لحث السلطة على تبنيها.

عندما نرجو إذن أن يصير خيار التنمية خيارا لكثير من الدول الفقيرة فى المستقبل فأننا نعول فى ذلك على أصحاب المصالح واتسامهم بقدر من الوعى يدفعهم لتنشيط هذا الخيار، الذى يحقق مصالحهم.

يتبع

 

فى المقال القادم من (مقدمة فى نظرية القوة المقبولة) أتابع عرض نظرية القوة المقبولة حيث أناقش العناصر التالية:

1. النظرية وتطبيقها فى المعاملات السياسية والاقتصادية الدولية، ونوعيات أخرى من المعاملات

2. لماذا قد يقبل الأفراد والدول بممارسة القوة عليهم؟

3. ما يقدمه هذا النمط الفكرى وما سيؤدى له من نوعيات تعامل وكيف سيتيح الفرصة للشعوب والدول لزيادة خياراتهم؟

4. كيف تؤدى القوة الممارسة ضدك لزيادة مجال حريتك؟

5. محدودية مسعى الكفاية اقتصاديا.!؟ تحقيق الكفاية من المنتجات والسلع الرئيسية فى دولة ما وكيف قد يسجنها ويحد من قدرتها فى التأثير على غيرها من الدول؟

6. القبول بقوة الآخر (القوة المقبولة) التطبيقات داخل الدول (الديمقراطية – الانفتاح الاقتصادي – التعددية الدينية) وما قد يؤدى له حضاريا..

7. كيف يؤدى النظام الاقتصادي الحالى لعجز الدول والحد من القدرة على النمو الاقتصادي لها وكيف يؤدى لامتصاص دخل المواطن ذو الدخل المتوسط وزيادة التذمر والحد من قدرة الدول الكبرى صناعيا على النمو (البنوك – الإسكان – القسط – ضرورة فتح أفاق الترفيه – وتنمية التذوق الجمالى – التنمية الحضارية – السياحة كوسيلة لزيادة دخل بعض الدول والنجاة من وضع الركود).

مصطلحات جديدة:

دولة خارج منظومة التحضر (أو خارج المنظومة العالمية) هو مصطلح أعرف به الدول التى لم تستطع أن تجارى حركة التحضر المعاصرة لها، ولم تحقق من النمو الاقتصادى ما يحقق لمواطنيها مستوى مناسب من الدخل ومن التعليم الثقافة وعجزت عن الارتفاع لمستوى مناسب من التحضر.

الدولة المستقرة وهو مسمى أضعه للدول التى وصلت لحالة اقتصادية مناسبة (دول ذات دخل قومى مرتفع نسبيا) وحققت لأهلها مستوى مرتفع من التعليم والتثقيف وتسير بخطى ثابتة وواضحة تجاه المزيد من النمو الاقتصادى.

دولة ساعية للاستقرار هو مصطلح أستخدمه للإشارة للدولة ذات الدخل القومى المنخفض، ولكن يتمتع شعبها بحصوله على قدر مناسب من التعليم والثقافة كما أنها تملك رؤى تنموية وقد بدأت فى السير على خطة تنموية واضحة المعالم، بما يؤهلها فى المستقبل لزيادة دخلها القومى وتحقيق الاستقرار ثم الرفاهية لشعبها.

دولة نامية هو مصطلح قصدت به الإشارة للدول المعروفة حاليا بالدول المتقدمة وهى الدول الغنية التى حققت نمو يفوق المستوى المتوسط، ولديها فائض فى الإنتاج ويتمتع مواطنوها بمستوى تعليم جيد وتتمتع هى باقتصاد قوى ومستوى مرتفع للدخل القومى ولدخل الفرد.

* مفكرة وأديبة مصرية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 25/تشرين الأول/2010 - 17/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م