العدالة الاجتماعية في القرآن الكريم

قراءة في كتاب الشيخ الدكتور اليوسف

غريبي مراد

على تغاير الظروف والأزمان والأمصار، وتبدّل الدول والحضارات، تظل قيمة العدل نقطة الارتكاز في مسيرة الأُمم والشعوب ونهضتها وبناء حضارتها، فهي أساس الملك كما يعبر ومعدن السلام والاطمئنان والرفاه، وبها يعرف القانون السليم وأي أمة تمسكت بها حل التقدّم والصعود إلى القمة بربوعها، وكل أمة تنازلت عنها كان مآلها الانهيار والسقوط.

لا يتجادل عاقلان ناهيك عن مؤمنين حول موقعية العدل في الوجود كله، ومركزيته في مشاريع السلام العالمي والكوني والتطلع الحضاري، ونظرا لذلك كله، جادت أنامل أستاذي وصديقي المؤمن عالم الدين السعودي الشيخ الدكتور عبد الله أحمد اليوسف حفظه الله ورعاه، ببعض الوريقات القليلة عددا الغنية مضمونا، الهادفة رساليا وثقافيا، والتي حملتنا في رحلة ثقافية رائعة وجادة في رحاب أعظم كتاب في الوجود عبر الزمن كله، كتاب خالق الوجود الله سبحانه وتعالى، فكانت بمثابة درس من دروس التدبر في القرآن العظيم، لوعي أحد مفردات الحقيقة الكونية بل لا نبالغ إذا قلنا أنه أساسها، لكن نظرا لشمولية هذا الموضوع "العدل" لكل أبعاد الحياة والوجود، ركز سماحة الشيخ اليوسف في بحث علاقة العدل بالاجتماع من منظور قرآني، فكان عنوان بحثه: العدالة الاجتماعية في القرآن الكريم، حيث جاءت خطة البحث ثلاثية الأبعاد : المقدمة والتمهيد، يليه المدخل المفاهيمي ثم التحليل، وكون المؤلف أقر في المقدمة قائلا: وقد حاولت في هذه الأوراق التي بين يديك، استكشاف بعض أبعاد النظرية القرآنية في (العدالة الاجتماعية) مع إقراري مسبقا بحاجة هذا الموضوع الهام إلى مزيد من التأمل والتدبر في القرآن الكريم...

نجده ترك المجال مفتوحا أمام الباحث، ولم يختم بحثه بخاتمة، كإيحاء للقارئ الباحث بأن الموضوع بحاجة لجهد متعدد الأبعاد والأفراد والآليات والعلوم، والجميل في بحث سماحة الشيخ اليوسف نلحظه بالتمهيد، الذي يمتد للمدخل المفاهيمي وصولا للتحليل المقتضب لبعض أبعاد النظرية القرآنية في العدالة الاجتماعية، أقصد هنا التناسق المنهجي في تقديم الموضوع للقارئ، فالقارئ لا يشعر بتعرجات خلال مسيرة القراءة للكتاب، بالعكس يجد نفسه يزداد انفتاحا على الموضوع دون أي ملل، ولعل السر في ذلك مجال بحث الموضوع "القرآن"، أضف إلى ذلك نباهة المؤلف وجده واجتهاده المستمر في البحث القرآني، مما يكسب القارئ وعيا خاصا ينتقل به من الفردانية الغافلة إلى الاجتماع المنفتح على الله ضمن منظومة فكرية متوازنة...

أما الميزة الأخرى التي تستقطب القارئ وتثير نباهته تتحدد في الاستدلال القرآني الذي يكشف إلى الأهمية البالغة في الارتباط العلمي بالقرآن وطلب الموضوعية وتثبيت التواضع في مشوار بناء الذات والاجتماع، هذه الحقيقة نلحظها بوضوح في مبحث المفاهيم، والأهم من ذلك هوالدقة المنهجية والابتعاد عن التقليد المنهجي، حيث المؤلف فضل أن يعطي تعريفا مقتضبا نوعا ما لمفهوم العدل وبالمقابل أسهب بعض الشيء في تعريف مفهوم الظلم، وهذا أسلوب بيداغوجي خاص بمنهج إيصال المعلومات الأولية للناشئين سواء عمرا أو معرفة بالعلوم، ولعل مقصده هنا أن التسرع في طرح مفهوم العدل مباشرة للقارئ كمادة ثقيلة لا يمكن للعقل استيعابها وللوجدان هضمها بسهولة، فلابد من الرفق بالمتلقي من خلال تقريب العدل للأذهان عبر الضد، كما يعبر عن ذلك بأن الأمور تعرف بأضدادها، ولقد وفق سماحة الشيخ اليوسف في صياغة تراتبية مفاهيمية، انتقلت بالقارئ نحو آفاق اجتماعية تحمل بين طياتها أسئلة وهموم وقضايا وآمال أيضا...

أما الميزة الثالثة والتي اتسم بها تحليل المؤلف لأهم أركان العدالة الاجتماعية والتي حددها بثلاث أركان، أنه بالإضافة للآيات القرآنية والأحاديث والقصص النبوية والإمامية، استند سماحة الشيخ الدكتور اليوسف للتقارير العلمية والإخبارية العالمية، وهذا مما يحسب له كدليل على أن الاشتغال الثقافي الإسلامي بحاجة لجهد كبير في جمع المعلومات ومتابعة التطورات، ناهيك عن الجانب الفني في إيصال الفكرة من خلال الواقع الحي للناس، دون الاستغراق في المثال...

وأخيرا لفتت انتباهي قائمة المصادر والمراجع، حيث كان جلها ذات قيمة علمية ضمن الواقع العلمي الإسلامي...

في الختام وبكلمة هذا الكتاب، اعتبره مدخل أساسي في وعي قيمة العدالة الاجتماعية في القرآن الكريم، صحيح أن العديد من المفكرين والعلماء من السابقين وبخاصة في الزمن الحديث والمعاصر، حاولوا طرق هذا الموضوع ووفقوا في جوانب عدة يمكن الوقوف عليها، لكن ذلك كله يعتبر رافعة لمواصلة المسيرة في بحث الأسئلة المصيرية تحت ضوء كتاب ربنا عز وجل، ولعل أستاذي وأخي العزيز الشيخ الدكتور عبد الله أحمد اليوسف حفظه الله، كان سباقا لذلك في زماننا، خصوصا في ظل الفوضى والمحن والمشاكل والآلام والابتلاءات التي تعرفها مجتمعاتنا، ناهيك عن الجهل بمركزية العدالة الاجتماعية في مشروع الإصلاح وفق المنظور الإسلامي...

وحتى لا أنسى التقديم الفني للكتاب كان ممتازا سواء من حيث الغلاف والتنظيم والترتيب والفهرسة والهوامش، كما لا نغفل عن أن طباعة الكتاب كانت بمثابة صدقة جارية للمغفور له الحاج إبراهيم بن سلمان بن كاظم الدرورة، وهذا مجال للعمل الخيري مهم في صناعة المجتمع القارئ وترقية الوعي لدى إنساننا...

أما بالنسبة للعناوين والأفكار تعمدت عدم عرضها حتى لا أحرم القارئ من الاستفادة والتركيز في وعيها، وفضلت القيام بقراءة عابرة ومبسطة، وأملي أن توسع الأبعاد الواردة في الكتاب مستقبلا، ليزداد النضج والوعي والحراك من خلالها والتحية الطيبة والخالصة مع الدعاء الجميل للعزيز المؤمن الفاضل سماحة الشيخ الدكتور عبد الله اليوسف على هذا الإصدار الاستراتيجي بالنسبة لمستقبل الاجتماع الإسلامي بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاقتصادية وفي ذلك كله الأمن والسلم والأمة الصالحة...والله من وراء القصد.

* كاتب وباحث إسلامي

www.alyousif.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 11/تشرين الأول/2010 - 3/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م