العبودية لله شرط العدالة

د. محمد طي

هل بين العبودية والعدالة من علاقة؟ وإذا وجدت فهل هي علاقة ضرورية؟

كيف تعاطت الأديان السماوية, لا سيّما الدين الخاتم, الإسلام, مع هذين المفهومين؟

وكيف طبّق الإمام عليّ (ع) الموقف الإسلامي في هذا المجال؟

أسئلة سنحاول الإجابة عليها فيما يأتي, وسنمهّد للإجابة بتحديد المعاني اللغوية للمصطلحين.

في اللغة تعني العبادة الطاعة مع الخضوع، كما في لسان العرب،

وتعني العبودية الخضوع والتذلل.

فالإنسان مطيع لما يعبده خاضع له ذليل تجاهه، فإذا عبد الله تعالى استجاب له استجابة غير محدودة فيما يأمره به وينهاه عنه، وإذا عبد غير الله، كالطاغوت مثلاً، كان منفذاً لأوامره دون تردد.

أما العدالة فهي الاستقامة والحكم بالحق, وهي تعني عدم الانحراف عن السبيل القويم, كما تعني المماثلة والمساواة.

وبالمقابل، فان من يطع الأوامر الشخصية لأي كان، النابعة من ذاته، والصادرة حسب تقديره الخاص، فقد عبده, بشكل أو بآخر.

فكيف كان موقف الإنسان, تاريخياً, على هذا الصعيد؟

أطوار العبادة

لقد مرّت الإنسانية بأطوار مختلفة في موضوع العبادة، فعبد الناس، ولمدة طويلة جداً, الأوثان وبعض مظاهر الطبيعة والأشخاص الحاكمين، إما بانفراد أو بالشراكة مع الله تعالى، وهم في كل هذه الحالات, كانوا يلتزمون إرادة بشر، ممن يدّعون النطق باسم الأوثان أو مظاهر الطبيعة أو الأشخاص المتألهيين أنفسهم، وكانوا يخضعون لهم بكل الذلة. وهذا ما كان حاصلاً في جزيرة العرب مع هبل واللات والعزى ويعوق ويغوث ونسر، أو في بلاد كنعان مع "بعل", أو في بلاد اليونان والرومان مع جوبيتير وباخوس وايزيس, ثم مع الاسكندر المقدوني نفسه، الذي أدعى الألوهية، وفي مصر مع الفراعنة، وفي بلاد الرافدين مع مردوخ....

وهذه الآلهة كانت تمارِس أو تُمارَس باسمها صلاحيات مطلقة على الناس، فتدّعي امتلاك أنفسهم، فتقتلهم أو تدفعهم إلى الموت، سواء بالعقوبة على جرم أو غير جرم، كإغضاب الحاكم، أو الزج في الحروب من أجل المجد الشخصي للحاكم والاستيلاء على البلاد والثروة.

وتدعي تلك الآلهة المزيّفة كذلك امتلاك حريات الناس لتستعبدهم عندما تشاء، فيكونون أرقاء احتياطيين لها. تستخدمهم في السخرة وتستولي على نتاج أتعابهم، وكأنهم مملوكون لها. وأكبر الأدلة على ذلك ما نشاهده من بقايا القصور والمعابد في أنحاء العالم، مما كان يقضي في العمل فيها مئات الآلاف من الناس، كأهرام مصر وقلعة بعلبك وأكروبول اليونان وغيرها..

كما تدّعي تلك الآلهة امتلاك ما تشاء من أموال الناس، تصادرها عندما تحتاجها، أو عقوبة وانتقاماً.

ونزلت الأديان السماوية تباعاً, لتحارب كل ذلك.

فهي قضت على الألوهيات الأرضية المدّعاة, ودلّت على الإله الواحد الأحد، وحصرت العبادة به وحده, وحرّمت أي عبادة غيرها، وهدّدت بإنزال أقصى العقوبات بمن تمارَس تجاهه، إن كان من البشر أو غيرهم من العاقلين، وبمن يمارِسها. فهي شرك، لأنها ادعاء شركاء لله تعالى، والشرك إثم عظيم (النساء/48) وهو ضلال بعيد (النساء 116)،} ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير{(الحج/31) و}إنه من يشرك بالله فقد حرّم عليه الجنة{(المائدة/72) "فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء/48و 116).

ولما حرّم الله عبادة الألوهيات الزائفة, حرّم طاعتها أو طاعة الناطقين باسمها، حرّر الإنسان من الرضوخ لمطالبها، في نفسه وحريته وماله.

فنفس الإنسان محرّمة إلا بالحق، فلا تزهق إلا قصاصاً على ارتكاب كبائر الجرائم، كالقتل، ولا يزج بالإنسان في الحروب، إلا في سبيل الله, كردّ العدوان عن نفسه أو عن المؤمنين.

وحرية الإنسان مصونة، فهو ممنوع أن يعبّد نفسه لإنسان آخر, إذ يردعه علي (ع) عن ذلك بقوله: "لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً" (الكتاب 31)، وإذا كان الاستعباد يمكن أن يكون سافراً أو يكون مقنّعاً، فقد توصلت البشرية اليوم إلى أن تعدّ بعض أشكال العمل من أنواع الاسترقاق, كالسخرة، فحرّمته (اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 29 لسنة 1930).

وكان عليّ (ع) قد حرّم السخرة إبان خلافته, عندما منع واليه من أن يجبر أحداً على العمل لإعادة حفر ساقية ردمت، (المحمودي 2/359).

أما مال الإنسان فمحفوظ ولا يؤخذ منه إلا قسط بسيط زكاة أو خمساً...

 ولما كانت السخرة والمصادرة الكيفية محرمتين في دين الله، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام، فقد امتنع المسلمون في القرون الأولى، عن إقامة المنشآت الجبارة لتخليد أشخاص الحكام أو لغير ذلك, مما يعدّ من أوجه البذخ، وربما كان هذا أحد العوامل التي جعلت ابن خلدون يلاحظ "أن العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب" (مقدمة, دار الفكر/118).

أهمية النقلة التي أمرت بها الأديان السماوية

إن هذه النقلة بين الشرك والكفر من جهة, والإيمان بالله الواحد الأحد من جهة أخرى، وما يترتب عليها من نتائج روحية ومادية, هي النقلة الجبارة النهائية للإنسانية، إذ أعطت الإنسان قيمته وأشعرته بكرامته التي حباه الله, الذي يقول: }ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا{ (الإسراء/70)، كما وفّرت الأديان المساوية للإنسان نفسَه وحريتَه وكرامتَه، وهي تفوق بما لا يقاس النقلات التي حددتها الماركسية من الرق,ّ إلى القنانة, إلى العمل المأجور في المؤسسات, إلى المجتمع الشيوعي) F.Engels: l’origine de la famille, de la propriété privée et de l’Etat, éd. Socioles, Paris 1954. P. 93 et K. Marx, contribution à la critique de l’économie politique, éd. Sociales, Paris 1957, P.4.))

بل هي تفوقها مجتمعة بالنوع وليس فقط بالدرجة، ذلك أن الماركسية تنفي كل عامل الروح (Angels Anti-Dithering, éd. Sociales Paris 1956. p.75)

كما أن الماركسية ترسم مستقبلاً لم تستطع, بعد حكم دام أكثر من سبعين سنة, أن تصل إلى بدايات تحقيقه, وهي التي اقتبست الكثير من تفاصيله من الأديان المساوية, وخاصة من أسفار العهد القديم. (قارن بين "نقد برنامج غوته" لماركس وانجلز (éd. Socials, Paris 1957.P.4, ص 25 وما بعدها، حيث يجري الحديث عن مجتمع الوفرة والراحة, الذي يطبّق فيه مبدأ "من كل حسب قابلياته, ولكل حسب حاجته", مع سفر أشعياء, الفصل 30/23-26, حيث ورد: سينبت أفضل الزرع وترعى الماشية أحسن العلف وتتدفق المياه". ومع الفصل 11/6-8 من سفر اشعياء نفسه, حيث سيعمّ السلام وتنتهي الحروب, وحتى العداوات الغريزية بين الحيوانات.

هذا إذا صرفنا النظر عن كل النقد الموجّه إلى النظرية نفسها.

أما الدين المساوي, وأكمله الإسلام, كما قضى الله تعالى, فقد رسم الطريق لنقل الإنسان من المرحلة الجاهلية بكل تناقضاتها ومشاكلها إلى مرحلة الإسلام, التي تؤدي إلى الازدهار الروحي والبحبوحة المادية, التي يصفها الله تعالى, في حديثه عن اليهود والمسيحيين, إذ يقول. }ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم{ )المائدة/66)، وإذا أقام المسلمون أحكام القران الكريم, فإنهم, كما يقول تعالى,

في حديث على لسان الجن في المسلمين والقاسطين: }وألّوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً{( الجنّ/16)

الإسلام والعدالة

ولا تكتفي الأديان السماوية بالردّ على الوثنيات, بل هي تتجاوز ذلك لتشدّد على العدالة، ولما كان الإسلام خاتمها والقرآن هو المهيمن على الكتب السماوية الأخرى (المائدة/48), فهو أكثرها وأوضحها في هذا الموضوع, كما في غيره، وفي الواقع فقد ركّز القرآن الكريم تركيزاً شديداً على النقيض ليثبت النقيض الآخر في هذا المجال، فوردت حوالي مائتي آية في هذا الصدد، أغلبيتها الساحقة تصف الظلم وتنهى عنه وتحذر منه,.كما أن السيرة النبوية المطهّرة أفاضت في هذا المجال.

العدالة في القرآن

 يتناول القرآن العدالة والظلم, مؤكّداً العدالة الالهية, ومحذّراً من ظلم الإنسان تجاه نفسه وتجاه الآخرين.

 والعدالة في القرآن أولاً هي عدالة الله تعالى، الذي ينفي عن ذاته الظلم في حوالي ثلاثين آية، فهو لا يظلم أحداً (الكهف/49), ولا يظلم نفساً (الأنبياء/47 ويس/54), ولا يظلم عبيده (الحج/10 وفصلت/46 وغافر/ 319), وهو لا يظلم الناس (يونس/44), ولا يظلم العالمين (آل عمران/108), ولا يظلم القرى (الأنعام/31 وهود/117 والقصص/59 والشعراء/ 208-209), والناس على يديه لا يظلمون شيئاً (يونس/44، الأنبياء/47، يس/54 ومريم/60), ولا يظلمون مثقال ذرة (النساء/40), أو فتيلا (النساء/77 و49 الإسراء/719), أو نقيراً (النساء/124)، بل هو لا يظلم أبدا (التوبة/70، العنكبوت/40 الروم/9 آل عمران/117و116و18 و25 و108، والنحل/33 و90 و118، البقرة/272، و281، الأنعام/31و16، يونس/47 و54، النحل/111، المؤمنون/62، الزمر/69، الجاثية/22، الأحقاف/19، غافر/31-17، طه/112).

 ثم يشخّص الله تعالى الظالمين فنجد أنهم فئات، فمنهم من يظلم الناس, ومنهم من يظلم نفسه, ومنهم من يظلم على نحو عام.

الظالمون تجاه الناس

 ويتمثّل ظلمهم بما يأتي:

 ظلم الناس والبغي بغير الحق (الشورى/42)، ومن الأمثلة على ظلمهم:

 الظلم في الأنفس: قتل النفس ولو بعذر (القصص/16)

 ظلم النساء: إمساك النساء ضراراً (البقرة/231), وإخراج النساء من بيوتهن بمناسبة العدة/الطلاق/1), وعدم احترام أحكام الطلاق (البقرة/229).

 الظلم في المال: أكل أموال اليتامى بالباطل (النساء/30)، والجشع, كفعل من طلب ضمّ نعجة صاحبه إلى نعاجه(ص/24), والادلال على الناس بالأموال (الكهف/35)، واستخدام الأساليب الملتوية لتعجيز الضعفاء عن المنافسة, ورفع الأسعار (نوح/24).

 الشهوة المحرّمة: الاستجابة لهوى النفس تجاه المرأة غير الزوجة (يوسف/23)،

 تفضيل الأغنياء على الفقراء: طرد النبي المستضعفين (هود/31)

 هذا إلى كل أنواع العدوان التي تحددها أحكام العقوبات, من حدود وتعذير وقصاص.

الظلم تجاه النفس

 كالشرك والكفر: من إتباع اله غير الله (هود/101), واتخاذ العجل رباً (البقرة/54), وطلب رؤية الله جهرة (البقرة/57), وما فعله قوم نوح وعاد وثمود في تكذيب الرسل (التوبة/70 والعنكبوت/40 والروم/9, وال عمران/117), والتكذيب بآيات الله (الأعراف/177),

 والمعاندة: كالصمم والعمى المعنويين (يونس/44), وعدم الاعتراف بأنعم الله (الأعراف/160) والإجرام (الزخرف/76), وسلوك اليهود الذي أدّى إلى أن يحرّم الله عليهم بعض الطيّبات (النحل/118), والإلحاح بعد الإنعام (البقرة/57)

 والرياء: كالإنفاق في غير سبيل الله (آل عمران/117)

 ومخالفة أوامر الله: كأكل آدم وحواء من الشجرة المحرّمة (الأعراف/23).

 والى هذا, ورد في القرآن وصف بالظلم على نحو عام، ولم يوصف بالظلم "تجاه الناس" ولا "تجاه الله", لأنه لا يمكن لمخلوق أن يظلم الله }وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون{ (البقرة/57 والأعراف/160)، إلا أنه لا بد أن بكون تجاه النفس لاشتراك الوصف في بعض التصرّفات، وهو يتمثل:

 بالشرك: (البقرة/165، المائدة/72، الصافات/22،لقمان/13، المائدة/72، يونس/106، الكهف/5، الأنبياء/29، الحج/71),

 بالكفر: (البقرة/254، الإنسان/31، أل عمران/86، الأنعام/33، الأعراف/213، العنكبوت/49، النحل/14، سبأ/42، الجمعة/5),

 وبنكران آيات الله والتشكيك بها (الأعراف/29، آل عمران/14 و182، الأنعام/68، هود/18، الصف/71، إبراهيم/34، الحج/10),

والحكم بما لم ينزل الله (المائدة/44- 45-47),

 وتكذيب الرسل ومعاندتهم (الأنبياء/30 البقرة/ 59و150، الإسراء/59، الفرقان/27، النحل/113،الإسراء/47،الفرقان/28،المؤمنون/41، فاطر/37، الزخرف/76،فصلت/46،النور/50) وتولي أعداء الله (هود/113،التوبة/23، الممتحنة/9، البقرة/145، الحج/53، الحشر/)17،

 والغفلة عن ذكر الله (الزخرف/39، الأنعام/45),

 والفسق والضلال (البقرة/59، الأعراف/165، نوح/24، يوسف/79، الشعراء/227),

 وعصيان أوامر الله (التوبة/39),

 تغيير الشهادة (المائدة/107),

 الاعتداء على أرواح الناس (المائدة/29), وعلى أنفسهم (يوسف/79), وعلى أموالهم (البقرة/279، النساء/30),

 إتباع الهوى (هود/116، الروم/29),

 تحريم الأغنياء ثمار حدائقهم على الفقراء (القلم/29، الأنعام/152).

الأكثر ظلماً

 ويحدّد الله تعالى الأكثر ظلماً من بين الظالمين، فإذا هم متعمّدو الكذب على الله أو التكذيب بالآيات الالهية, كمن أفترى على الله كذباً (الكهف/15، وهود/18), أو كذّب بآياته (الأنعام/21، والأعراف/37), أو كذّب بالآيات وصدف عنها (الأنعام/157), أو قال أوحي إليّ وسأنزل كما نزل الله( الأنعام/93أ), أو افترى وكذّب بالحق (العنكبوت/68), أو افترى وكذّب بالصدق (الزمر/32), أو افترى وهو يدعي إلى الإسلام (الصف/7), أو قصد أن يضل الناس بغير علم (الأنعام/144).

العدالة في السنة

 حفلت السنة الشريفة بالحث على القسط والعدالة, وعلى اتقاء الظلم والتحذير منه:

 مدح الرسول (ص) العادلين فقال:" إن المقسطين على منابر من نور عن يمين العرش...(وهم من) يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا" ( مسلم, إمارة / 18)

 وتنهى السنة عن الظلم الذي حرّمه الله علي نفسه, بقوله في الحديث القدسي:" يا عبادي, إني حرّمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرّماً, فلا تظالموا" ( مسلم, برّ / 55.

 والظلم محرّم بين المسلمين, إذ يقول الرسول (ص):" المسلم أخو المسلم, لا يظلمه ولا يسلمه" ( بخاري, مظالم / 3.

 وهو محرّم تجاه أهل الذمّة, إذ يأمر النبيّ(ص) المسلمين أن " لا تقطعوا سبيلاً أو تظلموا ذمة" ( أحمد بن حنبل, 1/87)

 هذا إلى عدد كبير جدّا من الأحاديث الشريفة

علي والظلم

 مما تقدم يمكننا أن نصنّف الظلم بأنه:

 ظلم في الموقف من الله تعالى

 وهو أشد الظلم، ويتمثل بالشرك والكفر وتكذيب الأنبياء والاستهتار بالآيات.

 وقد تجلى عليّ (ع) في المجال المناقض أيّما تجلٍ, حيث راح يبين وحدانية الله وتفرده واطلاقيته زماناً ومكاناً، ويشرح عدله وعلمه وسائر صفاته وضرورة الخضوع المطلق له، وقد خصّص لذلك عدداً من الخطب خاصة في نهج البلاغة:

 الخطبة الخامسة والستون: وتحتوي على مباحث راقية في العلم الإلهي,

 الخطبة التسعون: وتتحدّث عن قدم الخالق وعظم مخلوقاته,

 الخطبة الحادية والتسعون: وتسمّى خطبة الأشباح, وفيها وصف رائع لله تعالى,

 الخطبة التاسعة بعد المائة: وتتحدّث عن قدرة الله وانفراده بالعظمة,

 الخطبة الثانية والخمسون بعد المائة: وتتناول صفات الله جلّ جلاله,

 الخطبة الثالثة والستون بعد المائة: وتتحدّث عن الخالق وكيفية خلقه المخلوقات,

 الخطبة الثامنة والسبعون بعد المائة: وتصف لامحدودية الله,

 الخطبة التاسعة والسبعون بعد المائة: ويردّ فيها (ع) على من سأله: هل رأيت ربك؟

 الخطبة الثانية والثمانون بعد المائة: وتبدأ بحمد الله والاستعانة به وتتحدّث عن وحدانيته،

 الخطبة الثالثة والثمانون بعد المائة: وتتناول قدرة الله تعالى وفضل القرآن،

 الخطبة الخامسة والثمانون بعد المائة: وفيها يحمد الله ويثني على رسوله ويصف خلق الحيوان,

 الخطبة السادسة والثمانون بعد المائة: وهي خطبة في التوحيد,

 الخطبة الخامسة والتسعون بعد المائة: وفيها يحمد الله ويثني على نبيه.

 هذا إلى عدد عظيم من الأدعية والابتهالات, التي تركّز على كل المواضيع المتصلة بالألوهية.

 وقد أخذ عن علي (ع) علماء الكلام والمتصوّفة والزهّاد، وبنوا نظرياتهم على ما اقتبسوا منه.

 وعلى خطى علي (ع), سار أهل البيت (ع) وصولاً إلى الإمام المنتظر (ع).

 وقد بيّن علي (ع) للناس ظلم الشرك، وعده "الظلم الذي لا يغفر" (الكتاب/27). إلا أن منه أنواعاً قد تخفى حقيقتها على مرتكبها, كشفها عليّ (ع) وحذّر منها:

 كالرياء مثلاً , إذ يقول (ع): "وأعلموا أن أيسر الرياء شرك" (الخطبة/86).

 وقبول الوضع الدوني بالنسبة لأي إنسان, حيث يقول (ع): "من قضى حقّ من لا يقضي حقّه فقد عبده" (الحكمة/164) إلى جانب الله تعالى.

 والاستغراق في الدنيا: فأهل الدنيا "تعبدوا للدنيا أيّ تعبد وأثروها أيّ إيثار" (الخطبة/111),

 والاستسلام للشهوات, ذلك أن "من عشق شيئاً أعشى بصره.. قد خرقت الشهوات عقله... فهو عبد لها" (الخطبة/109)، وهذه عبودية لغير الله.

 كما بيّن عليّ (ع) ظلم الكفر, فالكفر على أربع دعائم: على التعمّق والتنازع والزيغ والشقاق، فمن تعمق (خلف الأوهام) لم ينب إلى الحقّ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحقّ، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة، وحسنت عنده السيئة, وسكر سُكر الضلالة، ومن شاقّ وعرت عليه طرقه, وأعضل عليه أمره، وضاق عليه مخرجه" (الحكمة/31).

 ومن أمثلة الكفر, المساواة بين الله وغيره: "اللهم... والعادل بك كافر بما تنزلت به من محكمات آياتك" (الخطبة/91), ومن بعض أشكاله الخفية عن الناس أفعال الغدر،ذلك أن "كل غدرة كفرة" (الخطبة/200).

في الموقف من الناس

 ويتمثل بالاعتداء على الأرواح والأجساد والأموال. وقد فصلت السنة النبوية الشريفة ما يقابل ذلك من حقوق ل" المؤمنين" و"لعباد" و"الناس", على أوسع نطاق, في تشريع متكامل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وأتى دور عليّ (ع), إلى جانب التنظير, في التطبيق، مبيّناً حقوق الناس وواجباتهم بعضهم تجاه بعض، وحقوق الحاكم وواجباته تجاه الناس, بأوضح ما يكون.

 ففي مجال العلاقات بين الناس, كان لعليّ (ع) أقضية ومشورات للخلفاء معروفة، أما في المجال النظري فعلي (ع) يفصّل في أشكال الظلم والجور, ويشدّد على العلاقة بين الحاكم والمحكوم, ليبيّن مواطن الظلم.

 يرى علي (ع) "أن الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك في الله، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات... وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً" (الخطبة/176).

 ويعدّ علي (ع) من بين أشكال الظلم بين الناس, ظلم العاجز عن رد الظلم, أشدّ الظلم، فيقول: "وظلم الضعيف أفحش الظلم" (الكتاب/31). وهو يتوعّد الظالم بالانتقام منه على يديه(ع)، فيقول: "ولأقودنَّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحقّ، وإن كان كارهاً" (الخطبة/136).

 كل هذا, ناهيك عن عقاب الله تعالى، فالله جلّ جلاله سينتقم "ممّن ظلم مأكلاً بمأكل ومشرباً بمشرب" (الخطبة/158).

 ويركّز علي (ع) على ظلم الحكّام وآثاره، فيرى "أن شر الناس عند الله إمام جائر ضَلَّ وضلَّ به" (الخطبة/164), ويؤكد (ع) عقوبة هذا الإمام الجائر بقول رسول الله (ص), الذي ينقله: "إني سمعت رسول الله (ص) يقول: "يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر" (الخطبة/164). فالمطلوب من الحاكم العدل في الرعية والابتعاد عن الجور، وهذا ما يرد في وصية لبعض عماله, يقول فيها: "فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فانه ليس في الجور عوض عن العدل" (الكتاب/59).

 لذا يصبح من واجب كل من عرف جوراً أن يقاومه, ومن عرف عدلاً أن يناصره (الخطبة/205).

 وكما أن على الرعية واجبات تجاه الحاكم ولها عليه حقوقاً، وان على الحاكم أيضاً واجبات وله حقوقاً، فيجب على كلٍّ أن يقوم بواجباته ويؤدي للطرف الآخر حقه. وهذا ما يعلمنا إياه علي (ع), إذ يقول: "إذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور" (الخطبة/216).

العدالة

 يفيض الإمام علي (ع) في الحديث عن العدالة, ذلك" أن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل الإنصاف والإحسان التفضل" (الحكمة/236).

 والعدل ضمانة لإحكام الأمور, لأنه "يضع الأمور مواضعها" (الحكمة/437).

 ويحدّد علي (ع) الشروط الضرورية لممارسة العدل, فيرى أنه "على أربع شعب:

 على غائص الفهم، وغور العلم, وزهرة الحُكم, ورساخة الحلم. فمن فهم, علم غور العلم، ومن علم غور العلم, صدر عن شرائع الحكم، ومن حلم, لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميداً" (الحكمة/31).

 ويرى علي(ع) أن العدل المطلق هو الله تعالى، واعترافك بعدل الله، وهو واجب، يقوم بـ"أن لا تتهمه" (الحكمة/470)، أما عدل البشر, فأكمله عدل رسول الله (ص), فـ"كلامه (ص) الفصل, وحكمه العدل" (الخطبة/94), وكان (ص) ذا منطق عدل, وخطبة فصل" (الخطبة/72)، ويأتي معه عدل أمير المؤمنين(ع), الذي يقيمه حجّة على المسلمين فيقول: "وألبستكم العافية من عدلي" (الخطبة/87). وهو ما سيعيده إلى الدنيا الإمام المنتظر(عج), الذي "سيملأ الدنيا عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً"، والذي سوف "يريكم عدل السيرة" (الخطبة/138).

 وهكذا فإن "أحبّ عباد الله إليه (من)... قد ألزم نفسه العدل" (الخطبة/87)، وأحرى الناس بذلك الحاكم, لأن العدل يسهّل له حكم الرعية، فعلي(ع) يقول: "إن أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد" (الكتاب/53). فإذا مال الحاكم مع رغبات النفس فسوف يؤدي ذلك به إلى الجور، إذ يقول علي (ع): "فإن الوالي إذا اختلف هواه, منعه ذلك من كثير من العدل" (الكتاب/59). ولا يستقيم العدل وتجري الأمور مجراها الصحيح, إلا إذا أدّت الرعية والحاكم كل إلى الآخر ما له, "فإن أدّت الرعية إلى الوالي حقّه، وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم, وقامت مناهج الدين, واعتدلت معالم العدل, وجرت على إذلالها السنن" (الخطبة/216).

 تتبيّن مما تقدّم أولوية العدالة وشموليتها، فهي تطاول جوانب الحياة الروحية والاجتماعية، إذ هي تفرض موقفاً من الله تعالى يقوم على عبادته وحده لا شريك له, }وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون{( الذاريات/56), فالمؤمنون }يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً" (النور/55)، فمن لا يعبد الله حق عبادته, لا يكن إلا ظالماً.

 وإذا كانت العبادة تقتضي الطاعة، فإن على العابد أن يعامل الناس، سواء كان فرداً عادياً أم حاكماً بما أمر الله، ولا يقبل منهم إلا ما خوّلهم الله، لئلا يكون عابداً لهم إلى جانب الله تعالى، على أساس أن "لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق", بل أكثر من ذلك, على أساس ألا طاعة لمخلوق إلا بما يتفرع عن أوامر الخالق، لأن السلطة لله وحده يفوّضها إلى من يشاء من عباده. }قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء{ (آل عمران/26). ومن يؤته الله الملك, عليه أن يحكم بما أنزل الله، }ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون{ (المائدة/44)، }هم الظالمون{ (المائدة/45)، }هم الفاسقون{ (المائدة/47).

ممارسة العدالة

 كان أئمة أهل البيت (ع) أعبد الناس، كانوا رهباناً في الليل، ومن أتيح لهم القتال في سبيل الله, كانوا أسوداً في النهار، و ما من متعبّد إلا كان يحاول اقتفاء آثارهم، وما عرف من زهد علي (ع), لا يستطيع أحد تحمله. بل هو يفوق الوصف، سواء في مأكله أو ملبسه أو سائر شؤونه, فهو "قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه". هذا إلى جانب صيامه وصلاته وخشوعه وتضرّعه لله تعالى، وكان أئمة أهل البيت يسيرون على دروبه كلّ حسب مقتضيات زمانه.

 لذلك كان عليّ (ع) الأعدل بين كلّ المسلمين، لا في القضاء وحسب, بل وفي السيرة والحكم.

 ففي القضاء، كان رسول الله (ص) يقول: "أقضاكم علي" (بخاري، تفسير سورة 2/7). وكان قبل تولّيه الحكم يصحّح أقضية الآخرين، كما صحّح حكم عمر بن الخطاب فيمن ولدت عن ستة أشهر (الغدير 4/93)، وصحّح حكم عثمان في رجم حامل، ورجم مضطرة.. وفي موضوع مقارنته بالآخرين في مجلس القضاء، لم يكن عليّ (ع) ليقبل أن يفضّل على الآخرين ولو من غير المسلمين (الثقفي، الغارات/113 و124).

 وأثناء تولّيه الخلافة, عرف (ع) بعدالة مواقفه في القضاء، ومن ذلك, وصاياه في هذا المجال بالمساواة بين المتقاضين وبالسماع للفريقين (الدينوري، الأخبار الطوال/130)، ورضوخه لحكم القاضي في دعوى درعه الذي وجده مع يهوديّ، فشكاه إلى القاضي, ولمّا لم يستطع إثبات ملكيته الدرع، حكم به القاضي لليهودي, وقبل عليّ طائعاً.

 أما في الشؤون الأخرى، فقد مارس عليّ (ع) العدل على أكمل وجه، فهو كان حريصاً ودقيقاً في مسائل الحقوق, حتى كان يقول: "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلته" (الخطبة/224).

 ولقد تجلّت عدالة علي في المساواة بين الناس، أكثر ما تجلّت, فقد كافح من أجل ترسيخ هذا المبدأ، في زمن كانت القبلية والوجاهة قد استعادتا من أنفاسهما ما كان الرسول (ص) قد حاول إخماده.

 فلقد أقام عليّ (ع) المساواة في التكاليف, ولم يرشِ أحدا فيها، وطالب عمال عثمان بالمال الذي حصلوا عليه دون غيرهم من المسلمين، بدون وجه حقّ، من كان منهم من بني أمية أو من غيرهم. وفرض التكاليف على الجميع بشكل عادل، وعلى أموالهم لا على أي أساس أخر.

 ففي موضوع العطاء، أعاد الإمام (ع), عندما تولّى الحكم، المساواة بين الجميع في العطاء، بين العربيّ والأعجميّ، وبين سيّد القوم وسائر الناس، وبين من أسلم حديثاً أو قديماً، تماماً كما كان يفعل رسول الله (ص)، فثارت ثائرة الزعماء ضدّه, بعد أن كانوا اعتادوا على التميّز في زمن من سبقه.

 لقد حدّد علي (ع) أصحاب العطاء, فقال: "ألا أنه من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أجرينا عليه أحكام القرآن وأقسام الإسلام" (المحمودي, نهج السعادة, ج2 ص 514)

 ثم حدّد عليّ (ع) كيفية التوزيع, فقال: "فأما هذا الفيء فليس لأحد فيه على أحد أثرة، قد فرغ الله عز وجل من قسمه، فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون"

 ولما احتجّ القوم قال: "لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف والمال مال الله" (.نهج البلاغة, م 3 ص 183)

 ولقد ناقشه مالك الأشتر بأمر المساواة، متمنّياً عليه أن يؤثر الزعماء ليستطيع استمالتهم. قائلاً له: "أنت تأخذهم يا أمير المؤمنين بالعدل وتعمل فيهم بالحقّ، وتنصف الوضيع من الشريف، فليس لشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجّت طائفة ممن معك من الحقّ إذ عمّوا به، واغتمّوا من العدل إذا صاروا إليه... فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين، تمل إليك أعناق الرجال". فأجابه عليّ (ع): "... ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل, كان الله يقول: "من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها"، وأنا من أن أكون مقصراً فيما ذكرت أخوف. وأما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقوا لذلك، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور ولا لجأوا، إذا فارقوا، لعدل... وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فانه لا يسعنا أن نؤتي أحداً من الفيء أكثر من حقّه.. وقد بعث الله محمداً وحده، فكثّره بعد القلّة، وأعزّه بعد الذلّة، وإن يرد الله أن يولّينا هذا الأمر، يذلّل لنا صعبه ويسهّل لنا حزنه" (نهج البلاغة 1/181)

 وقد عاتبه أيضاً فريق من أصحابه متمنيّاً عليه ما تمناه الأشتر, فقالوا له: "يا أمير المؤمنين، أعطِ فضل هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمِل من تخاف خلافه من الناس وفراره (إلى معاوية أثناء الحرب والهدنة). فقال لهم علي (ع): "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟ لا والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم" ( نهج البلاغة, م1/182).

 أما لماذا هذه المساواة؟ فلأن "آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وأن الناس كلهم أحرار... فمن كان له بلاء, فصبر في الخير, فلا يمنن به على الله عزّ وجلّ" (المصدر نفسه).

 ولما عاتبه عثمان بن حنيف لإعطائه نفس ما أعطى غلاماً كان أعتقه قبلها بيوم، وعاتبته عربية" ( الوسائل 6/81) لمساواته إياها بأعجمية كان يقول: "والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق". هذا العطاء لا يخضع إذاً لأي معيار سوى الإسلام، وهو "فيء المسلمين وجلب أسيافهم. فمن شركهم في حربهم كان له مثل حظّهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم"( نهج البلاغة, م 3/ 183).

 على أن المساواة في العطاء لم تكن عند عليّ (ع) إلا النموذج للمساواة في كل الأمور.

 فهو يساوي بين نفسه وبين عامّة الناس، فيرفض التعظيم والتبجيل. ويقول لحرب بن شرحبيل الشبامي, الذي مشى إلى جانبه وهو راكب: "ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلّة للمؤمن" ( نهج البلاغة, م 4/ 392).

 ويخاطب عليّ (ع) دهاقين الأنبار، الذين ترجّلوا له وأسرعوا أمامه, عند مسيره إلى الشام، فيقول: "ما هذا الذي صنعتموه؟" فيقولون: "خلق منا نعظّم به أمراءنا". فيقول: "والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم, وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار" ( النهج 4/285).

 هذا وكان علي يوصي عماله بالعدل بين الناس، ومساواتهم في كلّ الأمور والرفق بهم. فيقول موصياً محمد بن أبي بكر: "...واخفض للرعية جناحك... وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك" (النهج, م 4/110).

 لقد آمن عليّ (ع) بالمساواة, حتى كان تقشّفه مواساة للفقراء, ويفسّر ذلك بقوله: "إن الله تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس, كيلا يتبيّغ بالفقير فقره" (النهج, م 3/11).

 ولهذا كان الإمام يأكل أقراص الشعير غير المنخول " ( الثقفي الغارات ص 87)، واللبن شديد الحموضة ( الثقفي 85)، ويلبس الطمر البالي ( الثقفي 95).

 تلك كانت إطلالة على تعاليم الإسلام في العبادة والعدالة، وعلى سيرة علي بن أبي طالب (ع)، وقد تبيّن لنا نظرياً وعملياً أنه بقدر ما يكون الإنسان مؤمناً عابداً لله، بقدر ما يكون بعيداً عن الظلم، ممارساً للعدالة.

 على أن علياً (ع)، المتعلّم من رسول الله (ص). كان أيضاً قدوة الأئمّة من أولاده، وخاتمهم الإمام المنتظر, محمد بن الحسن (عج), الذي "سيملأ الدنيا عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، وسيعيد ما درس من معالم الدين، مؤكّداً معادلة العبودية لله والعدالة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 1/أيلول/2010 - 21/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م