في سلطة الدولة ومصدر سيادتها

الشيخ فاضل الصفار

 التمهيد: في معنى السيادة

لا إشكال في أن السلطة من أهم خصوصيات الدولة ومؤسستها الكبيرة؛ اذ لادولة بلا سلطة، كما لااشكال في أن ممارسة الدولة لسلطتها بشكل مشروع يتوقف على سيادتها على الارض والشعب؛ اذ لامشروعية لممارسة السلطة بلا سيادة مشروعة عليهما، ومن هنا وقع البحث بين فقهاء الشريعة والقانون في تحديد منشأ السيادة ومصدر شرعيتها، وقد تضاربت الآراء في ذلك من حيث المفهوم، ومن حيث تحديده، وهنا عدّة أسئلة ينبغي إثارتها في هذا المجال.

السؤال الأول: هل السيادة للأمة أم للشعب؟.

السؤال الثاني: هل السيادة مطلقة أم مقيدة بضوابط ومعايير تحد منها؟

السؤال الثالث: من هي الجهة التي يحق لها ممارسة السيادة؟

هذه الأسئلة وغيرها تكشف لنا عن حقائق سياسية وقانونية وإدارية لمفهوم السيادة ينبغي تناولها بالبحث والتحقيق.هذا وقد درجت العادة عند القانونيين على التفريق بين سيادة الدولة والسيادة في الدولة، والقصد من هذا التمييز هو الفصل بين خارج الدولة وداخلها،فالأولى تنظر إلى خصائص السلطة الدولية بالقياس إلى الدول الأخرى، والثانية تنظر إلى صاحب السيادة العليا في الدولة، وفي الواقع فإن سيادة الدولة والسيد في الدولة هما شيئان مميزان، وسلطاتهما تختلف أيضاً ولو في السعة والضيق، فسيادة الدولة هي إحدى المقوّمات الأساسية في شخصية الدولة، وتلتصق بها التصاقاً لا يقبل الانفصام، فالسيادة التي هي جزءٌ لا يتجزأ من شخصية الدولة في المحافل الدولية حقيقة مجرّدة عن صاحبها، أي مجردة عمّن تسند إليه بغض النظر عن الحاكم والسلطان.

وأما مسألة السيادة في الدولة فتقودنا إلى معرفة العضو الذي تسند إليه هذه السيادة، والذي يعود له حق السلطة الآمرة والناهية والمنفذة للقوانين والضوابط، فمن الناحية القانونية السلطة الآمرة تعود إلى الأفراد الذين خولهم الدستور هذا الحق في القوانين الوضعية، أو خولتهم الشريعة في تطبيق هذه القوانين وإصدار الأوامر بحسب قوانين الشريعة، غير أن هذه الشرعية لا تكفي للإجابة على السؤال حول معرفة الأشخاص الذين يعود لهم حق إصدار الأوامر، ولأجل ذلك لا بدّ من الأخذ بالوجه السياسي لتحديد مقرّ السيادة بالدرجة الأولى، ومن ثمّ التعرض إلى طرق ممارستها، وهذا ما يعرف بالشرعية السياسية على ما ستعرفه من خلال البحث إن شاء الله تعالى .

الفرق بين سيادة الأمة وسيادة الشعب

يظهر الفرق بين نظرية سيادة الأمة وسيادة الشعب في أمور:

الأول: أن مبدأ سيادة الأمة يضع الأمة فوق الشعب.

الثاني: أن الناخبين على هذه النظرية يتمتعون بالاقتراع، غير أن هذا ليس حقاً لهم، بل وظيفة وواجباً ولو من الناحية الأدبية يقومون بها باسم الأمة ولصالحها.

الثالث: الاقتراع بحسب المفهوم الوظيفي للانتخاب ليس شاملاً بل مقيداً بالمواطنين الذين تتوفر فيهم شروط تتعلق بالعلم والثروة والجاه ونحو ذلك، فهي بالنتيجة منحصرة بالأفراد الذين يستطيعون القيام بمسؤوليات اجتماعية.

ومن هنا يظهر الأثر في النتائج أيضاً؛ إذ إن من النتائج المترتبة على التفريق بين السيادتين هو أن الانتخاب إجباري لكون سلطة الانتخاب واجباً وليس حقاً، كما أن النيابة عن الأمة تتم بواسطة ممثلين منتخبين يعبرون بحرية تامة عن إرادة الأمة، فليس للشعب ولا للناخبين حق مراقبة ممثلي الأمة، وليس لهم تحديد أهداف الأمة، وإنما يعود لهم اختيار الأفضل من الممثلين للتعبير عن تلك الإرادة، لكن يرفض مؤيدو السيادة الشعبية جميع المعطيات التي قالت بها نظرية سيادة الأمة، فهم:

أولاً: لا يقرّون بوضع الأمة فوق القانون.

 ثانياً: يقولون بالاقتراع العام لجميع المواطنين دون تمييز؛ لأن كل فرد من الشعب يملك جزءاً من السيادة؛ ولأن حجب التصويت عن فئة من المواطنين من شأنه تقليص السيادة الشعبية، والذي ينعكس أيضاً إلى تقليص السيادة الحكومية والسلطوية أيضاً.

 ثالثاً: كون الانتخاب حقاً، والانتخاب كحق يجعل من ممارسته عملاً اختيارياً لا يخضع إلا لشروط السلم والأهلية والتمتع بالحقوق المدنية ونحو ذلك، وعلى الشعب مالك السيادة أن يمارس سلطانه على الدوام؛ لأن السيادة لا يمكن التنازل عنها، كما لا يمكن تجزئتها، ولا يمكن بالنتيجة إحالتها ولا توزيعها بين عدد من السلطات، أو عدد من الأعضاء دون زوالها. هذا مضافاً إلى الإشكال على أصل نظرية سيادة الأمة؛ لكون إحالة سلطة الأمة إلى عدد من الأعضاء يؤدي إلى انتهاك السيادة الشعبية التي من خصائصها احتكارها بواسطة ممثليها، وتجزئتها تؤدي إلى عدم فعاليتها وضعفها.

وأما بالنسبة لمؤيدي سيادة الشعب فالنواب هم وكلاء الشعب، ومراقبون بصورة دائمة من قبله، إما عن طريق الاستفتاء إذا كان من الصعب اجتماع كافة أفراد الشعب في مكان ما ليمارس حقه في الانتخاب وفي إعطاء الصوت والرأي مباشرة، وإما عن طريق الوكالة الإلزامية التي تفرض على النواب أن يتقيدوا بالأوامر المعطاة لهم من قبل الناخبين، وعلى الحكومة أن تخضع هي أيضاً لمشيئة النواب الذين هم بدورهم يخضعون لإرادة الشعب.

ومن الواضح أن هذه تؤدي إلى النظام المجلسي، حيث تسيطر جمعية واحدة على كافة السلطات، وتخضع هذه الجمعية بصورة مستمرة لإرادة الشعب الذي يستطيع عزل ممثليه وإبدالهم بغيرهم في حال عدم الالتزام بالتعليمات التي أعطيت لهم.

ولا يخفى عليك أن هذه النتيجة لسيادة الشعب هي الأخرى تبدو ضرباً في المجاز كنظرية سيادة الأمة عند ممارستها؛ إذ قد تؤدي هذه الممارسة إلى أحداث خطيرة كالثورات والثورات المضادة، مما يلحق الضرر الكبير بالشعب وبمؤسسات الدولة. مضافاً إلى الإبهام والحيرة الواقعة في التمييز بين السيادتين؛ فالمادة الثالثة من الدستور الفرنسي في عام 1958 التي أعادت نص المادة الثالثة من دستور 46 تنص على أن سيادة الأمة ملك الشعب الفرنسي، ويبدو أن المجتمع الفرنسي حائر بين اعتماد إحدى النظريتين؛ لأن النص المذكور يمزج بين سيادة الأمة وسيادة الشعب، وقد برهنت التجارب على أن السلطان لا يمكنه أن يخضع لمشيئته بصورة دائمة أعضاء الدولة دون أن يعرض سيادته للمخاطر، فالأعضاء الساميون للدولة لا يمكنهم أن يعبروا عن إرادة الأمة والشعب السيّد ما لم يتمتعوا بحرية التصرف وأخذ القرارات التي تتعلق بإرادة مصالح الأمة بدلاً عن الشعب، على أن يبقوا على اتصال مستمر بالرأي العام.

ومن هنا يظهر بأن نظرية سيادة الأمة وحدها ونظرية سيادة الشعب وحده أيضاً ناقصة؛ إذ إنها لا تحقق شروط السيادة، وحق الشعب في ممارسة هذه السيادة، أو حق الأمة في ممارسة هذه السيادة بنحو كامل على ما ستعرفه أيضاً من خلال المباحث القادمة.

وكيف كان، فإن ضرورة البحث تتطلب التعرض إلى مفهوم السيادة أولاً، وتفاسيرها في النظريات المختلفة، ثم مقايسة هذه النظريات بالقياس إلى النظرية الإسلامية.

السيادة قانونيا

عرّفت السيادة في القانون بأنها السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة، وميزة الدولة الأساسية الملازمة لها والتي تتميز بها عن كل ما عداها من تنظيمات داخل المجتمع السياسي المنظم، ومركز إصدار القوانين والتشريعات، والجهة الوحيدة المخوّلة بمهمة حفظ النظام والأمن، وبالتالي المحتكرة الشرعية الوحيدة لوسائل القوة ولحق استخدامها لتطبيق القانون[1].

هذا وتتصف السيادة الداخلية بخصائص تعين حدودها وهي:

أولاً: القطعية؛ بمعنى أنها الشرعية العليا التي لا توجد أية حدود قانونية لسلطتها في سَن قوانين الدولة، ولا يخفى أن هذا يختص بالقوانين الوضعية لا الشرعية.

ثانياً: العملية الشاملة لجميع الأفراد والمنظمات داخل حدود الدولة.

ثالثاً: الدائمية، بحيث يستمر مفعول السيادة طالما أن الدولة قائمة بصرف النظر عن تغير الأشخاص الذين يمارسون هذه السلطة، أو تغير شكل المؤسسات الدستورية التي تتم عبرها ممارسة السيادة.

رابعاً: اللاتجزئية؛ لأنّ السيادة تتضمن عدم المشاركة والتقسيم، فلا يمكن أن يكون هناك أكثر من سيادة واحدة في دولة واحدة دون قيام صراع يحسم في نتيجة الأمر وحدانية السيادة. أما على صعيد السياسة الخارجية فجوهر السيادة هو التحرر أو الاستقلال عن السيطرة أو التبعية لدول أخرى، ويتجسّد ذلك من خلال إيفاد واستقبال البعثات الدبلوماسية وعقد المعاهدات وإعلان الحرب والسلام مع الدول الأخرى،ثم إن موضع السيادة قد يكون الملك أو الخليفة أو الشعب أو البرلمان والمؤسسات التمثيلية والقضائية وما أشبه ذلك، بحسب هيكلية نظام الحكم، ويعتبر القانون بمثابة تجسيد للسيادة ودليل وجودها.

السيادة فلسفيا

تعددت نظريات الحكماء قديماً في تفسير السيادة إلى آراء عدة تختلف من حيث السعة والضيق:

فأولاً: أرسطو تكلم عن السلطة العليا في الدولة.

ثانياً: تضمنت المفاهيم اللاهوتية عموماً تجسيد السيادة في شخص الحاكم بموجب نظرية الحق الإلهي، ويكون الحاكم مسؤولاً عن تطبيق القانون الإلهي، ولا يشارك أو يسأل من قبل العوام الذين لا يتمتعون بأهلية فهم القوانين وتطبيقها على الوجه المطلوب.

ثالثاً: في عصر الإقطاع استند النظام الاجتماعي إلى الولاء الشخصي، وغلب مفهوم الدولة، ونشب صراع حاد بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، وانتهى الأمر بإضعاف سلطة أمراء الإقطاع والكنيسة لصالح الملوك الذين أصبحوا يمثلون السلطة المستقلة العليا في الدولة.

رابعاً: بعض حكماء فرنسا من أمثال جان بودان عالج المواضيع المتعلقة بالسيادة بمناداته بضرورة التشريع في المجتمعات البشرية وقبول الناس لذلك على أساس أنه طبيعي، وينسجم مع ميلهم وإرادتهم، وفي تفسيره للسيادة على أنها السلطة العليا المعترف بها والمسيطرة على المواطنين والرعايا دون تقييد قانوني ما عدا القيود التي تفرضها القوانين الطبيعية والشرائع السماوية.

خامساً: بعض حكماء إنكلترا مثل هوبز فسَّر نظرية العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم في وقت عمّت فيه إنكلترا الحروب الأهلية، فذهب إلى القول: بأن الإنسان مصلحي وذاتي التفكير، ولا يحافظ على عهوده وعقوده، ولا يطيع قوانين المجتمع إذا لم ينسجم ذلك مع صالحه.

ومن هنا فالصدام بين الفئات الاجتماعية ليست صدفةً بل تهديداً قائم الاحتمال باستمرار، وبالتالي فقد نشأت الحاجة إلى سلطة عليا تستطيع أن تفرض النظام والسلم الاجتماعي على مجموعات قد لا تتجه نحو العيش بسلام وانسجام مع بعضها البعض.

وبالتالي فإن سلطة الدولة وسيادتها ضرورية للبقاء، ولا يمكن نقض العقد الاجتماعي الأصيل الذي تضمن التنازل عن الحقوق الطبيعية لصالح الدولة؛ ولأن الحاجة لمثل هذا التنازل ضرورة مستمرة لضمان السلم الاجتماعي والحياة الجيدة، وعليه فالعقد الاجتماعي الذي خلق قوة السيادة للدولة مشروط بدوام قدرة الدولة على حفظ النظام والأمن، وتمكين المجتمع من بلوغ الحياة الجيدة، والحفاظ على القيم الاجتماعية.

سادساً: جان جاك روسو إذ وضع السيادة القطعية في إطار إرادة الشعب العامة، حيث ذهب إلى الاعتقاد بضرورة النظام الاجتماعي وإلى الملاحظة بأن بعض النظم الاجتماعية تفسد الإنسان والحياة الاجتماعية، وبالتالي فقد وجه اهتمامه نحو إيجاد نظام اجتماعي يحمي أفراده من الفساد، خصوصاً وأنه بعكس هوبز لم يكن يعتقد بأنانية الفرد المطلقة، ولما كان الإنسان أكثر ميلاً نحو المعرفة والخير فإنه وضع السيادة في الإرادة العامة للمجتمع، وهي غير مطابقة لإرادة الجميع، وعلى هذا الأساس فإن الديمقراطية وحدها على تعبيرهم غير كفيلة لتحقيق الإرادة العامة إلا إذا تمكن المجتمع من طرد النوازع الأنانية في إرادة الأفراد، ونقطة الضعف الأساسية في منهج روسو في فهم السيادة هي أنه لم يؤشر طريقة تضمن تجسد الإرادة العامة في سيادة الدولة.

وترى موسوعة السياسة أن جون أوستن في القرن التاسع عشر قدم أكثر الشروح القانونية دقةً وتأثيراً لمفهوم السيادة، ولم يكن بحاجة للرجوع إلى نظرية العقد الاجتماعي لاشتغاله بالقانون، وهو الذي يمكن تعريفه على أنه الإرادة الصادرة عن موقع السيادة في الدولة. وهكذا فقد انطلق من ضرورة وجود السيادة، وبالتالي وجود جهة معينة تمتلكها غير مجزأة وغير مقيدة قانونياً؛ لأنها مخوّلة بتشريع القوانين. وفي سياق تحليله يرتكز أوستن إلى التأكيد بميل المجتمع نحو الطاعة ونحو إيجاد رئيس مشترك، كما يثير مسألة علاقة السيادة باعتراف الآخرين بها، بينما اعتبر هوبز أن ممارسة السيادة تفرض على الآخرين الاعتراف الواقعي بها، وهو مساوٍ عنده للاعتراف القانوني[2].

مناقشة النظريات

ستعرف إن شاء الله أن مصدر السيادة التي يقرّها الإسلام هو ما ينشأ من الخالق عز وجل؛ لثبوت حق الخلق والتكوين له وحده لا غير، والذي يملك الخلق يملك حق التصرف فيه، فهو مصدر السيادة على الوجود تكويناً، والذي يملك سيادة التكوين يملك سيادة التشريع أيضاً لملازمة التشريع للتكوين وتفرعه منه، بل ولغائية التكوين للتشريع؛ إذ لولاه لما كان تشريع.

وعليه فالسيادة بالأصالة ثابتة للخالق وغيرها من السيادات إن تفرعت منه كانت شرعية، وإلا كانت باطلة على ما ستعرفه، وقد تسالم علماء القانون والسياسة على أن القوة بطبيعتها لبّ السيادة، ولا إشكال في أن القوة الحقيقية في هذا الوجود بكل أنحائه وتفاصيله هي لله عز وجل؛ إذ لا قادر في الوجود ولا قاهر إلا الله عز وجل.

ومن ذلك يظهر أيضاً أن النظريات المذكورة في تحديد مفهوم السيادة أو تعريفها كلها غير تامة؛ لأنها نظرت إلى السيادة من الناحية الظاهرية والثانوية، ولم تبحث في أصلها ومصدرها الحقيقي، فبعضها الآخر مبهم ومجمل كنظرية أرسطو، وبعضها أعم كنظرية الحق الإلهي؛ وذلك لكون الحاكم صاحب السيادة الشرعية هو ما نشأ حقه من رضا الخالق، وحقه في الخلق لا كل حاكم، وإلا كان الانتساب إلى الخالق ولو بالادعاء والتزييف أو بالظلم والجور أيضاً يملّكه السيادة والشرعية، وكذا الكلام في نظرية الإقطاع.

وأما النظرية الفرنسية فقد أقرّت ضمناً بتقدم حق الشريعة على حق الفرد والمجتمع، وهو اعتراف ضمني بحق الخالق عز وجل؛ لتبعية الشريعة إلى الخالق، إلاّ أن الإشكال فيها من جهة أخذها للسيادة الإلهية استثناءً لا أصلاً .

وأما النظرية الإنكليزية فقد أخذت السيادة كضرورة ثانوية لا أصيلة؛ لأنها فرضت الحاجة إليها لغرض النظام والقيم والمجتمع، وبالتالي فهي أخذت ما بالعرض في مقام ما بالذات، كما أنها أخص لجهة إمكان إلغاء السيادة فيما لو فرض ارتفاع التنازع والخصام بين الأفراد كما ادعته النظرية الماركسية، حيث برزت النظرية الماركسية تطالب بالقضاء على الدولة البرجوازية على تعبيرها، والتي تستخدم صفات السيادة لإخضاع الشعب لصالح تأمين مصلحة الطبقات الحاكمة على حساب الأكثرية الكادحة على حسب زعمها، ونقل السيادة لصالح ديكتاتورية البروليتاريا على ما يعبّرون تمهيداً لخلق المجتمع الشيوعي وإلغاء سبب وجود الدولة كأداة قمع طبقي تمهيداً لزوال الدولة، وبالتالي إلغاء ظاهرة السيادة بمفهومها المعروف على حسب ما تزعم، مع أن السيادة في الدولة تهدف أيضاً إلى إيصال البشرية إلى الكمال روحياً وفكرياً وعملياً للحاجة البشرية الذاتية إلى الكمال، حتى لو فرض عدم التنازع أو التخاصم، أو فرض انعدام الطبقات، وبهذا يظهر بطلان هذه النظرية واضحاً وجلياً، وكذا الكلام يجري بالنسبة لنظرية روسو.

وأما نظرية أوستن فهي إما مجملة أو تلوّح ولو من بعيد إلى النظرية الإسلامية القائلة بلزوم وجود سيادة ذاتية لها حق التصرف والتقنين بالأصالة على ما ستعرفه.

ولعله لهذه الجهات والإشكالات ظهرت نظرية سابعة في القانون الوضعي تدعو إلى سيادة القانون؛ وذلك لأن تعددية المجتمع الحديث لا تنسجم مع وحدانية نظرية السيادة وإطلاقياتها، وأن مبدأ السيادة مبدأ خطر؛ لأنه يؤدي إلى تكتيل صلاحيات مركزية واسعة جداً في يد الدولة، ويهدد حقوق الفرد وحريته، ويحرم التنظيمات الاجتماعية الأخرى من السلطات.

هذا مضافاً إلى أن سيادة الدولة ليست مصدراً للقانون؛ لأن القانون يستند إلى مجموعة الظروف الاجتماعية القائمة خارج إطار مؤسسة الدولة، والدولة نفسها تكون خاضعة للقانون الذي يحمي حرية الأفراد وحقوقهم، وبالتالي يفرض قيوداً على سيادة الدولة، وعلى هذا الأساس يصبح القانون نفسه موضع السيادة وضماناته قائمة في مطابقته للظروف الاجتماعية التي تستند إلى مفاهيم الحق والعدل، ولا تأتي من سلطة الدولة.

هذا هو جوهر مفهوم سيادة القانون، إلا أن هذه النظريات تتجاهل كون الدول مصدر تقدير مصادر القانون الطبيعي، والدولة بحكم حيازتها للسيادة هي التي تشرّع القانون، والشُّعب الحكومية تتقيد به في التنفيذ.

وبالتالي فإن هذا التعريف تعريف دوري على تعبير المناطقة لتوقفه على نفسه من جهة إمكان التساؤل عن مبدأ سيادة الدولة قبل التشريع والتنفيذ، فإن كان الجواب هو ما ذكرته النظريات الأولى فلم يأت هذا التعريف بشيء جديد، وإن كان من نفسه فتوقّف الشيء على نفسه وهو دورٌ؛ بداهة حاجة أصل الدولة إلى مصدر للسيادة، وإن كان غيرها فلم يذكر في التعريف، وعليه يكون مجملاً. هذا مضافاً إلى نقصانه؛ بداهة عدم كفاية سيادة القانون على إعطاء شرعية سلطة الدولة وممارساتها. هذا ويتفرع على أصل السيادة فروع ثلاثة:

الفرع الأول: في مبدأ سيادة القانون

وهو مبدأ من مبادئ الحكم في الدول غير الاستبدادية، ومفاده التزام الدولة باحترام قوانينها وتشريعاتها والأنظمة الثابتة فيها، فتخضع تصرفاتها وأعمالها للقانون وأحكامه، فتحافظ بذلك على حقوق الأفراد والجماعات والمؤسسات بحسب تحديد القانون لهذه الحقوق، ويشترط لقيام الدولة القانونية وجود دستور يحدد نظام الدولة، ويبين قواعد ممارسة الدولة لسلطتها، وفصل السلطات لمنع تركز السلطة في هيئة واحدة تغريها بالاستبداد والرقابة القضائية التي تضمن وقف المخالفات للقانون ومعاقبة المخالفين، وذلك بهدف صيانة الحريات والحقوق للأفراد والجماعات، والنهوض بالمجتمع إلى التقدم، سواء كان الدستور بمعناه المتعارف عليه في الدول أو كان إسلامياً مأخوذاً من الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل؛ بناءً على لزوم وجود دستور في الدولة الإسلامية على ما ستعرفه.

الفرع الثاني: في سيادة الدستور

ويقصد به سموّ الدستور على القوانين العادية وعلى كل السلطات في الدولة، فلا يصدر قانون على خلاف حكم الدستور؛ ذلك لأن الدستور يعتبر هو القانون الأساسي في الدولة، وهو الذي يقوم بتحديد نظام الحكم وطريقة ممارسة السلطات العامة فيها، ورسم الاتجاهات العامة التي تقوم عليها السلطة، وهو الذي يحدد لرجال الحكم السند الشرعي لتصرفاتهم التي تستوجب إلزام الأفراد باحترام ما يصدر عنهم من أوامر ونواهٍ.

فكل قانون يصدر عن السلطة التشريعية ويجيء مخالفاً لنص الدستور أو روحه لا يستند إلى أساس شرعي؛ لأن النص الدستوري هو القمّة الهرمية للقواعد القانونية، كما أن كل تصرف تقوم به السلطة التنفيذية ويجيء مخالفاً لأحكام الدستور يفقد شرعيته أيضاً؛ لأن هذه السلطة التنفيذية تمارس وظيفة دستورية نص عليها في صلب الدستور، فمن ثم نشأ ما يعرف بسيادة أو سمو الدستور، واستتبع ذلك وضع ضمانات لتحقيق هذه السيادة بفرض رقابة دستورية على القوانين، ومقاومة كل محاولة للطغيان والاستبداد بالسلطة.

الفرع الثالث: في السيادة القومية

ويقصد بالسيادة القومية في الاصطلاح أن الدولة هي صاحبة السلطة العليا داخل إقليمها، وهي كذلك المالكة لحرية التصرف في علاقاتها بالدول الأخرى، أي إن الدولة لا تخضع لسلطة أعلى منها، غير أن العلاقات الدولية بطبيعتها مقيدة بقواعد من القانون الدولي والعرف؛ لهذا فإن سيادة الدولة في علاقاتها الخارجية مشروطة باحترام الدولة لهذه القواعد، وكذلك للتقاليد المرعية وللعُرف الدولي.

فالمواثيق الدولية والمعاهدات والاتفاقات المتعدّدة الأطراف أو الثنائية تقيد بطبيعتها حرية التصرف، ولكنها لا تتعارض مع السيادة القومية للدولة؛ لأن هذا القيد ملزم لجميع الدول المتعاقدة وفي سبيل مصالحها المشتركة، فضلاً عن أنه خضوع لقانون لا يعتبر منافياً لسيادة الدولة. أما الخضوع الذي يفقد الدولة سيادتها القومية فهو الخضوع لإرادة دولة أخرى؛ لما فيه من الهيمنة والتسلّط والتصرّف في شؤون الناس، أو في شؤون الدول التي هي مسلّطة على نفسها.

ولا يخفى أن التفريعات الثلاثة المذكورة إذا كانت في إطار الأدلة الأربعة فهي معتبرة شرعاً؛ لكون الإسلام يقرّ بالعُرف وأهل الخبرة في تحديد الموضوعات الخفية أو المستنبطة وما أشبه، فضلاً عن الموضوعات الصرفة، وكذا في تحديد الموضوعات الأهم من غيرها، كما يوجب الوفاء والالتزام بمقتضى التعاهد والاتفاق الفردي أو الدولي للزوم الوفاء بالعقود ما دامت الاتفاقات تلاحظ الموازين الشرعية من جهة شرعية أصل العقد، بأن لا يكون حراماً أو ضارّاً وما أشبه، وشرعية المجري ونحو ذلك على ما ستعرفه. هذا مضافاً إلى أصالة الإباحة في الأشياء ما دام لم يدل دليل على الحرمة في الإقرار بمبدأ من هذه المبادئ الثلاثة، بل هذا ما قامت عليه سيرة العقلاء وبناؤهم أيضاً في مختلف الشؤون.

وعليه فإنه لا خلاف في الدولة الإسلامية في الإقرار بهذه المبادئ في السيادة ما دامت لا تضر في شرعية السلطة أو شرعية سيادتها. وهنا مسألتان:

المسألة الأولى: في الجمع بين سيادة الدولة والحريات العامة

 يلزم تأطير الدولة للقوانين بمقتضى الحريات العامة، فإن سيادة الدولة وشرعية ممارستها ينبغي أن تكون نابعة من أمور أربعة:

الأول: أن تكون القوانين إسلامية.

الثاني: أن يكون الرئيس مرضياً لله سبحانه وتعالى؛ بمعنى أنه مطابق للشروط الإلهية.

الثالث: أن يكون الرئيس منتخباً من قبل أكثرية الأمة.

الرابع: أن مجالس الأمة ونحوها من مؤسسات التقنين ينبغي أن تضع قوانينها في إطار الإسلام ورضاية الأمة، فإنه ينبغي أن تنطلق القوتان التأطيرية - أي القوة التشريعية على ما يعبّرون - والقوة التنفيذية من الحرية الإنسانية؛ لأنها الأصل في كل إنسان على ما بيناه سابقاً، فلا تؤطر القوانين الإسلامية بالأطر الكابتة للحرية، بل اللازم أن يراعى في تأطير القوانين حتى الدستور على القول بلزوم وجوده أمران:

الأول: الإسلام.

والثاني: العقد الاجتماعي للنواب في المجلس الذين هم وكلاء الأمة.

ومن الواضح أن الوكالة عقد وباعتبار أنّ القوة التنفيذية وكيلة عن الأمة وكالة مباشرة أو بواسطة المجلس يلزم أن يكون التأطير للقوانين بحسب مصلحة الأمة؛ لأنهم لم يوكّلوا الوكلاء وكالة تشمل العمل على خلاف مصالحهم، وحفظ حريات الأمة من أهم مصالحهم التي يجب على وكلائهم سواء في القوة التشريعية أو التنفيذية ملاحظتها والانطلاق منها.

وعليه فكل قانون خالف الإسلام أو خالف مصلحة الأمة في تضييق حرياتها يعدّ باطلاً ومردوداً؛ لأنه ليس بإسلامي؛ ولأنه تصرف في شؤون الموكِّل بدون رضاه.

المسألة الثانية: في أسباب إطاعة الدولة

إذا كانت السيادة ناشئة من الشروط الأربعة المتقدمة وجب إطاعة الدولة التي تمارس هذه السيادة، ولكن هل هذا الوجوب شرعي لكونه نوع التزام بين الطرفين فتشمله أدلة وجوب الوفاء بالعقود[3]، أو لوجوب حفظ الأمن والنظام ورعاية الحقوق ونحوها من ملاكات الشرع والعقل، أم هو طبيعي، بمعنى أن قوانين الحكومة مأخوذة من القوانين الطبيعية من جهة أنه كلما كان القانون الاجتماعي أوفق بالقانون الطبيعي كانت النتيجة أحسن، أو من جهة العقد الاجتماعي لكونه نوع تعامل بين الحكومة والأفراد كالتعامل بين الوكيل والموكل، أو من جهة أن قوانين الدولة أحسن إطار لتنمية الحريات والملكات في الأفراد وتشغيل الطاقات الكامنة في النوع لمصلحة البشر ونفع الإنسان؟ وفيها أقوال أربع:

القول الأول: للمتدينين، حيث قالوا: إن أمر الحكومة واجب الإطاعة من جهة أمر الدين به، إما من جهة الضرورة العقلية للزوم حفظ النظام والأمن، أو الضرورة الشرعية الداعية إلى الوفاء بالعقود والعهود، ومن الواضح أن الدين أصوله مبنية على العقل وفروعه مبنية على العقل أيضاً من جهة وجوب شكر المنعم؛ ولذا كان لزوم إطاعة الحكومة مبنياً في أصله على العقل وإن أمكن إيجاد ملاك شرعي له على ما عرفته.

القول الثاني: للطبيعيين؛ إذ قالوا: إنّ الكون له طبيعة خاصة في سيره، وكل مخالف لتلك الطبيعية لا بد وأن يرتطم بما يوجب هلاكه، والقوانين الوضعية التي تنفذها الحكومة هي ما طابق تلك القوانين الكونية، فإطاعة الحكومة إنما هي لأجل عدم الارتطام بالقوانين الكونية، وقد مثّل له ذلك السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الفقه السياسة بمثال المني، فإن الطبيعة تقتضي أن يتهيأ الجسم لإفراغ المني إذا وصل عمر الإنسان إلى السادسة عشرة: مثلاً. فإذا وضع القانون على طبق ذلك وتزوج الإنسان سعد واستراح، وإذا لم يوضع القانون على طبق ذلك أو لم يطبّق الإنسان القانون فهو إما أن يسلك سبيل الانحراف وفي ذلك الأمراض والعقد النفسية، وإما أن لا يباشر أصلاً وفيه الأمراض التي تتولد من الرواسب المنوية[4]، وهذا وإن كان صحيحاً إلا أنه لا يغني عن الدين؛ إذ الدين وضعت أحكامه على المصلحة والمفسدة، كما قرر في الأصول لجهة تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد الواقعية، فالذي يكشف عن القانون الطبيعي إنما هو الدين؛ إذ واضع الكون ومؤسِّسه الله عز وجل وهو الذي يعلم اسراره وقوانينه.

وعليه فالقائل بهذا القول وإن أصاب في الكبرى ـ بمعنى أن القوانين الوضعية يجب أن تطابق القوانين الطبيعية ـ إلا أنه أخطأ في الصغرى؛ لان الذي يطابق القوانين الطبيعية هو ما يضعه الناس من عند أنفسهم، فالاشتباه من هنا، وإنما ينبغي أن يكون الواضع للقانون أيضاً الله عز وجل ولو بالوسائط.

القول الثالث: للحقوقيين القائلين بالعقد الاجتماعي، وهؤلاء يقولون بأن وجوب إطاعة الحكومة إنما هو لأجل القرار الذي عقده الجانبان، أي الحكومة والأمة في قيام الأولى بمصالح الثانية في قبال قيام الثانية بإطاعة الأولى، فالإطاعة وفاء بالمعاملة التي جرت بين الطرفين، والظاهر أن هذا إنما يتم إذا لم يقل بالموازين الدينية، وإلا لزم أن يكون هذا القول في الإطار الديني أيضاً؛ إذ كل عقد خرج عن الموازين الدينية فهو باطل، ولا يجب الوفاء به، مضافاً إلى بعض الإشكالات الأخرى التي أوردوها ولا يسعنا المجال لبيانها.

القول الرابع: للساسة، حيث يرون بأن قوانين الدولة أحسن إطار لتنمية الحريات وتشغيل الطاقات؛ ولذا يطيعها الناس، وهذا يتم إذا كانت القوانين صحيحة كما لا يخفى، وصحة القوانين لا تكون إلا إذا كانت مستندة إلى الله سبحانه، وكان التطبيق بيد المجتهد العادل أو شورى المجتهدين العدول.

ومن الواضح أن إطاعة بعض الشعوب للدول الديمقراطية الحديثة على ما يعبّرون أمر نسبي ناجم عن عدم وجود البديل الأفضل في نظرهم؛ لقصورهم عن معرفة حكومة الإسلام العادلة، أو عدم اطلاعهم عليها، أو لتشويه صورة الحكومة العادلة بسبب بعض التطبيقات الخاطئة التي طبقتها بعض الحكومات المنتسبة إلى الإسلام، وإلا فلو تمت شرائط الدولة المشروعة العادلة لحكموا بلزوم اتباعها دون غيرها؛ لأنها أضمن لحقوقهم وأدفع للمضار عن أنفسهم وجذب المنافع، ومن الواضح أن جذب المنافع ودفع الآلام مما تحكم بوجوبه كل فطرة سليمة، كما قامت عليه سيرة العقلاء في تنظيم أمورهم الدينية والدنيوية.

......................................

[1] موسوعة السياسة : ج3 ص356 السيادة.

[2] موسوعة السياسة :ج3 ص357 السيادة.

[3] كالمستفاد من مثل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}سورة المائدة : الآية 1 وقولهم (عليهم السلام) المؤمنون عند شروطهم؛ عوالي اللآلي: ج2 ص257 ح7؛ وفي الوسائل: المسلمون عند شروطهم انظر المصدر: ج18 ص16ح23040وح23041 باب 6 من أبواب الخيار.

[4] الفقه كتاب السياسة ج2، ص242.

شبكة النبأ المعلوماتية- الإثنين 2/آب/2010 - 21/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م