سخط الثقافة وأزمة المجتمع

مازن الياسري

كانت الحرب العالمية الثانية مفتاحاً للازمات والمصائب على معظم دول العالم (عامة) وأوربا (خاصة) بل إن مصائبها لم تقتصر على الخاسرين بل صبت على الغالبين أيضاً.. خاصة مع تقديرات مخيفة بالخسائر البشرية والمادية، وبالتالي فتبعات الحرب اشد فتكاً من الحرب ذاتها.

 فبريطانيا المنتصرة في الحرب، شهدت في العقد الخامس والسادس من القرن العشرين أي مرحلة ما بعد الحرب.. أخصب فترة، ظهر فيها كتاب وأدباء ساخطين، في تاريخ الأدب الانكليزي.. ولمعت أسماء أولائك الساخطين المنتقدين.. وأصبحوا لسان حال القارئ الانكليزي، لأنهم كانوا يعبرون عن ضيق الشارع بتوالي الأزمات التي خلفتها الحرب.. وعجز الحكومات عن إيقاف هذه الأزمات، وقبل هذا وذاك من اجل ماذا جرى كل ذلك؟..

وأصبح الساخطون من أمثال (جون اسبرون) و(كولن ويلسون).. وآخرون من الكتاب المشهورين.. منشغلين في محاولة لشرح أسباب الانهيار المجتمعي والحضاري الذي أوصل الإنسان المتحضر لهمجية الحرب.. كما الحال في كتاب (العقد الاجتماعي) قبل قرون عندما انصرفوا أو لنقول ابتعدوا عن الواقع في رغبة بكشف الآلية التي تمحور بها مجتمعهم بهذا البؤس متوصلين لنتائج تفترض ان المشاعية الأولى للبشر إما كانت وحشية روضتها القوة، ام سعادة مطلقة حطمتها القوة..

 ولم يقتصر هذا على بريطانيا وحدها، فظهرت كتابات الروائي الكبير (فردريش دينمارات) في أكثر بقاع أوربا استقراراً (سويسرا) وكلها سخط ورفض وتمرد، واحتجاج عميق عما يجري للإنسانية من تحطيم.. بل صور في روايته المسرحية (زيارة السيد العجوز) كيف إن سيدة ثرية اشترت مدينه كاملة بسكانها، وعندما نشرت الرواية (في حينها) بدء النقاد يصورون هذه السيدة بأنها أمريكا او الاتحاد السوفيتي او... الخ.. من التصورات التي هدفت لربط فكرة الرواية بالواقع الدولي المعاش.

 وحتى في الولايات المتحدة ظهرت كتابات ساخطة، رافضة، وقحة وناقمة.. كما في كتابات الكاتب الروائي المسرحي (تينسي وليامز) وغيره.. ولا شك إن أب الوجودية الكبير (سارتر) سخط على الواقع، وليس هنالك شك بأن الفلسفة الوجودية ذاتها.. والدعوة للغثيان بطريقة سارتر كانت خلفية وانعكاس المرحلة المعاشة آنذاك.. وهي الحرب وما بعدها.. فقد وصف سارتر همجية النازية بالحرب بلذاعة بروايته (الذباب).. ثم هجع يحكي ألام محزنة ومقدار ما وصل إلية العالم من مأساوية في روايته (الحائط) التي صور بها شعور رجل ينتظر الموت.

نعم فهكذا هي المجتمعات الخارجة من الحرب ممزقة او متهالكة.. غير قادرة على التحرك والنمو بصحة.. تشعرها تسير عرجاء، فالاقتصاد ضعيف والمجتمع مربك، والأخلاق في تضائل.. والأنانية السائدة تذكرك بمجتمع الغابة، والحاكمين بعد الحرب في تحدي كبير فأما ان يكونوا من عيار الوطنين الشوفينين ويسعون لإعادة الحياة لمؤسسات بلدهم ومجتمعه المحطم.. او يكونوا حفنة من الانتهازيين الذين يعتاشون على بقايا الدم عبر الوصف الكلاسيكي (تجار الحروب) وهم الأغلب في عالم اليوم.

عالم الغرب لم يقف متفرجاً على التمرد الفكري الذي قدمه كتابه الكبار، بل اندفعوا بحركات شعبية قادها المثقفون وخاصة الطلاب.. ولعل الثورة الطلابية بفرنسا أواخر الستينات.. ونمو الحركة الهيبية أيضاً ساهمت في عكس رغبة إنسانية في الابتعاد عن مظاهر الصناعات الحربية والتحديات النووية، واللجوء للطبيعة و المدنية.. تلك الحركات التي تطورت لاحقاً لتصبح تياراً عريضاً في أوربا يعرف بالتيار الأخضر.

إما في بلادنا على سبيل المثال.. فالأنظمة حطمت المجتمع من أسسه المحركة، فلا نرى في بلداننا حركات طلابية أو مجموعات ثقافية قادرة على التغيير.. أو السعي نحو فرض ثقافات أو رسالات للتغيير.. فالمؤسسات الحكومية والحزبية تهيمن على هكذا ملفات، بل تهيمن على كم كبير من منظمات المجتمع المدني وبواجهات وهمية.. فإذا كان نظام البعث السابق قمعياً تجاه الفكر والمعرفة.. فالنظام الحالي مراوغ ومتلون وينخر كل المؤسسات القادرة على التغيير ويتمدد وسطها عبر الآليات المالية.. فتراه يهيمن على الوسائل الثقافية والإعلامية والطلابية.

اعتقد إن النقد المجتمعي والإداري والسياسي، الواجب أن يحركه المثقف البناء لا المثقف السلبي هو أهم مطالب المرحلة.. وبالتالي البحث عن الحلول لأزمة مجتمع وأزمة دولة طالت جداً.. إنها أزمة العراق.

www.alyasery.com

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 3/تموز/2010 - 20/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م