الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء
والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي
القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار
المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة
الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم..
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿5﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِينِ ﴿6﴾).[1]
هذه الآيات القرآنية الكريمة ترسم الإطار العريض للعلاقة التي ينبغي
أن تكون بين الحضارات، والأديان المختلفة، والتي يجب أن تكون هي
الحاكمة وهي الفيصل، فإننا على ضوء سورة (الجحد) أو (الكافرون)
وبُهداها نستهدي، لكي نعرف أن العلاقة هل هي علاقة اندماج، أو الذوبان،
أو التعايش، أو الصراع، أو الحوار أو غير ذلك من أنماط العلاقات، أو
العلائق التي يمكن أن تحكم، وتتحكم في المعادلة بين الأمم، والشعوب،
والحضارات، والأديان المختلفة.
الأجر العظيم لقراءة سورة (الكافرون)
ولكن قبل أن ندخل في صميم المبحث من المحبذ أن نقرأ معاً رواية
تتحدث عن فضل قراءة سورة الكافرون، لنتعرف على جانب من أهمية الإطار
والحدود التي ترسمها هذه الآيات القرآنية الكريمة..
وهذه الرواية كبعض الروايات الأخرى قد تبدو غريبة في بادئ النظر
لكنها لدى التحليل العلمي الدقيق تبدو بيِّنةً، واضحةً، جليةً، وضوح
الشمس في رابعة النهار، وقد ذكرت في كتاب (بحار الأنوار الجامعة لدرر
أخبار الأئمة الأطهار) للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي (رضوان الله
تعالى عليه) المجلد (التاسع والثمانين) يقول الإمام الصادق (عليه
الصلاة وأزكى السلام): (من قرأ قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد
في فريضة من الفرائض غفر الله له ولوالديه وما ولدا..).[2]
لكن هل يعقل هذا الأجر؟
فالأجر أجر عظيم، بقدر ما يكون عند البعض غريباً، إذ كيف يغفر الله
له، ولوالديه، ولما ولدا، وقد قرأ هاتين السورتين مرة واحدة في فريضة
من الفرائض، ثم لاحظوا تمام الرواية؟
(غفر الله له ولوالديه وما ولدا، وإن كان شقياً محي من ديوان
الأشقياء، وأثبت في ديوان السعداء، وأحياه الله سعيداً وأماته شهيدا
وبعثه شهيداً)..
الرواية ينقلها العلامة المجلسي عن ثواب الأعمال، هذه الرواية بهذا
الأجر العظيم تكشف من جهة عن الأهمية الإستراتيجية أو المفتاحية لهذه
السورة، كما كانت سورة التوحيد، لكنها من جهة ثانية تبدو غريبة إذ كيف
يمكن أن يكون هنالك هذا الأجر العظيم المذهل دنيوياً وأخروياً على
قراءة هاتين السورتين في فريضة واحدة، مرة واحدة؟
الرواية في غنى عن البحث السندي
وهذا التساؤل ليس خاصاً بهذه الرواية الشريفة، وإنما هناك المئات
وربما الألوف من الروايات المشابهة في مواطن عديدة، سواءً فيما يتعلق
بفضائل ونتائج وثواب، قراءة سورة من سور القرآن الكريم، أم ما يذكر في
الروايات من الأجر الكبير على أعمال كثيرة أخرى.
وهذه الروايات الشريفة، لا مجال للتأمل أو المناقشة في سندها، لأن
قسماً منها صحاح، وبعضها الآخر موثقات، ورغم وجود الضعاف فيها أيضاً
إلا أننا في غنى عن البحث السَّنَدي عنها لأنها بالمئات أو الألوف، فهي
متواترة (تواتراً إجمالياً) إن لم تكن (متواترة بالمضمون)[3]... وقد
وردت ليس في موطن واحد بل في الكثير من المواطن، فهناك المئات أو
الألوف من الروايات التي تتحدث عن أجر عظيم كهذا الأجر أو أكثر أو أقل.
لذلك كان لابد في سَبْر أغوار هذا الموضوع، من تحليل علمي، ولا يمكن
أن تُرفض هذه الروايات؛ بذريعة سندها، وأن هذه الرواية هل سندها تام أو
غير تام؟ إذ لو لم تكن هذه الرواية أو شبهها، تامَّة من حيث السند، إلا
أنها قطعية من حيث (الإجمال)، وأن هذا المضمون في الجملة قطعي، لكثرة
الروايات والأحاديث التي تدل على مثل هذا الأجر والمقام، فما هي
الإجابة على هذا السؤال؟
السر هو أن حدثاً أو كلمة قد تغير عالم التكوين أو التشريع
نقول في الإجابة على التساؤل عن سر وفلسفة الأجر العظيم على بعض
الأعمال والأفعال، وبإيجاز لأن هذا البحث يحتاج إلى موطن آخر أكثر
تفصيلاً لكننا نشير هنا بعض الإشارات عسى أن يوفقنا الله في المستقبل
للحديث بإسهاب أكثر للإجابة عن هذا التساؤل، فنقول:
إن الله سبحانه وتعالى البارئ الخالق جل اسمه، بنى عالم التكوين،
كما بنى عالم التشريع، وكما بنى عالم المجتمع البشري، بنى العالمين
الأولين وكذلك، العالم الثالث، وهو متوزِّع بين العالمين على هذه
المعادلة: أن كلمة واحدة، أو موقفاً واحداً، أو حدثاً واحداً، قد
يُغيِّر كل شيء..
الحياة قد بُنيت على هذه المعادلة في كثير من أبعادها، سواء أفي
عالم التكوين، أم في عالم التشريع، أم في عالم (المجتمع البشري) في
علاقاته المتبادلة؛ فإن كلمة واحدة قد تغيِّر معادلة أمَّة بأكملها،
وأيضاً الأجر الإلهي كذلك.. ولنضرب لكم بعض الأمثلة على عجل واختصار
وإيجاز[4]...
أمثلة وشواهد
أ. الصلاة على النبي وآله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من صلى عليّ مرة لم تبق
من ذنوبه ذرة..[5]
فهي (صلاة واحدة) لكنها تغسل وتطهر وتمحو ذنوباً قد تكون امتدت
لعشرات من السنين مما لله عليه من الحقوق.[6]
ب. كلمة التوحيد
ويقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ).[7]
وهي كلمة واحدة، لكن الله لا يغفرها وسوف يُخلِّد في النار من عقد
قلبه على الشرك ولم يتب؛ (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ
فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا( فالمستقبل كله يبتنى على كلمة واحدة
فقط هي: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا..[8]
وهكذا في عالم المجتمع البشري، فإن المجتمعات البشرية أيضاً تمشي
على هذه المعادلة، فإن كلمة أو موقفاً، أو حدثاً، قد يُغيِّر كل شيء،
ويشهد لذلك المثال التالي وهو الشاهد الثالث:
ج. (القسم)
إذ نجد الآن وفي كثير من الدول، عندما يريدون أن يُجنِّسوا شخصاً
بعد أن استوفى الشروط فإن مستقبله كله يتوقف على (القَسَم)؛ بأن يأتي
ويُقسِم، ولو كان كاذباً في قسمه، غير ملتزم، وغير عاقد القلب على ذلك،
فإنه إذا جاء وأقسم تحت علمهم فإنه يجنس، وتجري عليه الألوف من أحكام
بلدهم.. وهذه كلمة واحدة لا أكثر في (المجتمع البشري) لكنها تقلب
معادلات كثيرة..
وبناء العقلاء أيضاً على ذلك؛ على أن كلمة واحدة، أو موقفاً واحداً،
أو حدثاً واحداً، قد يغير المستقبل بأكمله.
د. جرعة الدواء:
وفي عالم التكوين نجد مثلاً شخصاً مريضاً بمرض عُضال استمر به سنين
وقد يطول به سنين أخرى، هذا الإنسان يعقَّم ويُعطى مضاداً حيوياً (أنتي
بيوتيك) جرعة واحدة، أو مجموعة جُرعات، فهذه الجرعة الواحدة على حسب
نوع المرض وقوة الجُرعة من المضاد الحيوي تقضي على مرض عمره عشر سنوات،
وقد يستمر ثلاثين، أو أربعين سنة أخرى..
ه. التعقيم
كذلك لو أن أحدهم عَقَّمَ منزله فإن تعقيمه لمنزله لا ينعكس عليه
بالإيجاب فقط بل على كل مَنْ يعيش في المنزل وبذلك يظهر أحد الوجوه في
(غفر الله له ولوالديه وما ولدا) إذ أن الإنسان إذا عقم المنزل، أو
عُقمت المدينة، فإن تأثيرات التعقيم الإيجابية لا تنحصر به وحده، أو في
الاتجاه الآخر فإن (تلويث الأجواء وتسميمها بمواد كيماوية أو جرثومية
أو غيرها) لا تتحدد أضراره ولا تنحصر في القائمين بتلك الجريمة فقط،
وإنما يتضرر الآخرون أيضاً المحيطون بالمجرمين أفقياً أو عمودياً..
و. السباب وعلاقات الدول
ومثال آخر: فإن كلمة مَسَبَّة واحدة قد تسبب توتراً في العلاقة بين
الدول، تصوروا رئيساً يسبُّ رئيساً آخر، فتتوتر العلاقات، وتضطرب
الأمور، وتجد أن عشرات الملايين من الناس، ستوضع عليهم حدود وقيود
للسفر والحضر والتجارة وغير ذلك، سواء كانت تلك الكلمة بحق أم كانت
بباطل.. فالكون قد بني في عالميه التشريعي، والتكويني على ذلك، وعلى
ذلك بناء العقلاء أيضاً.. أي على أن كلمة واحدة، أو حدثاً واحداً، أو
موقفاً واحداً قد يُغيِّر معادلة بأكملها.. وبذلك يحكم العقل أيضاً.
ز. وكذلك سورة الكافرون والتوحيد
وبعد معرفة ذلك كله، لا مجال للاستغراب من هذه الرواية الشريفة، إذ
اتضح أن عالم التشريع، على ذلك بُنيَ، وعالم التكوين أيضاً على ذلك
بُنيَ، والمجتمعات البشرية بُنيت على ذلك أيضاً؛ نعم (غفر الله له
ولوالديه وما ولدا، وكُتب في ديوان السعداء، ومُحي من ديوان الأشقياء،
وعاش سعيداً، ومات شهيداً، وبعث شهيداً) أيضاً فما وجه الغرابة في ذلك؟
ح. الاستغفار
ويشهد لذلك أيضاً أن: كلمة استغفار واحدة إذا كانت عن ندم حقيقي
فإنها تمحو الذنوب كلها، هذا مما لا شك فيه، وذلك لطف من الله سبحانه
وتعالى أن جعل مثل هذا الأجر، ومثل هذه المثوبة العظيمة، والأثر الكبير
على (كلمة واحدة) فقط كـ(أستغفر الله) أو (اللهم صل على محمد وآل محمد)
أو على مثل قراءة سورة الكافرون في الفريضة أو على (موقف واحد) ضد حاكم
جائر مثلاً أو دفاعاً عن مظلوم، أو على (صفة نفسية واحدة فقط) كـ(حب
علي (عليه السلام)) إذ (حب علي حسنة لا تضر معها سيئة)[9] فلماذا
نستغرب ذلك؟
ط. حب علي (عليه السلام) وماء البحر
السيد الوالد (رضوان الله تعالى عليه) كان يمثل بـ(ماء البحر)، فإن
الإنسان إذا كانت على بدنه أدران ونجاسة وقاذورات فإنه إذا ارتمس في
ماء البحر فإنه يطهر فوراً، و(حب علي) أقوى من أيِّ مُطهِّر ومُعقِّم
في الكرة الأرضية.. أين الإشكال؟ فكما يوجد هناك معقم للجسد، يوجد أيضاً
معقم للروح، وكما أن الله تعالى قرر ذلك، يقرر هذا أيضاً (حب علي حسنة
لا تضر معها سيئة) وقبل ذلك (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)..
قال تعالى على لسان نوح (عليه السلام): (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) تأملوا الترابط بين (الكلمة) أو
بين حالة نفسية وهي الندم، وبين (التكوين) (يُرْسِلِ السَّمَاء
عَلَيْكُم مِّدْرَارًا) إنها كلمة واحدة، استغفار واحد، لكن لها تأثيراً
وضعياً تكوينياً على السماء والسحاب والأمطار وعلى الأرض والحرث والنسل
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ
وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا).[10]
إذن قراءة السورة المباركة (سورة الكافرون) في فريضة من الفرائض،
مشفوعة بـ(التوحيد) في الركعة الأخرى، إنما هو على طبق القاعدة
التكوينية والكونية الربانية، أن يكون هذا الأثر والأجر والمنافع
العظيمة..
هذه الكلمات مفتاحية فلها لوازمها وشروطها
لكن يبقى أن هذه الكلمات وهذه السور الكريمات وأمثالها (مفتاحية)،
أي أن لها لوازمها فعندما تقول: نسمع الوعد الإلهي بـ(قولوا لا إله إلا
الله تفلحوا)، نعم؛ (الاقتضاء) للفلاح موجود، ويقول الإمام الرضا (عليه
السلام) في الرواية المشهورة: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
في هذه الرواية التي هي من مصاديق سلسلة الذهب: (كلمة لا إله إلا الله
حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي ولكن بشرطها وشروطها وأنا من شروطها)..[11]
فهذه الكلمات مفتاحية وهي مقتضة وليست علة تامة.
ونعود للمثال في المجتمع البشري؛ فإن (القَسَم تحت العَلَم) من
الصحيح أنه يُغيِّر المعادلة بأكملها فيصبح الأجنبي في المنطق العصري
مواطناً وإن كان لا يوجد في الإسلام مفهوم «الأجنبي والمواطن» بهذا
المعنى وإنما الخلق كلهم عيال الله، هؤلاء خلق الله، وهذه أرض الله،
فمن عاش في أي مكان فهو ضيف لله سبحانه وتعالى، وله أن يقيم ويزرع
ويبني ويتملك كما يشاء ولكن حسب المعادلات الظاهرية عندما يقسم فيتجنس،
فهذه كلمة مفتاحية إذن، ولكن بعد ذلك عليه أن يلتزم بقوانين البلد،
وإلا استحق العقوبة، وربما في مراحل الحرمان من الجنسية أيضاً، إذن (الكلمة)
أخرجته من عالم الغُربة والأجنبية، إلى عالم المواطنة، بنحو العلة
المحدثة، ولكن توجد هنالك علل مبقية أيضاً وشروط أما للأصل استمراراً
أو لامتلاك كامل الحقوق والأمن من العقوبة.
وفي مبحثنا فإن هذا الأثر الهائل المفتاحي بين العالمين أحدثته
الكلمة: قولوا لا إله إلا الله، فهذه الكلمة يخرج الإنسان من دائرة
الظلام إلى دائرة النور (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن
بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ
لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).[12] لكن بعد ذلك عندما يدخل في هذا
العالم، فإن عليه أن يعرف إن هذا العالم له قوانينه، له أسبابه وله
مسبباته، وله علله ونتائجه، وآثاره السلبية[13] والإيجابية أيضاً.
فإذن هذه الكلمات تبقى مفتاحية، وتبقى لها شروطها أيضاً، والإنسان
الذي يقرأ؛ (قل هو الله أحد)، وسورة (قل يا أيها الكافرون)، في فريضة
من الفرائض (فيغفر الله سبحانه وتعالى له ولوالديه وما ولدا ويمحو اسمه
من ديوان الأشقياء ويثبته في ديوان السعداء)، يدخل هذه الدائرة لكن
بشرط أن لا يبطلها و(يحبطها) بعد دقيقتين، وذلك كمن يستعمل (مضاداً
حيوياً) فإنه يُشفى لكن بشرط أن لا يشرب السُّم بعد ذلك..
ومن الشروط (عقد القلب)
وقد ظهر لنا حتى الآن حال الماضي، وإنه يغفر له ما سلف من ذنبه
ويغفر لوالديه وما ولدا، أما المستقبل: فعليه أن يراقب تصرفاته وحركاته،
وسكناته وأفعاله وأقواله، إضافة إلى أنه ينبغي أن يكون كل ذلك عن (عقد
القلب) والتزام، وإلا فإن الاستغفار مثلاً يكون عندئذٍ (لقلقة لسان)
فقط فلو كان الإنسان غير نادم على ذنب ارتكبه، لكنه رغم ذلك يقول: (استغفر
الله) ولعله يكررها من غير ندامة ولا عقد عزم على عدم العودة، فإنه
كالمُستهزئ، وما حكم المستهزئ؟ إنه سيجازى و(سيصفع) على هذا الاستهزاء
أيضاً، لأن الله مُطلع على النوايا، وعلى القلوب والاستهزاء وما هو
بحكمه له أثر وضعي وآثار دنيوية تكوينية عديدة.
والحاصل: إن هذه الآثار المذكورة في هذه الرواية الشريفة لقراءة
سورة (قل هو الله أحد) و(الكافرون) وهي موطن الشاهد في الحديث وهذه
الرواية على الأصل وعلى القاعدة: تُخرج الإنسان من عالم، وتُدخله في
عالم آخر، وهذا هو (المفتاح) وهذا هو (التحول الاستراتيجي).
ومن الشروط: (الالتزام والعمل)
نعم.. قراءة السورتين، مفتاح وبلسم وسبب مغفرة وسعادة..
ولكن يبقى (بشرطها وشروطها) أي بشرط أن يلتزم بما تُحمِّله هذه
الكلمات من مواقف وبما تَحمِله من آثار؛ قال الله تعالى: (إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).[14] لماذا الإشفاق منها؟
لأن لها لوازم وتترتب عليها مسؤوليات وواجبات، ويدل عليه قوله تعالى (إِنَّهُ
كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) إذ الظلم لأنه لم يلتزم بلوازم الأمانة من (توحيد)
و(نبوة) و(إمامة).
وقد ظهر حتى الآن أن قولك: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي
ولي الله.. كلمات خفيفة على اللسان لكنها ثقيلة في الميزان وصعبة من
حيث الالتزام بما تقتضيه وتتطلبه إذ إن هذه الكلمات الثلاثة تتبعها،
وتنجم عنها، وتترتب عليها لوازم وآثار تلف حياة الإنسان بأكملها.
قاعدة (الإلزام) تستنبط من (لكم دينكم)
ونأتي إلى هذه الآيات القرآنية الكريمة - والحديث عنها طويل- ولكن
نكتفي ببعض الحديث حول آخر آية في هذه السورة، لأنها ترسم الإطار
العريض العام للعلاقة بين الأديان وبين الحضارات فإن (لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) المقطع الأول من هذه الآية الشريفة، ربما يستظهر أنه
يشير إلى القاعدة المعروفة في الفقه المسماة بـ(قاعدة الإلزام)، التي
يستند الفقهاء فيها عادة إلى حديث: ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم..[15]
لكن قبل هذه الرواية ومعها فإن هذه الآية القرآنية الشريفة، تصلح
أيضاً كما قد يستظهر دليلاً على قاعدة الإلزام فإن هذه الآية الشريفة (لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وإن كان من الممكن أن يُقال: أن المراد بها
هو الجانب التكويني، أي الجانب الذي يتعلق بما ستكون عليه الحالة
الخارجية لهاتين الطائفتين، أي إنه يمكن أن يقال: بأن هذه الآية إنما
هي في مقام كشف المستقبل، بأن المستقبل هكذا سيكون كما كان على مر
التاريخ أي سيكون هناك دين الإسلام، وستكون هناك أديان أخرى فـ(لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي الأمر كذلك إلى حين حلول الوعد الإلهي
بـ(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).[16]
فهذه الآية يمكن أن يقال بأنها إشارة لواقع خارجي، ليس في ذلك
التاريخ فحسب، بل في شتى الأزمنة، أي هي (قضية حقيقية) بحسب الاصطلاح
العلمي، ولكن قد يستظهر أن هذه الآية هي آية تشريعية، أو هي تعم الجانب
التكويني، والجانب التشريعي، والقرينة على أن هذه الآية تشريعية؛ هو
سياق الآيات لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المقام في
مقام أن يقول؛ بأنني أنا لا اتخذ موقفاً يتسم بأدنى تنازل تجاه الكفار،
وهم أيضاً كذلك (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا
أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ ﴿5﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿6﴾).
فربما يُستظهر بأن الآية في مقام التشريع، أي لرسم العلاقة
التشريعية بين الإسلام وبين الأديان الأخرى[17]، ويمكن أن يقال: بأن
هذه الآيات هي في دائرة أعم، يعني أعم من التشريع، وأعم من التكوين
فتأمل[18] فهذه الآية (المقطع الأول) منها يصلح أن يكون من أدلة قاعدة
الإلزام وهنا نتوقف قليلاً.. فنقول:
قاعدة (الإلزام) من مفاخر الإسلام
إن قاعدة (الإلزام) المستفادة من هذه الآية الشريفة، ومن تلك
الروايات الكريمة، هي من (مفاخر الإسلام)، والغرب مهما تبجَّح بالتسامح،
وبالانفتاح، وبحرية المعتقد وغير ذلك.. فإنه لا يرقى إلى عشر معشار ما
تضمنته (قاعدة الإلزام)..
بل إن (قاعدة الإلزام) تعد حقيقة من (مفاخر البشرية) لكننا نحن
المسلمون أعني الكثير منا عادة في واد آخر، ولا نعرف قيمة الجواهر التي
نمتلكها، واللآلئ، والدُّرر والكنوز التي بحوزتنا، ونبقى نجهل قيمتها..
مقارنة بين الغرب والإسلام على ضوء قاعدة الإلزام
نعم إن من المفاخر التي اختصصنا بها (قاعدة الإلزام)؛ والآن لاحظوا
دائرة قاعدة الإلزام، ولاحظوا ما يقوله الغرب، مع فارق عقلانية قاعدة
الإلزام عن دائرة ما يلتزم به الغرب، وهذا له بحث طويل الذيل في محله
لكننا نشير الآن إشارة عابرة فقط.. فالغرب لا يعمل بقاعدة الإلزام في
كثير من الموارد.
أ. الزواج دون السن القانونية
فمثلاً في البلد الغربي الكذائي، هل يستطيع الإنسان المسلم بل كل
مَن كان مِن ديانة أخرى مسلماً كان، أم ذا دين آخر هل يستطيع أن يتزوج
دون السن القانونية للزواج عندهم؟ فلنفرض إن السن القانونية للزواج
عندهم هي (18 أو 21) حسب الولايات، أو المدن، أو الدول، هل يستطيع شخص
أن يتزوج فتاة عمرها (12 سنة)؟
قانونياً لا حق له وسيلاحق لو فعل، مع أنه حسب دينه يجوز له ذلك،
والبنت إذا بلغت يجوز وقبل البلوغ ذلك جائز لها أيضاً لكن على كراهة
لها الزواج، أي إن أصل الزواج يعني العقد جائز، أما المعاشرة بالمعنى
الأخص أي الدخول، فقبل البلوغ غير جائزة لما فيها من الضرر على الطفلة،
أو إذا كانت مُضرَّة فهي أيضاً غير جائزة وإن كان بعد البلوغ، بهذا
العنوان الثانوي (قاعدة الإلزام)، الغربي لا يلتزم بها، فإن الإنسان
إذا تزوج قبل السن القانونية للزواج فإنه مُدان، ومُعاقب، ولا تترتب
عليه الآثار فلا تُعتبر زوجة له، ولا ترثه، أو يرثها وما أشبه ذلك..
ب. الزواج بأكثر من واحدة
مثال آخر: في كثير من الدول الغربية يُمنع زواج الإنسان بأكثر من
واحدة، رغم أنك قد تكون من دين آخر، لكن قاعدة الإلزام ليست جارية
عندهم، نقول لهم: لا يجوز عندكم للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة، ولكن
ذلك عندنا جائزفلماذا لا تسمحون لنا بذلك؟
والحاصل أن قاعدة الإلزام غير جارية عندهم، وهي جارية عندنا، حسب
الشريعة الإسلامية السمحة، أي لو أن شخصاً من دين آخر يعيش في بلاد
الإسلام، ومن دينه أن له أن يتزوج بستة، فله الحق في ذلك ولا يُمنع من
ذلك إذ (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) عدد الزوجات عندنا محدد بأربعة،
لكنه غير ملتزم بذلك حسب دينه فله ذلك، أي: على حسب دينه يُتعامل معه
فلا يُقيَّد بتشريعنا.
ج. زواج المجوس بالمحارم
مثال ثالث: فالمجوس يجوز عندهم أقبح المحرمات عندنا وعند كافة
العقلاء وهو الزواج بالأم، أو الأخت، أو البنت، فالمجوس له ذلك، يعني
من الناحية التشريعية، في الحكومة الإسلامية لا يُمنع من ذلك، بل له أن
يتزوج بأمه مع أنه هذا من أقبح المحرمات عقلاً، وشرعاً، أيضاً.. لكن
قاعدة الإلزام تسمح له بذلك.. الآية الشريفة (لَكُمْ دِينُكُمْ) تقول:
أنت امش على ضوء دينك، ولكن اتركني امشي على ضوء ديني، لماذا تتدخل في
شؤون ديننا؟!
د. فرض امرأة إماماً للجماعة
لماذا تريد أن تفرض (امرأة) إمام جماعة في ذاك البلد الغربي؟ هذا
ماذا يعني؟
معناه تبجح كاذب بالديمقراطية، وبالحرية، يفرضون (امرأة) في ذاك
البلد الأجنبي الغربي كإمام جماعة للرجال بعنوان حرية المعتقد، نقول:
هذه (امرأة مسلمة)، الفرض هكذا و(الصلاة صلاة إسلامية)، أنتم تريدون أي
شيء تفعلون افعلوا في دائرتكم، لكن أن تتدخلوا في شؤون الآخرين وأن
تتجاوزوا على مقدساتهم فتحاولوا أن تفرضوا امرأة إماماً للجماعة على
الرجال وهو تدخل سافر في دين الآخرين، وانتهاك لمقدساتهم، ثم إنكم
وتطبلون وتزمرون، بدعوى أن هذه حرية وديمقراطية!! كلا.. إن هذا خنق
لحرية الأديان الأخرى، وكذب، وتطبيل بالباطل، ودجل..
هـ. لا ضريبة على الإرث
في مثال آخر: (الإرث) في الإسلام لا توجد عليه ضريبة، لكن هل هذا
القانون، يقره الغربي ويمشي عليه في حق المتدينين به؟
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول: من ترك مالاً فلورثته ومن
ترك ديناً أو ضياعاً فعليّ وإليَّ..[19]
وقد فصَّل الحديث عن ذلك السيد العم[20] في بعض محاضراته وكتبه، فأي
شخص من عامة الناس في البلد الإسلامية يموت وعليه دين، فبيت المال عليه
أن يتحمل مسؤولية هذا الدَّين.. في أيِّ قانون ترون في العالم هذه
الإنسانية الكبيرة؟
وفي المقابل فإنه إذا ترك مالاً، وعقاراً وما أشبه ذلك فلذريته،
وورثته وليس للدولة الإسلامية..
من هنا فإن المسلم أو أي شخص من أية ديانة أخرى لا يرى (الإرث) لجهة
أخرى، غير الأقرباء، هل يُسمح له في ذلك؟ وهل يمشي هذا في الغرب؟ أو
يفرضون الضريبة على إرثك، مهما كان دينك؟ لكن في الجهة المقابلة إذا
كان الغربي يعيش في بلد إسلامي فإنه يتعامل معه على ضوء دينه..
ولا يخفى أن هذا البحث إنما هو عن (التشريع الإسلامي) وليس حديثاً
عن (التطبيق الخارجي) ومدى عمل الدول الإسلامية بقانون (الإلزام) وغيره،
إذ المقارنة هي بين التشريع الإسلامي والقانون الغربي، وليس بين حكومات
البلدين.
التشريع الإسلامي يقول: بأن له أن يمشي على ضوء دينه، فإذا دينه
أعفاه عن الضريبة، فإنه يتعامل معه كما يحكم عليه دينه، ولا يحق لنا أن
نفرض عليه ضريبة إذا كانت على خلاف معتقده ودينه.
لذا نجد أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه صلوات المصلين يقول: (لو
ثنيت لي الوسادة، لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل
بإنجيلهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم...)[21]
إذن فقاعدة (الإلزام) هي من مفاخر الدين الإسلامي، ومن مفاخر
البشرية، لكن هذه القاعدة في هذا الزمن أضحت مُهملة، أهملها المسلمون
أيضاً، كما أهملها الآخرون، لكنهم الآخرون تبجّحوا بما ليس لهم،
وأنكروا حقاً عظيماً للإسلام عليهم.
حتى بالنسبة إلى الحقل المتواضع من الحريات الموجودة في بلادهم، فإن
هذا أيضاً يعد من بركات تموجات وإشعاعات رسول الله محمد وأهل بيته
الأطهار(صلوات الله عليهم جميعاً) الذين جاؤوا لهداية البشرية وإخراجهم
من ظلمات الجهل، ومن إصر الاستبداد والأغلال، إلى الحرية والنور، كما
قال ربنا سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ)[22]
والحديث في قاعدة (الإلزام) وفي المقطع الأول من السورة،طويل لكن
هذا المقدار يلقي بعض الضوء على الحديث بما تسعه هذه العجالة.
إذن الجزء الأول من الآية الشريفة، يرسم بعض تلك العلاقة بيننا
وبينهم وأن (شؤونهم)، في داخل دائرتهم، (المرجع) فيها دينهم لو شاؤوا،
وإن كافة ما يرتبط بهم، منسوباً إلينا، وفي ظل حكومتنا، فإنه يدور في
دائرة (قاعدة الإلزام).
أحسن الرفض، كما تحسن القبول
إن الشطر الثاني من الآية الشريفة (وَلِيَ دِينِ) تعني إنه كما أن
لك دينك، فلي ديني أيضاً، فلا يحق للطرف الآخر أن يقحم نفسه، وأن يتدخل،
محاولاً بذلك أن يتلاعب بالمعتقد، أو بالتشريع.. وهنالك قاعدة مهمة جداً
تقول: مَنْ لا يحسن أن يقول: لا، لا يُحسن أن يقول: نعم..
على الإنسان أن يمتلك الجرأة بأن، يقول: (لا) للغربي الذي يستهزأ
بالشعائر الدينية.. دعه يستهزأ، ولا يصح أن يكون استهزاؤه بالشعائر
الدينية، سبباً للتنازل، وتقديم الامتيازات.. كلا.. فإن الغربي أو
الشرقي قد يستهزئ بالكثير من القوانين الدينية، أو الشرعية أو ما أشبه
ذلك، فعلى المرء أن لا يضعف وفي مضمون الحديث (إن الله يحب المؤمن
القوي ويكره المؤمن الضعيف)[23].
المثال: وعلى سبيل فإن (الحجاب) من الواجبات، قال تعالى (وَإِذَا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ
أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[24]، فهل لو استهزئ العلماني
أو غيره بالحجاب أو عده رجعية وتخلفاً، عليّ أن أتراجع؟
مصافحة أو مفاكهة المرأة الأجنبية
كما أن مصافحة المرأة الأجنبية مُحرمة شرعاً، كذلك لا تصح مُفاكهة
المرأة الأجنبية، ولا يحق للمسلم ذلك، كثير من الشباب أو غيرهم في
جامعة شرقية، أم غربية للأسف يهملون هذه الأحكام التي جائت لهندسة
العلاقة بين المرأة والرجل درءً للانحراف والفنتة، وذلك لأن الغرب فرض
مع الأسف ثقافته الانحلالية فرضاً، هذا يُحس بالضعف.. إذا تعامل مع
المرأة من منطق إسلامي، من منطق الحجاب، والحشمة، والعفة.. ويتشبث
لتبرير ضعفه واستسلامه بأنه ربما تلك المرأة، أو تلك المدرسة أو
الجامعة أو الإدارة، تسيء به الظن، أو تسيء النظرة للإسلام والمسلمين!!
ولكن.. المقياس شرعاً وعقلاً هو (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ديني
أعطاك الحرية، وأكثر مما أنت تعطيني من الحرية، فلماذا تتدخل في شؤوني
الخاصة؟
لاحظوا هذه الروايات التي أقرأها على عجل من كتاب (الفقه)[25] كتاب
(الآداب والسنن المجلد السابع والتسعين) للوالد (قدس سره)، يقول: عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: ومن صافح امرأة حراماً جاء
يوم القيامة مغلولاً ثم يؤمر به إلى النار
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، ومن فاكه - أي تمازح مع - امرأة
لا يملكها حبسه الله بكل كلمة كلمها في الدنيا ألف عام..[26] وأي عاقل
يرجح عذاب النار وسخط الجبار على أن لا يُستهزأ به؟!
كما لك عظيم الأجر، عليك عظيم الوزر
ولعل تساؤلاً ينقدح هنا واستغراباً إذ يمكن أن يستغرب البعض من هذه
العقوبة وأمثالها، لكننا نقول: لماذا لا يستغرب في شأن الثواب؟ فإننا
إذا قلنا له (فلان عمل بسيط) له كل هذا الثواب يفرح، ولا ينكر أو يعترض..
فلماذا الإعتراض هنا؟.. إنه يوجد في مقابل ذاك الثواب، هكذا عقاب أيضاً..
فمثلاً روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من قال
لا إله إلا الله كانت له شجرة في الجنة).[27] وشجر الجنة، الورقة
الواحدة منها، أكثر ثمناً وقيمةً من الدنيا بما فيها..
وهذه كلمة واحدة فقط ولها هذا الأجر العظيم، وإنك إذا قلت باليوم
ألف مرة (لا إله إلا الله) وما أبسط ذلك فإن ذلك يعني أنك عمرت لنفسك
بستاناً ضخماً جداً، ومَنْ بالدنيا يحصل على مثل هذا الأجر؟ ومن قال
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، كانت له شجرة
في الجنة.. ولعله ورد أيضاً (ومن قال اللهم صل على محمد وآل محمد كانت
له شجرة في الجنة)[28]
فكما يوجد هنالك في جانب المثوبات ذاك الأجر العظيم، وكما أن
الإنسان لو أطاع الله سبعين سنة مثلاً، فإن الله سيخلّده لما لا يحصى
من السنين في النعيم المقيم.. فكما ذلك، كذلك فإنه مقابل هذا الثواب،
يوجد ذاك العقاب وإذا كان ذاك صحيحاً كان هذا صحيحاً أيضاً؛ وإذا كان
هذا غير صحيح فإن ذاك غير صحيح كذلك تماماً.. ومن فاكه امرأة لا يملكها
حبسه الله بكل كلمة كلمها في الدنيا، ألف عام..[29] دع الغربي أو
الشرقي يستهزأ.. لكن ليرضَ الله عنك.. ولتحصل على ضمانة من ذلك العقاب
الأليم.
ثم مَنْ هي هذه المرأة؟ أو ذاك الإنسان الغريب؟ أو رئيس الجامعة؟
حتى أخشاه ولا أخشى الله؟ فليطردوني من الجامعة فرضاً أو من العمل؛ (قُلِ
اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)[30]، لا عليك
بالآخرين وبما يعطون أو يمنعون، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء
وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ
عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[31]
فلتُحرم يومين من الرزق، لكن الله سيعوض بما لا يحصى كماً، وكيفاً،
وجهةً.
ثم لو لم تخف الله وجاملت غيره أو خفته، فقد يبقى لك رزقك وظيفتك
ولكن.. غداً -لا سمح الله- قد تصطدم بك سيارة جزاءً من الرب على الذنب
فتخسر ما ربحت، وأضعاف أضعاف ذلك تخسره أيضاً، أو قد تخسر زوجتك بنزاع
عنيف ثم بطلاقٍ موجع.. أو تخسر ابنك لتجده في أحضان الفساد والمخدرات
ثم السجون والفضيحة والعار.. وأنت لا تعلم إن ذلك جزاء من الرب لخوفك
من غيره واستخفافك بأحكامه ولو بألف دليل ودليل.
يمازح امرأة فيعاتبه الإمام
وفي رواية أخرى عن أبي بصير، قال: كنت اُقرئ امرأة كنت أعلمها
القرآن فمازحتها بشيء - ولعله كان مزاحاً بسيطاً جداً خاصة وهو يعلمها
القرآن- فقدمت إلى أبي جعفر (عليه السلام) أي الإمام الباقر، فقال: أي
شيء قلت للمرأة (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ)[32] فغطيت وجهي، لقد ذاب خجلاً من الإمام فغطى وجهه.
الإمام الآن هو الإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) وهو
الحاضر الغائب.. وهو الذي ينظر إلى أعمالنا، إلى أقوالنا، وإلى قلوبنا،
ليس فقط (الأعمال) تُعرض عليه كل خميس وكل اثنين، بل دائماً الإنسان
بمحضر الإمام (عجل الله فرجه الشريف)، فكيف -لا سمح الله- ينظر نظرة
مريبة إلى امرأة أجنبية، أو يُفاكه، أو يُمازح؟ لماذا؟ لمجرد أن حضارة
أخرى لها بعض الغلبة الظاهرية على الكرة الأرضية تستهجن الاحتشام، أو
تستنكره؟ أو ترمينا بالرجعية، أو الجمود، و(الحق أحق أن يتبع)[33]..
يقول الراوي: فغطيت وجهي، فقال (عليه السلام): لا تعودن إليها..[34]
لا صراع ولا اندماج
والخلاصة: إن الآية الشريفة: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) تحدد
لنا المعادلة التي ينبغي أن تتحكم في العلاقة بين الإسلام والأديان
الأخرى، ونفهم منها أن العلاقة ليست علاقة الاندماج، أو الذوبان، ولا
علاقة تنازل، أو تسامح ومهادنة وتهاون، ولا هي من جهة ثانية إذا بقينا
في إطار هذه الآيات الشريفة علاقة صراع عشوائي كلا.. وإنما المعادلة: (لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)..
ونؤكد مرة أخرى: إن الآيات القرآنية الشريفة ترسم (حدوداً) بين هذه
الحضارات، فلا صراع، ولا اندماج، ولا ذوبان، ولا ينبغي أن يكون هنالك
تنازل ولو حتى قدر قُلامة ظفر، بل يجب (الجهر) أيضاً بتلك الحدود كما
أعلن سبحانه وتعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ
مَا تَعْبُدُونَ)..
فيجب أن تُعلن ذلك، ليعرف الطرف الآخر أنك ميئوس منك أن تتراجع، أو
تستسلم، أو تتنازل عن أي مبدأ، أو أي تشريع، أو قضية أصلية كانت أم
فرعية، عامة أم خاصة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ
مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا
أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ ﴿5﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿6﴾)، وللحديث تتمة نتطرق
لها في الأبحاث القادمة إن شاء الله تعالى..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله
الطاهرين..
.................................................
* فصل من كتاب بحوث في العقيدة والسلوك
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و
التوزيع
وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى
الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية)
ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض
بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على
جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام
الدراسي.
** للإطلاع على باقي فصول الكتاب:
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm
................................................
[1] (الكافرون:6)
[2] البحار للشيخ المجلسي: ج82، ص40.
[3] الفرق بين (التواتر الإجمالي) و(التواتر
بالمضمون) إن الأول يراد به القطع بصدور إحدى الروايات المتعددة
الواردة حول أمر ما، والثاني يراد به القطع بالمضمون والجوهر رغم
اختلاف الروايات بالتفاصيل.
[4] وقد تحدثنا عن هذا المضمون بالتفصيل في كتاب (شعاع
من نور فاطمة) فليراجع.
[5] البحار للشيخ المجلسي: ج91، ص63، وفيه روايات
كثيرة جداً في الباب..
[6] إذ حقوق الإنسان لابد من تسديدها وأداءها كشرط
للمغفرة.
[7] (النساء:48)
[8] البحار: ج18، ص202.. وهي قول الحبيب
المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) لقومه في بداية الدعوة المباركة..
[9] ينابيع المودة للقندوزي الشافعي:ج1 ص375..
[10] (نوح:12)
[11] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ
الصدوق:ج1 ص145..والقصة معروفة وأشهر من نور على علم..
[12] (البقرة:256)
[13] أي فيما لو عصى وطغى وخالف فإنه يعاقب.
[14] (الأحزاب:72)
[15] الوسائل للحر العاملي:ج17 ص598..
[16] (التوبة:33)
[17] وحاصل المعنى على هذا سيكون: (لَكُمْ
دِينُكُمْ) وهذا حكم ظاهري، وهو جواز عملكم بدينكم فلا تلزمون بغيره
جبراً وقسراً و (وَلِيَ دِينِ) وهذا حكم واقعي أي يجوز بالمعنى الأعم
الشامل للوجوب لي العمل بديني وقد يقال: اللام للاختصاص في المقطعين،
ويلزمه عرفاً: الجواز ظاهرياً أو واقعياً.
[18] إشارة إلى وجود إشكال بل أكثر في المقام،
ويترك لمظانه.
[19] الكافي للكليني:ج1 ص406..وفيه، قال (صلى الله
عليه وآله وسلم):مَن ترك دَيناً أو ضياعاً فعليَّ،ومن ترك مالاً
فلورثته..
[20] هو سماحة السيد المرجع آية الله العظمى السيد
صادق الحسيني الشيرازي(حفظه الله)..
[21] بحار الأنوار: ج28، ص4، ح5.
[22] (الأعراف:157)
[23] كنز العمال:ج1، ص115، وفيه (المؤمن القوي خير
وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).
[24] (الأحزاب:53)
[25] هو موسوعة (الفقه) أكبر موسوعة فقهية
استدلالية، بحيث تتجاوز مجلداتها الـ(150) من إبداعات الإمام
الراحل (قدس سره).
[26] الوسائل للحر العاملي:ج20 ص198.
[27] راجع ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص3، والرواية
طويلة..
[28] مستدرك الوسائل: ج5، ص349، ح6060. وفيه (من
قال اللهم صل على محمد وآل محمد، أعطاه الله أجر اثنين وسبعين شهيداً).
[29] الوسائل للحر العاملي: ج20 ص198..
[30] (الأنعام:91)
[31] (آل عمران:26)
[32] (ق:18)
[33] (يونس:35)
[34] الوسائل للحر العاملي:ج20 ص199.. |