العقل السياسي العراقي بين التوافقية والتوفيقية

علاء الخطيب

التوافق كلمة ٌ سحرية ومصطلح راج رواجا كبيرا ً في العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري، وأصبح ميزة ملازمة لسلوكيات العقل السياسي العراقي، ولعل الظرف التاريخي هو من فرض هذا النوع من السلوك السياسي أو أنه ضرورة لبلد كالعراق متعدد الاعراق والطوائف، وقبل أن نسبر أغوار الموضوع علينا أن نتعرف على معنى التوافق والتوفيق كمصطلح عام ثم كمصطلح سياسي أي في الحياة .

التوافق :مصطلح تتنوع معانيه ودلالاته ومجالات استخدامه بفعل تنوع الفنون والعلوم وهذا ما نجده في قاموس كاسيل الجديد(Cassel’s new English dictionary) فالتوافق في الموسيقى: علم الاصوات وتعدد ذبذبات الصوت الرئيسي ويسمى بـ (الهارموني).

في الادب: توافق وجهات النظر والمشاعر وتعني في الادب ايضاً عمل نثري يوضح التوافق بين مقاطع متوازية ومتقابلة عند المؤلفين.

في الفلسفة: العلاقة التي خلقها الله بين الروح والمادة.

في الحياة: الوفاق والعيش في سلام وتآلف.

 و الذي يعنينا هنا هو المعنى الأخير أي التوافق في الحياة الذي تحول الى مصطلح سياسي والذي يعني الاتفاق أو التعهد بين طرفين أو أطاف متعددة على شروط معينة لما تقتضيه مصالحهمأو بمعنى آخر هي الوصول الى حل يرضي الجميع وقد لايقنعهم فحين تطلب في قضية مشتركة بينك وبين الآخرين حقا ً بنسبة 100%وتعطى نسبة الـ 60% ((فتوافق)) أي ترضى وإن كنت غير مقتنع .وهو وصول الى صيغة مقبولة, فالتوافق حاله من العلاقات المتجانسة مع الواقع لتحقيق المتطلبات العامة، أي سلوك مسلك الجماعة, فالتوافق هو عملية ديناميكية مستمرة يحاول بها الإنسان الوصول إلى حالة من الاستقرار النفسي والبدني والتكيُّف الاجتماعي.

أما التوفيق : هو عملية نجاح وإنتصار بقضية ٍ ما أي عندما يكلف الإنسان بعمل ما يسعى بكل بجهد من أجل إنجاح العمل وإنجازه بالصورة الدقيقة أو شبه ذلك، أي تتوفق، وهذا ما يتحدث عنه القرآن الكريم بقوله ( وما توفيقي إلا بالله )أي أن نجاحي مربوط بما أوكله الله لي من مهمام في هذه الدنيا المتعلقة بمشيئته وإرادته.

فالفرق بين التوافق والتوفيق واضح، فالتوافق إختيار عقلاني معتمد على الحوار والتواصل وهو بين مجموعة من الخيارات بين مجاميع متباينة ومختلفة في الرؤى حول موضوع معين, ويمكن تسميته بصيغة العيش المشترك التي يفرضه الواقع الإنساني المتنوع والمختلف أو مقاربات في الرؤى والأفكار.

 أما التوفيق فهو إرادة ذاتية او جماعية معتمدة على القدرات والإمكانات المتوفرة لدى الفرد أو الجماعة, وهو سعي دؤوب نحو تحقيق النجاح والفوز في قضية ما. فالتوفيق يقابله الخذلان أم التوافق فيقابله الإختلاف. بعد هذا العرض الموجز لتعريف المصطلحين والفرق بينهما وهو بمثابة تعريف القارئ فقط. أعود الى التوافق والتوفيق في العقل السياسي العراقي.

 ترددت وتتردد كلمة "التوافق" في الحياة السياسية العراقية وتصريحات المسؤولين. وبالطبع, فأن لهذه الكلمة معنى جميلا محببا, يوحي بالتقارب ونبذ الخلافات وسيادة روح التفاهم, بل ان التوافق اكثر الفة من التفاهم. وهكذا ايضا بدا المسؤولين المذكورين كلما تحدثوا عن "التوافق."حتى أن البعض منهم قال أن اعتماد الاراء والمقترحات في القرارات لن يكون على اساس التصويت, لذا فان العدد غير ذا اهمية حيث سيكون الاساس هو التوافق, وقال الآخر إن الحل الوحيد يكمن في التوافق السياسي واستمرار الحكومة ببرنامج توافقي حتى النهاية وقال ثالث ان جميع قرارات الهيئة ستكون بالتوافق وليس بالتصويت, ورأي لزعيم كردي كبيرحول الدستور, قال: ضرورة أن تكون كتابة الدستور على أساس "التوافق،أما رأي زعيم كبير فاز بالانتخابات مؤخرا ً فقد أعتبره حلا لـ ((مشكلة الاغلبية والاقلية)).

 من خلال إستعراض بعض آراء السياسيين العراقيين رأينا أن هذا المصطلح يتمتع بشعبية وتأييد واضحين من قبل الساسة العراقيين من مختلف القوميات والطوائف والاحزاب, ولم اقرأ او اسمع ان احدا شكك به, فما هو بالضبط, وهل لنا ان نتفاءل باختياره طريقا لبناء العراق وتقدمه ؟

في الحقيقة أن التوافق في العقل السياسي العراقي فرضته الظروف الديموغرافيا العراقية والتنوع العرقي والديني وهو حل عظيم لبلد كالعراق وهو بذات الوقت تعامل حضاري مع مشكلة الحكم والسلطة, ولكن الذي حدث هو ان هذا المفهوم تحول الى مفهوم آخر في العقل السياسي وهو مفهوم المحاصصة بدلا ً عن التوافق, لذا رأينا العقل السياسي الحاكم في الشارع السياسي العراقي تخبط بين التوافق وبين المحاصصة, ولربما استخدم التوافق للتوفيق في مهمة السيطرة على الحكم أي النجاح في الوصول الى السلطة.

وهنا اصبح التوافق مجرد مصطلح مفرغ من أي معنى، لو امعنا النظر, لم نجد لـ"التوافق" من معنى غير الفراغ ...الفراغ من اي مؤشر الى وجود اي نوع من الاتفاق على اسلوب او خطة عمل لتجاوز اي خلاف؟ التوافقات ليست الا حلا وسطا لمصالح مختلفة واراء مختلفة. ما يحتاجه الفرقاء كأسلوب للعمل, هو ما يريهم الطريق الى الوصول الى قرار عند الاختلاف. وبما ان "الخلاف" امر طبيعي لامناص منه لاي تجمع, فما يحتاجه الناس هو اسلوب لـ (ادارة الخلاف)أي الى التوافق وليس الى التوفيق فالشعب الذي فرح بثورته البنفسجية وبأنجازه التاريخي في بناء الديمقراطية و غامر بحياته وتحدى الارهاب لينتخب لايمكن ان نجعل مستقبله رهينة التوفيق ( افوز بالسلطة ) فقط لطرف ما على حساب الطرف الآخر, ليست هذه حال شعب اخذ مقدرات مصيره بيده, كما يفترض ان تكون الديمقراطية.

دعوا الناس تتفاءل ... فـ"التوافق" حل رائع, بشرط ان لاتكون هناك اية مشكلة يتوجب حلها, وأن لا تتحول التوافقية الى التوفيقية وبمعناها السلبي وهو الانتصار على الآخر وليس مشاركة الآخر، والحقيقة, ان العقل السياسي العراقي لا زال يتخبط بين هذين المصطلحين، فالتوافقية لدى البعض هو الغاء الآخر والانتصار عليه, ولدى البعض الآخر هي قنطرة للعبور الى السلطة رغم أنها أنشودة على لسان الجميع لكنها ذات الحان متعددة او لنقل توزيع موسيقي مختلف . فالتوافق فعل عقلاني حضاري لمجتمعات متعددة الأثنيات والطوائف وحل ناجح لها.

* كاتب وإعلامي

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/أيار/2010 - 5/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م