الكتاب: مصنع الآفاق المعاصرة

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

 

شبكة النبأ: منذ زمن ليس بالقريب تنبّه المصلحون الأفاضل الى الاهمية القصوى التي ينطوي عليها الكتاب ودوره الذي لا يمكن التغاضي عنه في تطوير الوعي الفردي والجمعي في آن ونقل المجتمع من حالة النكوص والتردي والتيه الى حالة الاتقان والاقدام والمعاصرة، وهو أمر لا يختلف عليه من يهدف الى الارتقاء بأمته او شعبه.

وإذا كانت غريزة الصراع لدى الانسان غالبا ما تحيد عن إحقاق الحق وتميل الى تفضيل الذات على الآخر بغض النظر عن الصحيح او الخطأ، فإن الكتاب والكتابة جاءا لكي يقفا الى جانب الحق الانساني حيال الظلم والطغيان والتنمّر من خلال كشف الحقائق وتنوير العقول الغافلة وترصين الوعي البشري كي ينتقل الانسان من حالة التردي الى حالة افضل وافضل وصولا الى الرقي الانساني المطلوب.

ومن المصلحين الاجلاّء الذين تنبّهوا الى الأهمية الكبيرة للكتابة والكتاب هو المرجع الديني الراحل الامام المجدد الثاني السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) وقد ألقى ضوءاً وفيرا على هذه الأمر الهام لاسيما في كتابه القيّم الموسوم بـ (الكتاب دعامة الحياة) حيث اكد فيه على دور الاسلام ونشره للكتابة والعلم بين المجتمع العربي آنذاك وقد قال الامام الشيرازي في هذا المجال:   

(عندما بزغ نور الإسلام في أطراف الجزيرة العربية تغيّر الكثير من أُمور المجتمع الجاهلي الذي كان غارقاً في أوحال الضياع، فبعد أن كان الجهل مخيّماً على عقول الكثير من الناس تخرّج من نفس ذلك المجتمع الكثير من العلماء الذين حملوا رسالة الإسلام وأوصلوا مبادئه إلى أقصى أطراف العالم.

بل إنّ نفس المجتمع الجاهلي الذي لم يكن يتجاوز عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة فيه عدد الأصابع أصبح من خيرة المجتمعات في الثقافة والوعي).

إذن مهمة الكتابة نشر الوعي ومهمة الكتاب أن يكون الحاضنة التي تصل بالافكار الى أذهان الناس لكي تتنامى بينهم وتُسهم في بناء الشخصية الواعية القادرة على الانتاج الأمثل في المجالات المادية والروحية وغيرهما، وكلنا يعرف بأن هناك فوائد جمة يقدمها لنا الكتاب، ومن بينها كما ذكر الامام الشيرازي في كتابه نفسه:

(نشر الفكر من خلال الكتاب إذ يستطيع الإنسان من نشر فكره وعقيدته ورأيه وإيصالها إلى الآخرين في مختلف أنحاء العالم خاصّة إذا لاحظنا سهولة انتشار الكتاب في العصور الأخيرة. ومن فوائد الكتاب حفظ التراث، حيث إنّ الكتاب يحفظ التراث ويصونه من التحريف والتزييف).

ولعل الهدف الأسمى للكتاب كما ورد آنفا وقوفه الى جانب الحق الانساني لاسيما في مجال مقارعة الطغاة، الامر الذي يؤدي الى تقديم ضحايا كبيرة ازاء نشر الفكر القويم وإيصاله الى اكبر عدد من الناس، ولهذا نشأت العداوة الأزلية بين الحكام الطغاة وبين أهل العلم من العلماء وأصحاب التنوير البشري الذي قدموا الغالي والنفيس من أجل أن يقولوا كلمة الحق ويصلوا بها الى أبعد الآفاق وأوسعها، بل لطالما فقد هؤلاء التنويريون أرواهم واملاكهم وأفراد عوائلهم بسبب أفكارهم الانسانية الرائدة واصرارهم على فضح الظلم والطغيان من دون تردد او خوف، لهذا كانت التضحيات كبيرة بل وكبيرة جدا إذ يقول الامام الشيرازي (رحمه الله) بكتابه نفسه في هذا المجال:

(ممّا يؤسف له حقّاً أنّ المسلمين اليوم لا يعرفون قدر التضحيات العظيمة والمعاناة الشديدة التي قدّمتها الأجيال السابقة من أجل حفظ الكتاب وإيصاله لمن بعدهم .. فقد عانى المسلمون سابقاً الكثير من المشاكل حتّى أوصلوا لنا هذا التراث الضخم، وقد جرت من أجله الكثير من الدماء الزاكية وقدّمت الأموال الطائلة حتّى حفظ لنا هذا التراث بهذه الدقّة والمتانة).

فلم يكن الامر نزهة او دعابة يقدم عليها العالم او المفكر او الكاتب حين يصر على إيصال أفكاره الى عامة الناس، بل غالبا ما كانت الخسائر التي يتعرض لها هؤلاء جسيمة، تبدأ بمطاردة الطغاة لهم ولا تنتهي  بما يسرّ الناس في كثير من الاحيان، يقول الامام الشيرازي بهذا الصدد:

(بين الفترة والأُخرى كان التراث الإسلامي في مكتبات المسلمين الضخمة يتعرّض لحملات المغرضين والمناوئين الذين كانوا يترصّدون المسلمين ويطاردونهم في شتّى أنحاء العالم. لقد تآزرت الحكومات الظالمة عبر العصور المختلفة واتّفقت على محاربة الكتب التوعوية التي ترشد الشعوب وتوقظهم من غفلتهم).

ومع ذلك لم ينهزم الفكر الانساني القويم ازاء تلك الحملات الظالمة التي كانت ولا تزال تُشَن ضد من يتقدم الركب في هذا المجال، إذ نرى ونسمع ونقرأ في كثير من الاحيان دعوات حقيقية ترفض الرقابة على الفكر، بل ينبغي أن يظل هذا الهدف هاجسنا جميعا، فلا عودة الى الوراء ولا قبول للرقابة على توعية الناس، ويقول الامام الشيرازي في هذا الصدد:

ينبغي (إلغاء الرقابة من بلادنا، كما يلزم أن تتسلّح الأُمّة بالوعي الكامل حتّى تستطيع أن تواجه الانحراف.

وثمة من الوسائل التي استخدمتها الحكومات الديكتاتورية للتخلّص من الكلمة المكتوبة وإبقاء الشعوب على جهلها وتخلّفها هو وضع الرقابة على وسائل الثقافة والإعلام، وعلى الخصوص الكتاب، الذي يعتبر سلاح الشعوب في مواجهة الاستبداد).

وهكذا يتطلب الامر تعاضدا جماهيريا ونخبويا من اجل رفعة الكتاب وحمايته والاحتماء به في آن كونه وسيلة الدفاع والهجوم الأقوى ضد الحكام الجهلة الذين لايرون في هذه الدنيا الواسعة سوى مصالحهم الآنية الدنيوية القاصرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 27/نيسان/2010 - 12/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م