الهوية في ظل ثقافة العولمة

مرتضى بدر

سلطة الأسواق تتوسع عالمياً، والمعلومات تتدفق وتخترق الحواجز الحدودية للدول، والتجارة القارية تنمو وتسير بصورة ديناميكية هائلة، وتكنولوجيا الاتصالات تهيمن وتقدم البديل للصورة النمطية السائدة لكل شيء في عالمنا العربي والإسلامي.

فوضى المعلومات أخذت تربك العالم، وتترك تأثيرها في الثقافات والهويات، والبشرية شاءت أم أبت قد دخلت مرحلة المخاض العسير، والنقاشات اليوم تدور حول الهوية الكونية، ومن سيتحكم في صيرورة الثقافة الجديدة، هل هي الولايات المتحدة صاحبة الثقل الأكبر اقتصادياً وتقنياً أم مجموعة من الشركاء الغربيين؟

في المقابل، الحركة المناهضة للعولمة بجميع أشكالها، خاصة العولمة الثقافية أخذت تنشط في مختلف القارات، خاصة في العالم العربي والإسلامي وفي بلدان أميركا الجنوبية. الاحتجاجات والاعتراضات ضد حركة العولمة بعضها مشروع، وكثير منها غير مبرر؛ لأنها عاطفية وغير عقلانية.

لا شك أن فكرة العولمة انطلقت من منظور اقتصادي في بداية الأمر، ولكن حينما رافقها الانتشار الواسع لتقنية الاتصالات والمعلومات (الانترنت، الهاتف النقال، القنوات الفضائية)، وتوسعت من خلالها التجارة الالكترونية والإعلانات التجارية، وتقلصت المسافات بين الشعوب، أخذت ثقافة جديدة تتشكل وتتبلور... ثقافة محورها الاستهلاك والتواصل والمعرفة.

هذه المحاور الثلاثة من دون شك تؤسس لهوية جديدة، وليس من الضرورة أن تعمل على هدم الهويات القائمة أو طمسها. نعلم أن كل حضارة وهوية وثقافة تحمل بداخلها عوامل الصعود والسقوط، والانتشار والانعزال، والقبض والبسط. وفي نفس الوقت نعلم أن القويّ في زمن العولمة هو من يفرض ثقافته؛ لأنه يتمتع بقوة الإنتاج والمال والإعلام. صحيح أن هذا القوي – النظام الرأسمالي- ينطلق بدافع الربح، ويبحث عن الأسواق في مختلف القارات، إلا أنه يترك ثقافة الاستهلاك في المجتمعات المستهلكة. ونظراً لكوننا مستهلكين ولا نملك ما نروجه للعالم؛ فإننا نبحث بطبيعة الحال عما هو جديد وجميل، وما هو بديل عن المنتج المحلي السائد. ليس بالضرورة أن يكون المنتج بضاعة استهلاكية، بل أحيانًا يكون في صورة منتج فكري أو ثقافي، أو تجارب سياسية واقتصادية واجتماعية للشعوب، والناس عادة ما يبحثون عما هو جديد ومبهر وأنيق وجذاب، وما يلبي طموحهم؛ لذا قد يعتبر البعض أنّ الخطورة في العولمة تكمن في نقل تجارب الشعوب الأخرى والتأثر بثقافاتها! هذه الخطورة حسب اعتقادي غير منطقية، ولا تتلاءم مع المصالح والمنافع التي تبحث عنها المجتمعات البشرية.

 المفكر (برهان غليون) يرى أن خضوع الثقافة لقوانين السوق “ليست كلها بالضرورة ظاهرة سلبية”. المتابع والمراقب للحركة الثقافية والسياسية في عالمنا غير المنتج قد يتساءل: هل الشعوب في العالم الثالث تواجه أزمة حقوق ثقافية في ظل العولمة؟ وهل الهويات الوطنية قادرة على الصمود والمقاومة في مواجهة طغيان العولمة وثقافتها وآلياتها؟ في المقابل، هل كل ما في ظاهرة العولمة سلبي أم إن هناك جوانب أخرى إيجابية لم نطلع عليها؟

باعتقادي، إننا يجب ألا يسيطر علينا الخوف والفزع من ظاهرة العولمة، التي هي معرضة كأي ظاهرة اجتماعية للنجاح والفشل، والمد والجزر، فمجرد الخوف من أي ظاهرة جديدة على الهوية يدل على وجود ضعف وخلل في الهوية نفسها؛ ولذا نجد كيف يسارع القائمون في حقل الثقافة والسياسة والإعلام لبناء حصون وخنادق من أجل الدفاع والتصدي لما هو قادم من وراء الحدود.

وهل يمكننا الوقوف في وجه كل ظاهرة إنسانية؟ وهل أسلافنا تمكنوا من الصمود أمام حركة التاريخ؟ والأهم من ذلك كله لماذا لم نبادر بتغيير واقعنا المزري ومن ثَمّ تكييف أنفسنا مع متطلبات العصر؟ وإلى متى سنظل متوجّسين من أي ظاهرة عالمية جديدة؟ سوف يأتي يوم - ربما ليس ببعيد - لا يتكلم فيه الناس عن الهوية القومية وحدود الدولة؛ لأن البشرية في المرحلة القريبة القادمة قد تجد نفسها منجذبة نحو ثقافة جديدة، التي قد تمهّد للاندماج في هوية كونية جديدة، قد تُسمّى حسب تعبير المفكر (محمد عابد الجابري) بهوية الكائن البشري.

لذا من الأجدر على مفكرينا وحكامنا أن يسعوا لنشر العلم وزيادة المعرفة بين الشعوب، بدلاً من الخوف على الهوية العربية والإسلامية، وتضخيم المخاوف من هيمنة الثقافة الغربية؛ وذلك حتى لا نبقى على هامش الحضارة البشرية الجديدة نقتات من فتات ما ترميه الشعوب المتقدمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 24/نيسان/2010 - 9/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م