فقه الدولة

بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

الشيخ فاضل الصفّار

1. خلاصة البحث

لاشكّ أن الدولة تشكّل أكبر وأخطر مؤسّسة في حياة البشر؛ ولذا يعدّ البحث فيها ودراسة أسسها وخصوصياتها الإنسانية والسياسيّة والتصدي لتأسيسها ضرورة حيوية.

بداهة أن الضرورة تقضي بوجوب قيام دولة تصون الحريات الفرديّة، وتوقف الناس على وظائفهم القانونيّة، وتحفظ النظام والانضباط العام في المجتمع لكي يصل كل انسان إلى حقه ويقوم بواجبه.

ومن هنا دعى الإسلام إلى تشكيل الدولة ووضع لها ضوابط وأصول تشريعيّة تجعلها متطابقة مع حاجات الإنسان وغاياته، سواء على صعيد نظام الحكم أو على صعيد وسائله وآلياته.

وكانت هذه الدعوة دليلاً على كمال الإسلام وقدرته الواسعة على استيعاب الإنسان في آماله وطموحاته.

وقد كانت ولازالت هذه المؤسسة الكبرى بحاجة الى مزيد البحث والدراسة لتكون أقدر على توفير العدل والأمن والرفاه، هذا الثلاثي الذي هو أهم ما يطمح اليه الناس في حياتهم اليومية من جهة، ولتضارب الآراء والمذاهب فيها من حيث القبول والرفض من جهة أخرى، فجماعة تصوّروا الدولة سيفاً مسلّطاً على رقاب الناس يظلمهم وينتهك حقوقهم، بينما نظر إليها آخرون على أنها ضرورة لا غنى للحياة الإنسانية عنها مهما مارست من سياسات واتخذت من غايات.

وكل منهما بالغ في نظرته إليها بحيث وقع في إفراط أو تفريط، الأمر الذي استدعى البحث في أصولها وموازينها الشرعية لتكون نظرتنا الى الدولة نظرة مقبولة ومعتدلة ومتوازنة تأخذ بإيجابياتها. وتتخذها طريقاً الى الكمال الإنساني وتتجنّب أضرارها. وهذا ما ستجده من خلال فصول البحث.

2.موضوع البحث

الموضوع الذي يشكّل المحور الأساسي لهذا البحث هو الدولة التي تقوم على أساس الإسلام في أصولها وأهدافها ونظام الحكم فيها.

من هنا سيتضمّن البحث تعريف الدولة وأركانها ثم بيان منشأ سيادتها وحدود هذه السيادة ومن ثم بيان سلطاتها وشكل النظام الذي تعتمده في الحكم من حيث تعدد السلطات أو وحدثها. وبعد ذلك تفصيل آليات الحكم ومرتكزات السياسة الداخلية والخارجية للدولة. هذه هي المحاور الأساسية التي تضمنها موضوع البحث وما بين هذه المحاور تتفرّع جملة من المباحث الأخرى التي لا تقل أهميّة عن الأولى تقتضيها ضرورة البحث، نظير شرعيّة الحاكم وخصوصيّاته وآليات اختياره وضمانات العدالة القضائية والتنفيذية ونحو ذلك.

وسنعتمد في تحرير هذا البحث على مصدرين أساسين:

أحدهما: ما ورد في الآيات والروايات ولواحقهما كالاجماع والعقل يتضمن الدلالة على الدولة ويشرح كيفية نظام الحكم فيها.

ثانيهما: تتبّع آراء المذاهب الفكرية المختلفة في ذلك سواء الاسلامية منها كالمذاهب الأربعة في قبال المذهب الإمامي، أو الوضعية ومناقشتها مناقشة موضوعيّة.

ومن هنا سيتخذ البحث جانب الحوار العلمي الهاديء ويوازن الآراء في ضوء الأدلة والتجربة والعلم.

3. أسئلة البحث

هناك طائفة من الأسئلة تثار هنا تدعونا الى الاجابة عنها في هذا البحث يمكن تلخيصها في سؤال أساس يقول: هل للإسلام دولة يدعو اليها ويحث المؤمنين على إقامتها؟ وتتفرّع عن هذا السؤال الأساسي مجموعة من الأسئلة الأخرى:

أوّلها: على أي مبدأ تقوم شرعية الدولة في الإسلام؟

ثانيها: ما هو شكل النظام السياسي والاداري في الإسلام؟

ثالثها: ما هو رأي الإسلام في الانتخابات الرئاسيّة والنيابيّة؟

رابعها: كيف يضمن الإسلام الحريات العامة وعدالة القضاء؟

خامسها: ما هي نظرة الإسلام الى التعددية الحزبية وحرية الصحافة والإعلام؟

سادسها: كيف ينظر الإسلام إلى الأقليّات الدينية والعرقية؟

سابعها: كيف ينظر الإسلام الى المرأة وحريتها في العمل السياسي والاجتماعي؟

ثامنها: كيف ينظر الإسلام الى التعدديّة السياسيّة والمعارضة وحكومة الظل؟

تاسعها: ما هي السياسة العامة للدولة الإسلامية وكيف يتم توزيع السلطات فيها؟

عاشرها: كيف ينظر الإسلام الى الديمقراطية وآلياتها في الحكم؟

هذه وغيرها من الأسئلة المطروحة اليوم سيجيب عنها البحث إجابة علمية متطابقة مع ضوابط الفقه وضرورات الحياة المعاصرة.

4. أهداف البحث

الأول: توازن الفكر السياسي في الأمة.

فمنذ القديم وقع الناس بين إفراط وتفريط في أمر الدولة والمشاركة السياسية فيها، فبعضهم صيّر الدولة نقيضاً للدين ونسي كل شيء دونها وكانت نتيجته أن صارت الدولة هدفاً بذاته يطلبه بأي ثمن حتى قال قائلهم لولده: إن الملك عقيم لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك، كناية عن القتل.

وبعضهم صيّر الدين هدفه الأول والدولة نقيضه، فاعتزل الحياة وقاطع الساسة وحرّم السياسة تصوراً منه أن الدين والدولة نقيضان لايجتمعان تحت سقف واحد.

وعلى أساس إفراط الأول ساد الظلم وأنحلّت الأخلاق والقيم وتشاطرت العالم قوتان فتاكتان هما: الاستبداد والإستعمار تراجعا بالإنسانية الى حياة الغاب وشريعتها.

وعلى أساس تفريط الثاني سادت الرذيلة وانتشرت مباديء الشيطان وتصدّى غير الصالحين لتولي أمور الحكم والسلطة.

وسنلاحظ من خلال البحث أنّ الاسلام أبطل كلا النظرتين وسار في طريق وسط يوازن بين الدين والدولة، والتقوى والسياسة ويعطي كلاً حقه.

الثاني: تكامل الفقيه والسياسي.

فهناك حاجة ضرورية لتلاحم السياسي بالفقيه من أجل بناء دولة كريمة يحكمها الحق ويسوسها العدل. وذلك لأنّ السياسي والفقيه كلاهما أهم ركنين تقوم عليهما الحياة الإنسانية، فتسعد بهما وتشقى بهما كما دلّت عليه الاخبار الشريفة.

ولايمكن أن تتحقق سعادة للأمة إلاّ إذا تكامل الفقيه والسياسي معاً فكان الفقيه عارفاً بالسياسة والسياسي فقيهاً أو متفقهاً وإن تنوّعت أدوارهما ووظائفهما وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلاّ بايجاد نموذج علمي يجمع بين مهمة الفقيه في التشريع ومهمة السياسي في التطبيق وهذا من أهم مهمات هذا البحث.

الثالث: رد الشبهات.

إذ يعتبر هذا البحث خطوة هامة في مجال الفقه الإستدلالي؛ لأنه يؤسس للدولة الشرعية على ضوء الكتاب والسنّة ويرسم معالمهما وأهدافها وسياستها.

وهذه مسألة هامة تكاد تكون مفقودة في الوسط العلمي والجامعة الدينية والأكاديمية اليوم فإنّ الكثير من المسلمين اليوم بحاجة الى معرفة رؤية الإسلام بالدولة، كما هم بحاجة الى معرفة شكل الدولة التي يقيمها الى جانب معرفة الفوارق بينها وبين الدول الاخرى التي تقوم على أساس القانون الوضعي.

وكنا ولازن نسمع ونقرأ عن آراء تنتقض من النظرية الإسلامية في الدولة ونظام الحكم. تارة بصورة النقد بدعوى أن الإسلام يفتقد الرؤية الى الحكم أو يعجز عن إدارة دولة يكي طموح الانسان وتارة بصورة حصر الإسلام بالعبادة والجهات المعنوية مع انها تشكل زاوية من زوايا الحياة وليست جميعها.

ونلاحظ أنّ كلا النظرتين مجانبة للصواب لأنّ الاسلام دين الله الكامل ولايمكن أن يكون الدين كاملاً إلاّ اذا استوعب كل الحياة بمالها من شؤون سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها.

ومن الواضح أن بعض هذه الآراء المنتقدة ناشئة من الجهل وبعضها ناشئة من التجاهل من أجل مصالح سياسية واستعمارية معروفة وفي كلا الحالين وجب علينا أن نرد هذه الشبهات ونرسم الصورة الواضحة للدولة الإسلامية لتكون تعليماً للجاهل وجواباً للمتجاهل.

5. تاريخ البحث.

على الرغم من أنّ الدولة الاسلامية ولدت منذ ولادة الإسلام في بداية عصر النبوة حيث أسس رسول الله صلى الله عليه وآله دولة عريضة وشكل نظاماً للحكم عيّن فيه الأمراء والقادة والقضاة ووزع العدالة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

كما ورد التنصيص على الدولة الشرعية التي يتطلع اليها المسلم في العديد من الروايات والأدعية الشريفة كما أن آخر ما وعدالله سبحانه المؤمنين في الدنيا هو قيام دولة العدل الآلهي في ظل وليّه الأعظم الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه الشريف.

على الرغم من كل ذلك نلاحظ أن وجود بحث علمي وفقهي عن دولة الإسلام يستوعب جوانيها الادارية والسياسية يكاد يكون نادراً ولعل السرّ في ذلك يعود الى أسباب عديدة:

منها: قلّة الوعي الذي يستولي على حياة المسلمين بما أفقدهم الإحساس بأهمية هذا البحث ودوره الكبير في حياة الناس.

ومنها: استيلاء الاجانب على بلاد المسلمين حيث منع من تطبيق أحكام الاسلام في الدولة والمجتمع وقلّل من شأن مثل هذه المباحث.

ومنها: تولّي الحكومات المستبدة شؤون المسلمين حيث منع العلماء وأهل النظر من البحث في هذه المباحث الهامة خوفاً من الأذى والظلم.

نعم تعرّض بعض الفقهاء الى بعض مسائل الدولة والحكم في رسالة موجزة نظير قاطعة اللجاج للمحقق الكركي قدس سره من المتأخرين والميرزا النائيني قدس سره في كتابه تنبيه الأمه من المعاصرين.

وبعضهم اكتفى بالاشارة الى بعض هذه المسائل استطراداً في بعض الابواب الفقهية المتداولة مثل كتاب الجهاد والقضاء والقصاص والديات واحياء الموات والمكاسب الاّ انّ هذا لم يشف الغليل ولم يداو العليل من مباحث هذا المجال المهم جداً في حياة الناس.

نعم تناول بعض الفقهاء المعاصرين مباحث الدولة بشيء من التفصيل في اكثر من كتاب ولعل الله سبحانه يجعل بحثنا هذا خطوة اخرى مكملة في الطريق ونسأله عزّ وجل أن يقيّض علماء وباحثين يتحملوا هذا العبأ ويشبعوا الأمر بحثاً ودراسة.

6. فرضيّات البحث.

إنّ الدولة ضرورة إنسانية لاغنى للمجتمع البشري عنها.

إنّ للاسلام مذهباً في الدولة يغاير المذاهب الاخرى.

إنّ نظام الحكم في دولة الاسلام أكمل نظام يلبي آمال البشر ويستوعب مشاكلهم.

إنّ دولة الاسلام قادرة على الموازنة بين سلطات الدولة وإرادة الشعب.

إنّ دولة الإسلام لاتلغي الاديان والمذاهب المخالفة.

إنّ شرعية الحكم منحصرة بدولة الاسلام فلا شرعية لغيرها من الدول.

إنّ سياسة الدولة الإسلامية تجمع بين انسانية الاهداف ونزاهة الوسائل.

إنّ تركيبة نظام الحكم الاسلامي قائمة على احترام الآراء والتعددية السياسيّة.

7. خصوصيّات البحث

الخصوصيّة الأولى: التحديث والاصالة

إنّ ندرة من كتب في هذا البحث من العلماء والفقهاء أوجد صعوبة حقيقية فيه والذي زاد الأمر صعوبة أن من كتب في هذا المجال من الفقهاء لم يكتب مفصّلاً ومستوعباً لكل شؤون الدولة كما أن بعض من كتب مفصّلاً لم يكتب بلغة تتطابق مع لغة العصر في الكثير من الأحيان.

كما أن من كتب من الجامعيين فقد كتبه على ضوء النظريات الوضعية ولم يكتب برؤية اسلامية تستوفي حاجة المجتمع الإسلامي ومن هنا اضطررنا في هذا البحث الى أمرين:

أحدهما: تحديث بعض المفاهيم التي تعرّض لها الفقهاء الأعلام في كتبهم الفقهية وصارت لسبب وآخر بعيدة عن لغة العصر.

ثانيهما: تأصيل الكثير من المفاهيم والإصطلاحات التي تعدّ اليوم من الضرورات التي تقوم عليها الدول والحكومات نظير: الانتخابات والمؤسسات الدستورية وفصل السلطات والاحزاب السياسية والمجالس النيابية ونحوها من مصطلحات تشكل مفرداتها المنظومة السياسية في العالم المعاصر وطابقناها على موازين الشرع الحنيف.

الخصوصيّة الثانية: المقارنة

فهو بحث استدلالي مقارن تعرّضنا فيه لمختلف الآراء والمذاهب إسلامية كانت أو غير إسلامية وناقشناها مناقشة موضوعية ملتزمة بشروط البحث العلمي الذي يوصل الى الحقيقة بايسر السبل.

الخصوصيّة الثالثة: وسطيّة الخطاب

إذ أردنا لهذا البحث أن يجاور طالب الحوزة وطالب الجامعة، ويقترب من الفقيه والاكاديمي معاً فلا يكون بحثاً فقهياً لايفهمه إلاّ فضلاء الحوزة المباركة ولا آكاديمياً محضاً يفأى عن لغة الفقه ومصطلحات الفقيه ولذا جاء مستنداً الى الاصطلاحات الفقهية والأصولية التي يستخدمها الفقيه في استنباط الاحكام الشرعية، كما يستند الى بعض المصطلحات السياسية المتداولة في الاوساط العلمية والحكومية اليوم وذلك ليكون متحدثاً بلغة الفقيه والسياسي معاً ووافياً بغرضهما معاً.

الخصوصيّة الرابعة: التتّبع والتحقيق

فلم نعتمد في نقل الآراء والأقوال ولا في استعراض الادلة والنصوص على النقل بل حاولنا أن نأخذها من مصادرها الأم ليكون البحث وافياً بشروط البحث العلمي الدقيق الذي يأخذ الحقيقة من مصدرها لا من أفواه الرجال.

ومن هنا كان المصدر الأساس الذي اعتمدنا عليه في اخذ الافكار والاقوال والأدلة العامة والخاصة بهذا البحث هو المكتبات العامة والخاصة.

* خلاصة بحث كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 22/نيسان/2010 - 7/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م