ثقافة الدولة الوطنية (القومية)... الهند مثالاً

مرتضى بدر

الهند بلد التناقضات... التسامح الاجتماعي والثقافي بجانب الظلم الاجتماعي والتمايز الطبقي... الفقر المدقع بجانب الغناء الفاحش... بيوت فخمة يفترش أمامها المشردون والحفاة... نخبة متخمة في مقابل ملايين لا يجدون قوت يومهم... سيارات فاخرة تشقّ طريقها وسط زحمة من العربات الخشبية والدراجات الهوائية والكثير من سيارات الأجرة الصغيرة المعروفة بـ (ريشكا)... المساجد والكنائس والمعابد الهندوسية وغيرها من المعتقدات المنتشرة في جميع بقاع الهند.

وقد تجد في بعض المدن والقرى دور العبادة تجاور بعضها البعض، بيد أنّ الأسئلة التي تراود ذهن أيّ زائر لهذا البلد العجيب، هي: كيف لا يعتدي الفقير على الغني؟ ولماذا لا يثور الفقراء على الأغنياء في بلد يقطنه مليار ومائتان مليون نسمة في الوقت الذي يعيش فيه ثلثا السكان بأقل من دولارين في اليوم؟ كيف انتشرت ثقافة التسامح والسلم الأهلي بين هذا الشعب؟ ما هي أسباب نجاح الديمقراطية الهندية؟ وما هي الخطوات التي اتبعتها الحكومات المركزية طوال العقود الستة الماضية لاحتضان الثقافات الفرعية ومحاولة صهرها في بوتقة ثقافة الدولة الهندية؟ وهل فعلاً انصهرت الثقافات الفرعية الهندية في ثقافة الدولة الأم؟

أسئلة محيّرة كثيرة تشغل بال كلّ متتبّع في شأن علوم الإنسانيات (الأنثروبولوجيا)، وقد يزداد المرء حيرةً حينما يزور هذا البلد المتنوّع والمتعدّد الثقافات والديانات والأعراق والطبقات الاجتماعية. لاشك إنّ خلق ثقافة مشتركة لهذا الشعب المتنوّع قد شغل القادة الهنود طوال العقود الماضية، وقد خطوا فعلاً خطوات كبيرة في تحقيق ذلك، إلا أنّ إزالة التمايز الطبقي قد أخذت جلّ اهتمامات القادة. من الواضح أنّ الأيديولوجية الاشتراكية التي آمن بها معظم القادة الهنود قد ساهمت في تعزيز العدالة الاجتماعية إلى حدٍ ما.

ورغم أنّهم كافحوا كثيراً في سبيل ذلك، إلا أنّ الفقر مازال منتشرًا، والفوارق الاجتماعية مترسّخة، وأمّا الثقافات الفرعية فقد حافظت على خصوصيتها ولم تنصهر بشكلٍ كاملٍ في ثقافة الدولة الهندية، لكنّها تفاعلت معها بإيجاب من دون أن تصطدم معها. ربما أحد أسباب عدم الانصهار الكامل للقوميات الهندية في ثقافة الأم يعود لعدم ترسيخ العدالة الاجتماعية من جهة، ورغبة تلك القوميات في التمسّك بخصوصياتها من جهةٍ أخرى.

وفي هذا الصدد يقول الكاتب عزمي عاشور في مقالٍ له نُشِر في جريدة (الحياة) الصادرة في لندن بتاريخ 28 من شهر أغسطس الماضي: “من هنا جاءت أهمية ثقافة الدولة الوطنية التي تأخذ على عاتقها أن تكون أداة تنموية لنهضة مجتمعاتها، ليس بقبضة الحديد، وإنّما برؤيتها الصائبة للحاضر والمستقبل، وقدرتها على أن تكون بالفعل دولة العدالة والقانون لكلّ فئات المجتمع، مهما كان اختلاف دياناتهم وعرقياتهم، ولتترك المجتمع يتفاعل كلّ بحسب ثقافته في إطار ثقافة الوطن الواحد”.

 الحكومات الهندية المتعاقبة لم تصطدم مع الثقافات الهندية المتنوّعة، فلم تفرض ثقافة محدّدة، ولا ديانة معيّنة. حاولت تعزيز العيش المشترك بين الأعراق والثقافات من خلال المناهج التعليمية، وإطلاق يد مؤسسات المجتمع المدني.

الدولة الهندية وضعت الإطار العام لثقافة الوطن الواحد، تاركة للزمن القيام بدورته الطبيعية إمّا عبر انصهار الثقافات بصورةٍ كاملةٍ في ثقافةٍ وطنيةٍ، أو عبر خلق تفاعلٍ إيجابيٍ للثقافات المتنوّعة مع ثقافة الدولة الوطنية. وباعتقادي تعتبر الطريقة الثانية هي الأمثل في الحفاظ على النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية في دولةٍ متعدّدة الأعراق والثقافات.

الدولة العادلة كالأم الحنون التي تحتضن جميع أبنائها بروح المساواة من دون أن تمارس أيّ نوعٍ من التمييز والتفضيل بينهم. هكذا دولة لا تنتصر لطائفةٍ أو عرقٍ ضد الأخرى، أو تفرض ثقافة معيّنة في بلد تتعدّد فيها الثقافات والأعراق، إنّما تعتبر جميع تلك الثقافات هي ثقافة الدولة الوطنية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 12/نيسان/2010 - 26/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م