الديمقراطية الزئبقية في العراق

 بين الخيارات الوطنية، والخيارات الدولية والإقليمية على ضوء نتائج الإنتخابات العراقية الأخيرة

محمود الربيعي

ذاق العراقيون ولعدة قرون قهر الملكيات والإمبراطوريات والجمهوريات الفاسدة، لذلك فإنهم بحاجة الى ديمقراطية تعزز لهم إرادتهم، وتحفظ لهم حقوقهم، وتحقق لهم ذاتهم، إلاّ أن النظام الديمقراطي بحد ذاته لايعد كافياً لتطبيق العدالة التامة خصوصاً في بلد كالعراق، لذلك يجب أن نفهم الديمقراطية على حقيقتها، فالديمقراطية لها أشكال متعددة، وهي في العراق تجربة جديدة تقبل التغير بسبب الإجتهادات المستمرة للحصول على آلية مستقرة تضمن لهم الأمن والحياة الحرة الكريمة، والديمقراطية في العراق لاتزال تمر بحالة زئبقية وهي في حالة من عدم الإستقرار تبحث عن مركز إستقرارها من خلال التطور والنمو في عملية البناء الديمقراطي الذي يحاول أن يصل الى درجة من النضوج والتكامل وفق خصوصية وثوابت وطنية تتناسب وطبيعة المجتمع العراقي.

 فالديمقراطية الغربية مثلاً لاتمثل أحلام وطموحات شعبنا في النظام العادل، فلها مساوئها على مستوى النظرية والتطبيق، وفي المناهج والأصول، فهي وإن كانت تعبر عن مرحلة مهمة من مراحل تأريخنا المعاصر إلاّ أنها لاتصلح أن تكون مثالاً جيداً في عالم التطبيق، إذ أنها لم تنجح في كثير من التفصيلات النظرية والعملية، فمن مساؤها الأخذ بحكم الأكثرية، فالأكثرية لاتحقق دائماً شرط العدل فلطالما كانت الأكثرية ظالمة عبر التأريخ، ليس لأنها أكثرية بل لأنها كانت تخفي وراءها المطامع ووالرغبة بالإستئثار في السلطة والثروة وكانت في أغلب الأحيان تستعبد الأقليات التي تعيش معها.

إننا نقبل بالديمقراطية فقط عندما تحقق شرط العدالة، وتعتمد على الأكثرية المعتدلة، ولاتستغل السلطة والثروة لصالحها..  إننا نؤمن بالمشروع الديمقراطي بشرط أن يحقق هذا المشروع العدالة المطلوبة، ولكنه في نظرنا يصبح خطراً  يهدد الإستقرار السياسي في البلد إذا ماتعامل بالضد من  وفي حق التمتع بالحقوق المدنية الكاملة، فالوطن للجميع، وللمواطن حق الإنتخاب، والمشاركة مهما كانت حجم كتلته التي ينتمي إليها، وسواء كان ضمن أكثرية شعبية أو أقلية شعبية،  فالعدل والمساواة في الحقوق والواجبات ضرورة عقلية، وحيث أننا تحترم حقوق الإنسان في العقيدة والتفكير لابد أن نحفظ حقوقه المدنية دون النظر الى إنتماءه العقائدي والثقافي.

نحن بلد نحتاج فيه الى ديمقراطية حقيقية نوعية تتلائم وطبيعة المجتمع، توفر لنا العدالة والسلام والمساواة في الوقت الذي نحافظ فيه على قيمنا ومبادئنا وخصوصياتنا الدينية والعقائدية والقومية.

كما أننا لانرغب بديمقراطية تابعة لنظام دولي يفرض وصايته علينا..  نعم وإن كنا نحب العلم والتكنولوجيا لكننا نريد أن نحافظ على خصوصيتنا العقائدية والفكرية، فالعلم للجميع وللشعوب الحرية فيما تختار.

 نحن مستعدون لإقامة أفضل العلاقات التي تقوم على مبدأ تحقيق المصالح والمنافع المشتركة،  ولكن بشرط أن لاتكون على حساب خياراتنا الدينية والوطنية والشعبية،  فلنا ثيابنا، ولهم ثيابهم وعلينا أن نتعايش على أسس من العدالة والإنصاف.

نحن نريد من الديمقراطية العيش بسلام وحرية وعدالة وسعادة سواء كنا أكثرية أو أقلية.. إننا نؤمن بمبدأ المشاركة التي تصون الدماء والأموال والأعراض، ولانؤمن بإحتكار السلطة والثروة.. إننا بحاجة الى مشاركة الكل وإنصاف الجميع.

وفي العراق وبعد سقوط النظام البائد تولدت ديمقراطية فتية للمظلومين الذين كانوا يمثلون الأكثرية المظلومة بعدما أضطهدهم النظام السابق الذي أختار المذهب والقومية وفق الخيارات الإقليمية والدولية وحسب الأهواء والمصالح الإقتصادية، وعلى هذا الأساس نحن لسنا بحاجة الى ديمقراطية تقوم على أساس الدين والمذهب والقومية بل نحتاج الى ديمقراطية الشراكة التي تحقق الإنصاف للمظلومين بغض النظر عن كونهم أكثرية أو أقلية، والسبيل الى ذلك العمل على دفع الشخصيات الكفوءة والأمينة والحريصة  الى مواقع المسؤولية دون النظر الى الإنتماء الديني والقومي والحزبي.

نحن بحاجة الى حكومة مهنية تأخذ بنظر الأعتبار قدرة المسؤول على إنجاز المهمات،  لاتحقيق المصالح الشخصية أو الحزبية، ولا تغليب مذهب على مذهب أو قومية على قومية..  فالديمقراطية التي تبرر لفئة ما الحكم بالظلم هي وبال على مستقبل المواطنين وحياتهم.. نحن لانريد من أحد أن يسلب منا خياراتنا الشعبية والوطنية، لأن الدين لله، والوطن للجميع.

والعراقيون بعد كل الذي حدث من قهر وحرمان وعدوان لايقبلون لأنفسهم غير الشراكة سواء كانوا أكثرية سياسية أو أقلية سياسية فهم يرغبون بالإنسان المخلص والأمين والحريص حتى لو كان مستقلاً، فالوطنية هي المعيار والمقياس الإنساني والوطني، ولامانع من أن يكون رئيسهم مسلماً أو عربياً أو غير ذلك، بل المهم عندهم أن يكون مواطناً وحاكماً عادلاً يعبر عن إرادة المجموع.

 إننا ومن طبيعة إستقرائنا للواقع لانستغرب أن نرى في المستقبل إئتلافاً وطنياً واسعاً يشهد إندماجا سياسياً بين الأحزاب والكتل الشيعية والسنية فيكون مثلاً أعلى يخترق حجب الظلام المعشعشة في قلوب الكارهين لنموذج الديمقراطية العادل في العراق.

لقد برهن العراقيون بعد خوضهم الإنتخابات في آذار الماضي أنهم قادرون على نيل خياراتهم الشعبية عندما قدموا نموذجاً ناجحاً إعتمدوا فيه على القوائم المفتوحة والدوائر المتعددة، وتمكنوا من خلاله تسجيل إنتصار وطني نوعي متميز  بعد أن خاضوا مرحلة مهمة من مراحل التغيير لبناء دولة قوية حاصروا فيها التوجهات الطائفية والعنصرية،، وتمكنوا من وضع ضوابط مهمة للمرحلة القادمة.التي تتطلب إنجاز ماتبقى من المهمات وحل المشاكل العالقة ومنها:

أولاً: حل مشكلة كركوك على أسس وطنية عادلة منصفة تحفظ الوحدة وتعمق الروح الوطنية.

ثانياً: تحقيق العدالة في المسائلة تقوم على أساس إعطاء فرص متكافئة لأبناء الوطن بعد أن يتم فرز ومحاسبة المسيئين.

ثالثاً: الإهتمام بتشريع قانون تنظيم عمل الأحزاب مع رغبتنا في تقليل عدد الأحزاب قدر المستطاع في طريق بناء الديمقراطية الوطنية وعلى أساس التنافس الشريف.

إن المرحلة الحاضرة تحتاج الى:

أولاً: مزيد من البناء السياسي الوطني الوحدوي.

ثانياً: تصحيح مسار قانون الإنتخابات النيابية.

ثالثاً: الإسراع بإنجاز عملية التعداد السكاني وتحقيق المصالح الوطنية العليا.

رابعاً: التخلي عن التعصب الطائفي والقومي والحزبي وتحقيق الإنجاز السياسي الذي يرصد أصوات المواطنين ليختاروا الكفاءات الوطنية بغض النظر عن القومية والدين والمذهب.

وأخيراً نتمنى لكل الكتل النيابية المزيد من النجاح والموفقية والوحدة وتحقيق المشاركة بروح الإخاء والوطنية وإحترام الإرادة الشعبية والإسراع بتقديم الأمن والخدمات والله الموفق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 7/نيسان/2010 - 21/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م