لماذا تكون بعض المجتمعات رحِماً ولوداً للطغاة؟

رؤى من افكار الإمام الشيرازي

 

شبكة النبأ: كيف يُصنع الطغاة ومن يأتي بهم؟ وما هي المجتمعات التي تكون حاضنة لهم وأي الأفعال والصفات تدفع بهذه المجتمعات لولادة الطغاة؟.

أسئلة كثيرة تتوالد من بعضها البعض كلها تحاول أن تبحث في الاسباب التي جعلت من بعض بني آدم وحوشا تمشي على الارض وتعيث بها فسادا بعد أن تحولت من انتمائها الانساني الرحيم الى انتماء لا يتفق مع فطرة الانسان ألا وهو الانتماء الى الطغيان والظلم والتوحش بأبشع صوره.

 وقد حكت لنا صفحات التأريخ البعيد والقريب عن رجال في هيأة بشر لكنهم في الحقيقة ليسوا أقل افتراسا من أعتى الوحوش بل فاقوا هذه الوحوش في طغيانهم وظلمهم للضعفاء وغيرهم.

والسؤال هنا، تُرى كيف تحول الطاغية الى مفترس بعد أن وُلد من رحم الانسان وعاش في بيته ونما في محيطه؟ ومن الذي حوَله من طبيعته الانسانية الى الحيوانية بأقصى صفتها المتوحشة ؟ تُرى هل حلّ على الدنيا طاغية أم هناك من ساعده على أن يكون كذلك فيذبح ويقتل ويحرق ويزهق ارواح الآلاف والملايين من دون أن ترف له عين او يخشع له قلب للحظة؟.

يقول المرجع الديني الراحل آية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في إحدى محاضراته القيمة حول هذا الموضوع:

(المجتمعات التي ضعف فيها المصلحون وشرَس فيها المفسدون تفرز الطغاة، فإن المجتمع الذي يكون فيه المصلح خاملا والمفسد نشطا، من الطبيعي أن يأتي الطاغي ويتحكم به).

إذن فالاشارة الاولى التي تشير الى صنع الطغاة هي مسألة غياب المصلحين يقابلها حضور خطير للمفسدين، وهنا سوف تميل الكفة الى الشر لا ريب وسوف تؤشر على المصلحين بسبب غيابهم عن الساحة الاجتماعية نقطة ضعف لا ينبغي لها أن توجد أصلا، لأن المعدلة واضحة ولا تحتاج الى كثير من التمحيص والتفكير لمعرفة النتائج، فإذا كان المفسدون متواجدون تنمو الروح الطاغية وتتكاثر وتنشر هيمنتها على الجميع في ظل غياب الاصلاح الناتج عن غياب المصلحين، وهو أمر لا يمت الى التوازن المطلوب بصلة، بمعنى مطلوب تغليب كفة الاصلاح على كفة الطغيان وهو أمر يجب أن يتكفل به كل من يهمه تعاظم الخير من علماء ومصلحين ومثقفين وغيرهم، وهنا يؤكد الامام الشيرازي على هذا الجانب فيقول:

(إن المصلح إذا لم يصلح فذلك يعني أن المجتمع صار مجتمعاً فاسداً بل بؤرة للفساد وعندها من يأتي على الحكم؟ حتماً أحد الفاسدين).

وحتما أننا نتفق على أن الفساد والطغيان صنوان، فأينما حلّ أحدهما يحل الآخر والعكس صحيح، ويكاد يكون هذا القول قانونا ينطبق على الحراك الحياتي في أي مكان من المعمورة، إذ يؤكد الامام الشيرازي في محاضرته على أن:

(الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بيَّن قانونين كونيين، قانون مجيء الطغاة، وقانون أن الدعاء لا يرفع الطغاة، كلاهما قانونان كونيان، وهذا لا يعني أن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- كشف إلينا أن هذا تشريع، أو أن هذا موضوع غيبي، أو أن هذا أخبار عن المغيبات، إن أي إنسان حكيم وعاقل -والرسول سيد الحكماء وسيد العقلاء- يفهم أن المجتمع الذي فيه المصلح خمل والمفسد فيه نشط تلقائياً يأتي الطاغي إلى الحكم ويفرض تحكمه وسيطرته واستبداده على رؤوس الناس).

وهكذا تبدو الافعال المجسدة على الارض هي التي تساعد في تضخيم الذات ثم تحويلها الى حالة من الطغيان بسبب ضعف الوعي وتردد المصلحين في فضح أساليب الطغاة والفاسدين، الامر الذي يتطلب فعلا تنويريا متواصلا وتحشيدا فكريا مستديما يطلقه المصلحون في أقوالهم وخطبهم وكتاباتهم كي يفتحوا الطريق واسعا امام العلم والمعرفة والوعي القادر على تأشير الطغاة وأفعالهم ثم مقارعتهم ومنعهم من أن يتحولوا من فصيلة الانسان الى فصيلة الطغاة.

فالطاغية لم ينشأ في اول الامر طاغية، إنما تتوفر له الارضية التي تساعده على ذلك وتدفعه لأن يكون طاغية ليفسد في الارض ويتجاوز على حقوق الجميع، بمساعدة الناس الذين يفتقدون للوعي المطلوب، فهم لا يعرفون حقوقهم وإن عرفوها لا يطالبون بها، في حين غالبا ما يكون لديهم استعداد كبير لخدمة الطغاة ومساعدتهم لكي يوغلوا في الظلم والتجاوز، وكل هذا بسبب الجهل وقلة الوعي وضعف او غياب الاصلاح، وهذا ما يؤكد عليه الامام الشيرازي (رحمه الله) الذي يطالب المصلحين والمثقفين وجميع المتنورين بتنوير الطبقات والشرائح الأضعف في المجتمع وتعليمها بطبيعة حقوقها وواجباتها وعدم التفريط بها مهما كانت الاسباب ثم بعد معرفة الحقوق عليهم المطالبة بها وتحقيقها بشتى الوسائل.

أما كيف يمكن منع الطغاة من تحقيق اهدافهم، وقبل هذا كيف نمنع نشأتهم أصلا، فذلك يتطلب جهدا مزدوجا ومتواصلا إذ يقول الامام الشيرازي (رحمه الله) في محاضرته نفسها:

(إذا جاء الطاغي إلى الحكم فإن عملية تغيير ذلك الوضع والواقع لا تتم بالدعاء وحده وإنما تتم بواسطة الدعاء والعمل أيضاً لأن لكل واحد منهما مقامه).

إذن فعملية إزاحة الطاغية لا تتم فقط برفع أيدينا الى الله تعالى لكي يخلصنا منه، بل ينبغي أن يتساوق مع الدعاء عمل حثيث لمحاصرة الطاغية واسقاطه ثم نشر الحرية بين الناس وجعلها ثقافة سلوك وتفكير عامة تشمل الجميع لمنع الطغاة من النمو في الوسط الاجتماعي الواعي السليم، ويمكن تحقيق هذا الهدف الكبير بتفعيل الحملات الاصلاحية وضخ الوعي في عقول الناس على نحو دائم. 

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 30/آذار/2010 - 13/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م