حكايات في زمن الانتخابات

صادق حسين الركابي

أحيانا ً تحار الكلمات خجولة من القلم الذي يتقدم لخطبتها، فترفض أن تكون حبيسة  في سطور تختزل على قلتها سنين طويلة من المعاناة والألم. لكنها تأبى في نهاية المطاف إلا أن تخرج للعلن، لتفصح من وراء القضبان المرسومة على الصفحات عما يدور من حكايا قد تكون أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع في زمن اللاواقع واللامعقول.

ففي عراق اليوم كل شيء معقول والعراقيون باتوا مقسمين إلى فئات. فهناك عراقي فئة (أس) وعراقي فئة (جي) وعراقي (هجين) وعراقي (على السكين).

ولا يثبت عراقية العراقي إلا جواز سفر ( أجنبي) !...

 نعم، إنها أحجية عجيبة لا يحل لغزها إلا من وضعها.

أما من لم يمتلك كرامة كونه مواطنيا ً أجنبيا ً فعليه أن يثبت عراقيته بطريقة أخرى. كأن يكون مثلا ً منتميا ً إلى أحد الأحزاب وبهذا يثبت عراقيته أو أن يكون مقربا ً من فلان وعلان فيكون عراقيا ً. وبغير هذا فلا هو عراقي ولا يناله هذا الشرف.

وهنا أستذكر ذلك العراقي الذي كان واقفا ً في الطابور في مطار إحدى الدول التي كانت تمنح اللجوء للعراقيين. لكنه كان متنكرا ً بسروال قصير، صابغا ً شعره بالأصفر وقد زين أذنيه بقرطين فضيين ليوهم موظفة الهجرة بأنه أوروبي.

لكن الموظفة سرعان ما شكّت به وما لبث أن أحاط به رجال الشرطة من كل مكان لمنعه من الدخول إلى داخل حدود ذلك البلد. فما كان من ذلك العراقي المتنكر إلا أن صاح ( الله الله حسين وينه.. بالسيوف مقطعينه) وحقيقة أن المحيطين به من عراقيين كانوا واقفين في الطابور لم يكونوا يتوقعونه عراقيا ً لكنه ما إن بدأ بهتافاته تلك حتى تأكدوا أنه عراقي وتأسفوا لحاله وحمدوا الله الذي من ّ عليهم بأن يكونوا منتمين إلى وطن (احتياط) غير وطنهم يستعينون به على مصائب الدهر ونوائب الزمن التي أصابتهم وألمت بهم.

وحكاية العراقيين مع جواز السفر قديمة ومريرة ويصح أن نطلق عليها اسم (حكاية من الموروث الشعبي العراقي) ذلك أن كل العراقيين، كبارا ً كانوا أم صغارا ً، مسؤولين في الدولة أو خارجها، يعرفون فصولها وعاشوا تجربتها.

ولا عجب في أن تضاف في يوم من الأيام إلى قصص ألف ليلة وليلة. ومن لا يصدق هذا فليسأل تلك المرأة التي جلست في مطار إحدى الدول العربية شهرا ً بأكمله لتقنع الموظف المختص بأن جواز سفرها العراقي أصلي وصادر من جمهورية العراق. لكن الموظف المسؤول كان رافضا ً أن يقتنع بكلامها وبقيت تتسول لابنها الرضيع بين ركاب الترانزيت باحثة عن غيارات لتبدل له ملابسه الوسخة.

واليوم وبعد انقضاء سبع سنوات على فصل مظلم من فصول الحكايا العراقية نعود لنكتشف أننا لسنا عراقيين.

وهذه المرة يعاقب العراقي لأنه يحمل جوازا ً عراقيا ً من فئة معينة.  فلا يحق له الانتخاب والحصول على حقه الشرعي كباقي شعوب العالم وهذا إن دل ّ على شيء فيدل على أن (فاقد الشيء لا يعطيه)، وأن الدولة التي تختصر وطنية الإنسان ببضعة وريقات لا يمكن أن تحصل على احترام بين الدول.

 بل على العكس فالإنسان والمواطن هو من يمنح جواز السفر قوته. وإلا فما هو الفرق إذا ً بين مواطن فرنسي مثلا ً وآخر عراقي. هل يمتلك الفرنسي أجنحة يطير بها أم أن له قدرات خارقة نجهلها. الفرق هو أن دولته منحته هذا الاحترام فغدا إنسانا ً تحترمه الدول.

لقد تساءل أحد رجال الشرطة البريطانية في لندن لماذا يحمل العراقيون جوازات سفر بريطانية في الوقت الذي يتوجهون به لانتخابات برلمانية عراقية. هل هناك مرشحون بريطانيون مثلا ً في البرلمان العراقي أم أن انتخابات بريطانية بدأت قبل موعدها؟

وأنا أتساءل أيضا ً هل تطالب بريطانيا أو السويد مثلا ً العراقيين المتجنسين فيها بجوازات سفر أو إثباتات عراقية لتمكنهم من التصويت في الانتخابات البريطانية أو السويدية أم أنها تكتفي بإثباتات أصدرتها حكومتيهما؟

لقد سئم العراقيون هذه الحكاية واعتقدوا أنهم تخلصوا من زمن الكرامة الزائفة والانتصارات الوهمية لكنهم ما لبثوا أن استفاقوا على واقع مرير تمثله بضعة أوراق تحرمهم من عراقيتهم وتنسبهم إلى المجهول.

إن كرامة العراق الحقيقية لا تتمثل في جواز سفر من فئة ونوع معين بل تتمثل بالعراقي ذاته فهو مصدر الاحترام ومحله.

وما شهدته بعض المراكز الانتخابية من ظواهر شجار وعراك وتزاحم وتدافع وتدخل الشرطة الأجنبية لفض النزاع بينهم لا يمنح العراق إلا مزيدا ً من التخلف والتراجع إلى ما هو أقدم من زمن الحكايات.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 9/آذار/2010 - 22/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م