شورى المرجعية

وضمان الحريات السياسية

الشيخ فاضل الصفار

تتمة لمبدأ الشورى ودوره الكبير في ضمان الحريات السياسية للشعب نرى من الضروري الإشارة إلى قمة الحكم التي يراها الإسلام أعلى مستوى عملي لتطبيق الشورى في زمن الغيبة كلمحات أولية.

حكومة الفقهاء

كما أن كل أمة تسلم أزمة أمورها في السياسة والحكم بيد عقلائها وأهل الخبرة بهذا الفن ولاترضى بأن يتصدى لأمورها كل من هب ودب كذلك الإسلام اشترط في حكومته أن تكون بيد العلماء والفقهاء العدول من المسلمين، واعتبر شرعية السلطات السياسية وقدرتها على استلام السلطة وتولي أمور المسلمين نابعة من شرعيته الخاصة التي منحها للعلماء كنواب للأئمة المعصومين عليهم السلام والصلاحيات الواسعة التي جعلها تحت اختيارهم في سبيل تطبيق الأحكام الإلهية كأئمة وأولياء يقومون بالأدوار الدينية والسياسية التي كانت للأئمة عليهم السلام من بعدهم؛ إذ من الواضح أن الإسلام لايفصل بين الدين والدولة، ولم يجعل في تشريعاته دائرتين تختلفان فيما بينهما إحداهما للعبادة والارتباط الروحي بين الخالق والمخلوق، والأُخرى للسياسة وشؤون الحكم، وإنما الإسلام في مبادئه وأحكامه حقيقة واحدة لها وجوه وأبعاد متعددة، فأحد أبعادها العبادة، وآخر السياسة، وآخر الاجتماع وغيره الاقتصاد وهكذا، فهو وحدة واحدة منسجمة وليس متباين المعاني والمفاهيم.

ولذلك فإن السلطة الدينية هي نفسها سلطة سياسية من وجهة نظر الإسلام، كما أن السلطة السياسية يجب أن تكون سلطة دينية أيضاً؛ إذ لايصح للفقيه وعالم الدين الانعزال عن السياسة وشؤون الحكم وادارة الناس والتفرد في أمور الصلاة والصيام والأحكام الشخصية الأُخرى، كما لايجوز للسياسي أن يتصدى لأُمور الحكم والدولة قبل أن يتفقه ويتعلم مسائل الشريعة، فالترابط وثيق بين الدين والسياسة في الإسلام، ولايمكن الفصل بينهما.

ومن هنا قرر الإسلام أن تكون أمور السلطة والحكم بيد الفقهاء المجتهدين من علماء الأُمة مباشرة، أو من عينة الفقهاء لذلك، ولم يرتض بأي حاكم لم يحصل على مقام الفقاهة والاجتهاد، ولا بأي حكومة أُخرى لم تنل تأييد الفقهاء ورضاهم بها.

فالحكم الاسلامي الصحيح الذي يقره الإسلام في زمن الغيبة الكبرى هو الذي يكون بيد الفقهاء والمراجع مباشرة، أو يستمد وجوده وشرعيته منهم لاغير، وبدون ذلك لايتعدى الحكم عن كونه استبداداً مطلقاً أو إعراضاً عن الدين والشريعة، وكلاهما من المحرمات الكبيرة في نظر الإسلام، ولكي تتوضح هذه المفاهيم أكثر وقبل أن نشرح أبرز الأطر والموازين التي جعلها الإسلام لتنظيم شؤون الدولة ونتعرف على التركيبة الداخلية لنظام الحكم في الإسلام وماهي الوسائل والأساليب التي نتبعها في إدارة البلاد لابد من أن نتعرض إلى مسائل:

الأولى: ولاية الفقيه

إن للفقهاء العدول الجامعين لشرائط الاجتهاد والفتوى ولاية شرعية على الناس في زمن الغيبة الكبرى، وهذه الولاية مستمدة من نيابتهم عن الأئمة عليهم السلام؛ وذلك لأن الله تعالى جعل للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة أقسام من الولاية هي:

1-الولاية التكوينية، بمعنى أنه سبحانه يجري على يديه (صلى الله عليه وآله وسلم) التصرف في الكون تحدياً لمن أنكر ارتباطه بالسماء، أو كرامة له (صلى الله عليه وآله وسلم) كالمعجزات والكرامات (1).

2-الولاية التشريعية، بمعنى أن الله سبحانه أجاز له (صلى الله عليه وآله وسلم) حق تشريع الأحكام والقوانين بإذنه سبحانه.

3-الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية.

4-القضاء أو حل الخصومات والمنازعات العامة والخاصة.

5-الحكومة على الناس أو إدارة شؤونهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ثم نص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن هذه الولايات الخمس بكل أقسامها مجعولة من قبل الله للأئمة الطاهرين عليهم السلام من بعده أيضاً، وهم عليهم السلام نصوا من بعدهم أي في زمن الغيبة على ولاية الفقهاء العدول في نصوص خاصة وعديدة، ولكن بدائرة أضيق، حيث إن للفقيه ثلاثة أقسام من الولاية فقط، هي:

1-الإفتاء

2-القضاء

3-الحكومة

فليس للفقهاء الولاية التكوينية والتشريعية، ولأن هذا الموضوع من مباحث علم الكلام نرجئه إلى محله بعد إثبات أصل الولاية الشرعية للفقهاء المراجع على الناس بعد الأئمة المعصومين عليهم السلام، ولايجوز لغيره تولي أُمورهم إلا بإذنه.

وهناك العشرات من الأدلة والبراهين التي تثبت هذه الولاية أشار إليها الإسلام في آيات نصت عليها وروايات عديدة ذكرها الفقهاء في باب ولاية الفقيه من الكتب الفقهية، ولكننا سنتطرق إلى بعض هذه الأدلة باختصار.

1- أدلة الكتاب

 منها: قوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ)(2).

ومن الواضح أن القضاء على الفوضى والفساد كله أو بعضه الذي هو من أشد المحرمات الشرعية لايتم إلا بوجود الحاكم والحكومة التي يطيعها الشعب ويلتزم بقوانينها، ولاشك أيضاً أن الحاكم قد يكون مؤمناً عادلاً وقد يكون فاجراً فاسقاً، والحاكم الفاسق مرفوض من قبل الشريعة، فلا يحق له تولي أمر الناس، فلم يبق إلا المؤمن العادل، وهو أيضاً قد يكون عادلاً عالماً وقد يكون عادلاً جاهلاً، ومما لايختلف فيه اثنان من العقلاء أن الأمر إذا دار بين تقديم العالم العادل أو الجاهل العادل يقدمون العالم العادل لبنائهم أولاً في الرجوع إلى أهل الخبرة في مسائلهم المختلفة، وثانياً: لاطمئنانهم النوعي بأنه العالم العادل أقدر على توفير الأمن والراحة والاستقرار لهم.

مضافاً إلى قيام الإجماع عند العلماء والضرورة من الدين على عدم جواز تولي غير الفقيه شؤون الدولة والحكم وسائر أُمور الناس في حالة وجود الفقيه العادل.

ومنها: قوله تعالى (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)(3).

والمراد من الحكم هنا الأعم من القضاء والحكومة لإطلاق الحكم في الآية، ومن الواضح أن القضاء والحكومة في الإسلام لايمكن منحهما لأي أحد كان حتى لو كان غير فقيه لاستلزامهما التحريم والتحليل وتضييع الحقوق والتلاعب بالشريعة، وهي من الأُمور التي سلم عدم جوازها، وهناك آيات أُخرى ذكرت في الكتب المفصلة.

2- أدلة السنة

وهي روايات كثيرة نقتطف منها مجموعة.

كمقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: ((ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنه استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله)) (4).

ومحل الشاهد فيها قوله (عليه السلام): ((فاني قد جعلته عليكم حاكماً)) (5).. وهو إما يعني التنصيب أو التشريع المتضمن للتنصيب.

والتوقيع المروي عن مولانا صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في جواب بعض أصحابه: ((وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)) (6) فالفقهاء حجة على الناس يحتج بهم الإمام (عليه السلام) على الناس إذا خالفوا في الفروع، وكذلك الأصول بناء على رأي البعض.

والمروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ((اللهم ارحم خلفائي. قيل يارسول الله: ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي)) (7) ومن الواضح أن حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لازم الطاعة عند الحضور، فعند غيبته عن الناس يجب اتباع حكم خليفته، وهو الإمام المعصوم في زمن الحضور، وفي زمن الغيبة الفقيه العادل.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): ((أن العلماء ورثة الأنبياء)) (8).

ومافي الفقه الرضوي: ((منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل)) (9) ومعلوم أن العلماء بمنزلة الأنبياء في الهداية والإرشاد ولزوم الاقتداء والطاعة.

ومافي رواية الإمام الحسين (عليه السلام): ((مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء)) (10) وهي جملة خبرية في سياق الأمر كما يبدو، وقد ثبت في علم الأصول أن الجملة الخبرية آكد في الدلالة على الوجوب والإلزام.

وفي رواية الكراجكي قال علي (عليه السلام): ((الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك)) (11) وهي أيضاً جملة خبرية في سياق الأولى فتحمل شبيه مدلولها.

وعنه (عليه السلام): ((كل حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت)) (12) وهي تدل بالتضمن أو الالتزام على الخلاف في نوع الدلالة فيها على أن حكم الفقيه العادل هو حكم أهل البيت عليهم السلام في التنجيز والإعذار كما يعبر الأصوليون وإن خالف الواقع أحياناً، ومن الواضح أن حكم أهل البيت عليهم السلام واجب الاتباع. وغيرها من الروايات المعتبرة السند والدلالة.

3- الإجماع والسيرة

وقد استدل يه لثبوت الولاية العامة للفقيه، حيث نقله البعض كما عن المحقق الكركي H أنه قال: اتفق أصحابنا على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل...)) (13).

وعن عوائد الأيام (للنراقي) أنه نص عليه كثير من الأصحاب، بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات (14)، بل لعله الظاهر من المستند في بحث القضاء، حيث ادعى الاجماع على وجوبه، وعلله بتوقف نظام نوع الإنسان عليه (15).

وأضاف الإمام الشيرازي (دام ظله) في معرض تعليقه على كلام النراقي بعد ذكر العبارة السالفة: ويؤيد ذلك مؤيدان:

الأول: السيرة العلمائية، إن جمهرة كبيرة من العلماء كانوا يتصرفون في شؤون الدولة والسياسة العامة أمثال كاشف الغطاء الكبير حيث أجاز للملك القاجاري (فتح علي شاه) أن يزاول أعمال الدولة بالنيابة عنه، وحجة الإسلام الشفتي والسيد المجدد والشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي والسيد محمد كاظم صاحب العروة حيث أفتى بإخراج العثمانيين، والأخوين صاحب الكفاية والسيد الحبوبي..

أما مزاولة الكركي والمجلسي والبهائي والميرداماد وغيرهم للحكم في أيام الصفويين فغني عن الكلام إلى غيرهم من العلماء الكبار كما لايخفى على من راجع أحوالهم (قدس الله أسرارهم)، بل لم نجد عالماً تسنى له ذلك فلم يقدم عليه، بل في كثير من القرى والأرياف في إيران والهند وباكستان وأفغانستان والعراق ولبنان وغيرها يحكم العلماء ووكلاؤهم.

الثاني: أنه يستفاد اتفاق الفقهاء على ثبوت الولاية للفقيه في مواضع كثيرة من الفقه، ويعللون الحكم بالولاية كما لايخفى على من راجع الفقه، مثل قولهم (بتلخيص منا):بوجوب دفع الزكاة إلى الفقيه ابتداء أو بعد طلبه، ووجوب دفع الخمس بإجازة الفقيه أو إلى نفس الفقيه، وأن الفقيه مكلف بصرف الخمس والزكاة في مواضعها المقررة، ووجوب استيجار الأرض المفتوحة عنوة من الفقيه، ولايجوز الجهاد ولا الدفاع إلاّ باذن الفقيه وولايته في إجراء الحدود، وأنه المرجع في الحلال والقضاء بكل شؤونه إلى غيرها من الموارد الكثيرة جداً.

بل إنا لم نجد مصنفاً في الفقه إلا وفيه الكثير من هذه المسائل، كما لم نجد فقيهاً في التاريخ ولافقيهاً معاصراً إلا كان يزاول هذه الأعمال حتى إذا كان من أشد المحتاطين، بل قد رأينا جملة منهم يرون أنفسهم من أولي الذين قال الله عنهم: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ)(16).

إن ظاهر الآية يقتضي وجود ولي الأمر الظاهر في كل زمان، وليس ذلك في زمان الغيبة إلا الفقيه الجامع للشرائط؛ ولذا يسمون بنائب الإمام(17).

4- دليل العقل

وله طريقان:

الأول: أن علة بعثة الأنبياء وتنصيب الأئمة عليهم السلام نفسها موجودة في تنصيب الحاكم والرئيس من بعدهم، والعلة التي يجب على الله سبحانه أن يرسل بسببها الأنبياء والرسل حفظ نظام الخلق وتوازن أُمورهم الدينية والدنيوية.

وفي المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ((لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر.. ويقاتل بها العدو، وتأمن بها السبل،ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر ويستراح من فاجر))(18).

الثاني: لو أن الله تعالى وهو العالم الحكيم ترك أُمور الناس بلا حاكم أو إمام ينظمهم ويصلح شؤونهم ويهديهم إلى سبل الخير والسعادة.. معنى ذلك أنه سبحانه يقودهم إلى الفوضى والهرج والمرج واختلال النظام، أو إلى الاستبداد وسيطرة الطغاة والمفسدين وتحكم الظالمين بشؤون الرعية، أو هما معاً، وكلها من الأُمور القبيحة التي تنزه الله عنها وتعالى عليها.

فالحكمة العقلية إذاً في دفع القبح تقتضي أن ينصب الله تعالى على الناس إماماً، وليس هو إلا الفقيه المجتهد العادل العالم بأمور الدين والدنيا كما تقدم.

الثانية: سلطة الفقيه

هل سلطة الفقيه وولايته على الناس نوع وكالة، بمعنى أن الأُمة تعطي الفقيه وكالة عامة في إدارة شؤونها؟ أو عقد عقلائي يتم بين الفقيه والأُمة على أن تعطي الأُمة للفقيه حق الطاعة والولاية عليها في مقابل أن يلتزم الفقيه بكل الواجبات والحقوق الملقاة على عاتقه كرئيس وحاكم تجاه الأُمة؟ أو منصب الهي يمنحه المعصوم (عليه السلام) للفقيه المجتهد الجامع للشرائط؟.

لعل الأصح في الجواب هو أن نقول: إن سلطة الفقيه تدخل في باب الجعل والتنصيب الشرعي؛ وذلك لأن أكثر الأدلة والروايات التي جاءت لتبيين مقام الفقيه ودوره في الأُمة جاءت بصيغة الجعل والتنصيب، ولم تجعل ولاية الفقيه باختيار الأمة مطلقاً كي يصح أن نقول: إنها وكالة أو عقد، فمثلاً قوله (عليه السلام): ((فاني قد جعلته عليكم حاكماً)) (19) و: ((مجاري الأُمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)) (20) ورواية الفضل بن شاذان ((فجعل عليهم قيماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام)) (21) وغيرها من الروايات التي تؤكد أن الولاية الشرعية للفقيه على الأُمة تنصيب وجعل خاص وليست باختيار الأُمة، ولكن هنا لابد أن نعرف أيضاً أنها لاتنحصر بتعيين الأئمة عليهم السلام فقط حتى تكون نافذة على الناس، بل تحتاج الى شرط آخر مكمل لها وهو اختيار الأُمة وقبولها بالفقيه، وبتعبير أدق أن ولاية الفقيه لها مرتبتان:

1-مرتبة الأهلية والجدارة ((الشأنية والاقتضاء)) كما يعبر الأصوليون.

2-مرتبة التنفيذ والعمل ((الفعلية)).

وكل فقيه نال درجة الاجتهاد وتوفرت في نفسه الشرائط الأولية للفقيه من العدالة والرجولة والحرية وأشباهها فإنه يستحق في نفسه أن يكون ولياً على الناس، وقد أعطاه الإسلام منصب الولاية وشرعية الحكومة.

ولكن لايتمكن الفقيه أن يعتمد على حيازته لهذا المنصب والمقام، فيبدأ بممارسة الحكم فعلاً سواء ارتضاه الناس أو لم يرتضوه، وإنما لابد له ما أن يضم إلى شرائط الاجتهاد الخاصة شرطاً آخر يكون هو صاحب الكلمة الأخيرة في إعطائه دور القيادة الفعلية ونفوذ أحكامه على الناس، وذلك هو اختيار الناس له وقبولهم به كحاكم وولي يدير شؤونهم الحيوية المختلفة.

فإن الفقيه من دون أن يحرز موافقة الناس وقبولهم به لايتمكن أن يمارس دوراً رئاسياً عليهم وإن كان هو في نفسه يليق بهذا المقام.

وبهذا الكلام يمكن الجمع بين الأقوال الثلاثة في تعيين نوع سلطة الفقيه وولايته على الشعب، فنقول: إن الفقيه يمتلك سلطة شرعية على الناس بالتنصيب، ولكن تصبح سلطته الجعلية هذه نافذة ومفروضة على الجميع حينما ينتخبه الناس فعلاً لذلك دون باقي الفقهاء ((سلطة الوكالة أو العقد)) (22).

وقد عبر الفقهاء عن ذلك باصطلاح التقليد، فإن المجتهد الذي تجب طاعته على الناس دون غيره ذلك الذي اتبعه الناس ورجعوا إليه في الفتوى، وبذلك تكون سلطة الفقيه محددة بعدة شروط هي:

1-أن تكون برضا الأُمة بعد تحقق موضوع الفقاهة.

2-أن تتحدد بقدر الصلاحيات التي منحتها الأُمة للفقيه.

3-أن تكون خاضعة إلى رأي الأُمة في التنصيب والتنفيذ؛ لأن الأُمة بالنتيجة هي التي تحدد أن هذا المرجع هو الحاكم دون ذاك.

4-أن تكون قابلة للعزل أيضاً من قبل الأُمة عندما تجد من هو أعلم منه على قول، أو قابل للشركة بين الفقهاء المتعددين، فإن الأُمة لو رأت أن توزع السلطة بين عدة فقهاء تقسمها بينهم بالسوية أو بالتثليث أو أقل أو أكثر كان لها ذلك أيضاً.

وطبعاً هذا لايعني أن الفقيه الذي عزلته الأُمة قد خرج عن ولايته الشرعية أيضاً، وإنما العزل يجري فقط في تنحيته عن الحكم وسحب قدرة القرار والتنفيذ منه مع التحفظ على ثبوت ولايته الشرعية الخاصة التي نصبه الإسلام عليها بحسب الشرائط المتوفرة فيه، فأصل الولاية ونفوذها أمران مختلفان قابلان للتفكيك والفصل، حتى إذا سلبنا الفقيه قدرة نفوذ الولاية يبقى متمتعاً بأصل الولاية كفقيه جامع للشرائط.

ومن كل ذلك يظهر التفكيك أو إمكان التفكيك بين التقليد والحكومة، فإن التقليد يتحدد بالرجوع إلى فقيه واحد جامع للشرائط ولايقبل التعدد والتقسيم، بينما قد تخضع الحكومة إلى التقسيم والتوزيع بين الفقهاء المتعددين حسب اختيارات الأُمة؛ إذ إن كل مكلف يجب عليه الرجوع إلى مقلده في معرفة أحكامه الشرعية الفرعية، ولايجب عليه الرجوع إليه حتماً في مسائل السلطة والحكومة؛ لأن ذلك راجع الى رأي الأُمة، فاذا انتخبت الأُمة فقيهاً واحداً يتولى شؤون الحكم ولم ترتض بغيره كانت السلطة فردية يتزعمها فقيه واحد.

وأما إذا كانت الأُمة قد رجعت في التقليد والفتوى إلى فقهاء متعددين وارتضت بهم جميعاً حكاماً كما هو السائد الذي جرت عليه السيرة العملية للشيعة على مر العصور والأزمان، فإن حكومة الفقيه الواحد تصبح باطلة في غير مقلديه، ولاتحظى بمستوى من الشرعية، وإنما يجب أن نقسم السلطات بين الفقهاء المتعددين الذين اختارتهم الأُمة، وهنا نقع أمام خيارين: إما أن نمنح كل واحد من الفقهاء بقدر نسبة مقلديه من السلطات ويكون رأيه وقراره نافذاً عليهم في معزل عن آراء الفقهاء الآخرين، وإما أن نعطي كل واحد منهم حصة من السلطة ولكن مع التنسيق والانضمام والتفاهم مع الفقهاء الآخرين الذين يشاركونه في القسمة.

ولاشك أن الاحتمال الأول مرفوض؛ لأنه يسبب الفوضى والهرج واختلال النظام، وهو محرم أكيد في الشريعة الاسلامية؛ وذلك لأنه يستدعي أن يكون رأي كل فقيه نافذاً على جماعة مقلديه لو أرادوا جميعاً ممارسة أدوارهم في القرار والحكم، وذلك يقتضي تقسيم الأمة واختلافها بعد تسليم أن الآراء في الغالب مختلفة، بل ومتعارضة، فكيف يمكن الحل؟

فلم يبق لنا مجال إلا التمسك بالاحتمال الثاني، وهو أن نقول: إن السلطة المقسمة بين الفقهاء يجب أن تخضع في نفوذها إلى تنسيق وتفاهم متبادل ومشورة دائمة من الفقهاء تخرج برأي واحد وقرار يمثل جميع الفقهاء، حيث يجتمع كافة فقهاء التقليد والمرجعية أو ووكلائهم الخاصين فيما بينهم في مجلس واحد، ويبدؤون بتداول شؤون الدولة والحكم، ويتبادلون فيها الآراء والنظريات، ثم ينتخبون الرأي الذي قامت عليه أكثر الأصوات كما تصنع سائر المجالس النيابية في العالم الديمقراطي؛ دفعاً للفوضى واختلال النظام وتقسيم الأُمة الى طوائف واتجاهات لايحمد عقباها، فضلاً عن الوجوب الشرعي النازل في آية: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(23).

وقد أشار إلى ذلك بعض الفقهاء المعاصرين الذين يرون وجوب تطبيق الشورى في إدارة نظام الحكم بقوله: ((والأمور الاجتماعية فتجب المشورة للحاكم مجيئاً إلى الحكم وتنفيذاً لأمر دون أمر، أما وجوب المشورة بمجيء الحاكم إلى الحاكم فلأنه نوع تسلط على الناس، والناس لايصح التسلط عليهم إلا برضاهم، وأما وجوب المشورة في أمور الناس بعد مجيئه إلى الحكم فلأن للحاكم بقدر تخويل الناس له الصلاحية، ففي غيره يحتاج الى إذنهم، والحاصل أن ماكان من شأن الناس يحتاج اليها ابتداء واستدامة.

إن قلت: أليس مرجع التقليد منصوباً من قبلهم عليهم السلام فاتباعه واجب؟

قلت:

أولاً: اختيار هذا المرجع دون ذاك بيد الناس كاختيار إمام الجماعة والقاضي وماأشبه.

وثانياً: إذا كان هناك مراجع اختارهم فلا حق له في تنفيذ رأيه على مقلديه بالقسر، سواء القسر الظاهر أو المغلف؛ إذ انتخاب المقلدين له في هيئة للحكومة ليس معناه تخويلهم له الصلاحية المطلقة لتصرفه في أموالهم ودمائهم وأنفسهم، بل بقدر مايرى المقلدون، فإذا رأى الحرب والمقلدون السلام فلا حق له في إدخال الناس في الحرب.

وقوله (عليه السلام): ((فإذا حكم بحكمنا)) لادلالة فيه على نفوذ رأيه إذا لم ير المقلدون أنه بحكمهم عليهم الصلاة والسلام، والمراد بالمقلدين له أو بالمراجع الأكثرية؛ لأن دليل الشورى حاكم على دليل التقليد، وإلا لم يبق لدليل الشورى مجال كما ذكروا في العناوين الثانوية الحاكمة على العناوين الأولية (24).

الثالثة: شورى الفقهاء

باعتبار أن الناس ينقسمون تجاه الشريعة وأحكام الدين إلى مجتهد ومقلد بناء على أن الاحتياط يدخل في أحد القسمين، ونظراً لما يفرضه الإسلام على عامة الناس من الرجوع في أُمور دينهم إلى الفقهاء العدول كما يرجع سائر العقلاء من الناس إلى أهل الخبرة والفن والاختصاص في أبعادهم الخاصة، وأعطى ذلك للعلماء دوراً سياسياً كبيراً وسلطة روحية ودينية تهيمن على الناس توازي السلطات السياسية بالقدرة والتأثير إن لم تكن أقوى، فإن الإنسان المقلد يخضع طبيعياً إلى رأي علمائه، ويطبق تعاليمهم وارشاداتهم بكل إيمان والتزام حتى في القضايا الشخصية الخاصة، فكيف بالأمور الخطيرة والمصيرية؟ خاصة وأن تعدد العلماء المجتهدين وتقاسمهم القدرة والنفوذ طول التاريخ السياسي والديني للمسلمين سد كل النوافذ والأبواب على الفردية واحتكار السلطة الدينية بيد فقيه واحد كمرجع أعلى للأُمة لايسمح لأي واحد من معاصيره من أهل الفقه والاجتهاد في أن يبدي رأيه واجتهاده أو الاعلان عن وجوده.

كما سد على السلطة السياسية أبواب الاستبداد والديكتاتورية والتصرف في شؤون الحكم بلا منازع، وحيث إن تركيبة السلطة الحاكمة تنقسم بسبب وجود العلماء وحضورهم في الساحة وتفاعلهم مع واقع الإنسان المسلم الى سلطة سياسية تمثلها الحكومة، وسلطة روحية تتمثل بالعلماء والمجتهدين الذين هم أيضاً يشكلون محاور وقدرات متعددة لايمكن إلغاؤها أو الغض عنها أبداً.

وبعد ذلك لم يكن أمامنا من صيغة مشتركة أو حل يمكن الاتفاق عليه من قبل الجميع للتنسيق بين سلطات الحكومة وسلطات الفقهاء من جهة وبين سلطات الفقهاء المتعددين من جهة أُخرى إلا أن نسلك مسلك الشورى والانتخاب لكي نضمن للجميع حقوقه ومسؤولياته.

وقد تقدمت بعض الاستدلالات الشرعية على وجوب العمل بالمشورة في إدارة نظام الحكم وصنع القرار السياسي والاجتماعي المتعلق بمصير الأُمة من القرآن والسنة. بقي أن نشير الى الضرورة العقلية القاضية بلزوم إسناد الحكم الإسلامي إلى مجلس شورى الفقهاء المشكل من قبل أبرز علماء المسلمين ومجتهديهم، ويمثل القمة السياسية لإدارة البلاد الإسلامية.

الشورى ضرورة عقلية

هل العقل يدل على وجوب شورى الفقهاء المراجع أم لا؟(25).

الجواب: نعم، العقل يثبت وجوب الشورى بقاعدتين عقليتين:

القاعدة الأولى: وجوب دفع الضرر المحتمل

وبيانها يتم عبر مقدمات:

الأولى: أن العقل يستقل ويحتم وجوب تجنب الأخطار الحتمية اليقينية والظنية والمشكوكة والموهومة(26) أيضاً، والثلاثة الأُولى لاريب فيها، أما الأخيرة التي هي محل بحثنا لايشك فيها عاقل، فمثلاً: لو كان أمامنا مائة كأس من الماء ثلاثة منها مسمومة لوجب تجنب كل المائة كأس؛ لأن الخطر من وراء شرب السم كبير ومهم، وقد طرح الفقهاء هذه المسألة مؤكدين وجوبها، ولم يخالف فيها إلا الأقلون(27).

الثانية: أن شورى الفقهاء لايتكفل بحث الموضوعات الشخصية والصرفة، ولا الأحكام الشرعية، وإنما يقتصر دوره على بحث الموضوعات العامة التي تهم الأمة جمعاء ((إنما الشورى في شؤون الحياة، وفي تطبيق مانزل من عند الله (جلّ جلاله) في تدبير هذه الشؤون، وتستهدف قطعاً قوة الروابط بين المؤمنين في أُمتهم كي تبقى خير أمة أخرجت للناس)) (28).

فموارد شورى الفقهاء مشروطة بأمرين:

1-أن تكون موضوعات لا أحكام.

2-أن تكون عامة، والموضوعات العامة تهم بالطبع كل الأُمة وكل قياداتها وكوادرها وساداتها وأشرافها مثل: إدارة الدولة حرب ضد دولة معينة أو غاز، سلم، معاهدات دولية، فرض ضرائب غير الضرائب الشرعية الأربعة – الخمس والزكاة والجزية والخراج – تأميم، وغير ذلك من الموضوعات العامة، إنها خطيرة.. وبعضها خطير للغاية، ويتطلب تعبئة طاقات مئات الملايين من أبناء الأُمة لانجازها، وقد تؤدي إلى إزهاق أرواح مئات الأُلوف كما يحدث في الحروب، وخطورتها يستند إلى كونها عامة، فليس في القضايا والموضوعات العامة ماهو حقير وهين، حيث إنها تهم كل المسلمين، فحتى لو كانت صغيرة – جدلاً – فهي خطيرة ومهمة أيضاً.

الثالثة: أن قرار الفقيه الواحد حتى لو كان ورعاً تقياً واعياً مديراً وجامعاً لشرائط القيادة يبقى في ذاته يحتمل الغلط والسهو؛ لأن الموضوعات العامة التي تجب فيها الشورى هي من شؤون السياسة أو الحرب أو الاجتماع أو ماشابه، وليست من شؤون العلوم الأدبية والفقهية والأُصولية حتى تكون من اختصاصات الفقيه، والقيادة خصوصاً في العصر الحديث تتطلب أدق المعلومات وأوسعها ومشروطة بقيود صعبة.

فقرار الفقيه الواحد في الشؤون العامة معرض للسهو والغلط، وهذا مالايشك فيه أحد، فتكون نسبة الخطأ في قراره الفردي على سبيل المثال (30 %) أما لو كان نفس القرار صادراً من فقهاء متعددين متشاورين يبقى احتمال السهو والغلط قائماً؛ لأن الشورى تؤدي إلى أفضل الحلول والآراء ظاهراً، واحتمال الخطأ وارد فيها، إلا أن من المؤكد أن احتمال الخطأ هذا يتضاءل إلى نسبة ضعيفة، فنسبة احتمال السهو في قرار الفقيه الواحد إذا كان (30 %) فمعنى ذلك أنها تتنازل إلى (10) أو (5) أو (1%) لو كان القرار جماعياً، وهذا مانعرفه أولاً ببديهة العقل، وهو الذي أثبتته التجارب أيضاً..

وثانياً: لقد أكد سيل من الأحاديث المتواترة حقيقة قلة نسبة الخطأ في الشورى منها قوله (عليه السلام): ((لاظهير كالمشاورة)) (29) و: ((ما من رجل يشاور أحداً إلا هدي الى الرشد)) (30) و: ((من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأُمور)) (31) وعن الشعبي: الرجال ثلاثة: رجل ونصف رجل ولاشيء، فأما الرجل التام فهو الذي له رأي وهو يستشير، وأما نصف رجل فالذي ليس له رأي وهو يستشير، وأما الذي لاشيء فالذي ليس له رأي ولايستشير(32) و: ((المستشير متحصن من السقط)) (33) و: ((مااستنبط الصواب بمثل المشاورة)) (34).

وعشرات الأحاديث الأخرى التي تؤكد أن المشورة تؤدي إلى الصواب والاستبداد يؤدي إلى الهلكة والضلال، فيفهم منها بصورة جازمة أن تعدد العقول يقلل احتمال الوقوع في الخطأ.

النتيجة

من هنا يظهر جلياً أن تجنب نسبة الخطأ هي الفاصلة بين الرأي الفردي والرأي الجماعي؛ إذ في القرار الفردي يحتمل ارتكاب الخطأ (30%)، وفي القرار الجماعي (10%) حسب مثالنا السابق. فيحكم العقل بتجنب ال (20%) من احتمال الخطأ الوارد في الراي الفردي، وهذا يجب عقلاً تجنبه في الأُمور الخطيرة مهما كان الأمر الخطير.

فان المشورة سبيل معرفة الرأي الصواب عن طريق مناقشة الآراء وظهور الرأي الصحيح، وهي بهذا سبب لقلة الخطأ، كما أن بالمشاورة نستفيد من جهود الآخرين وخبراتهم التي اكتسبوها في سنين طوال وذلك بلا جهد، كما أن بها صيانة لولي الأمر من الاقدام على أُمور تضر الأُمة ولايشعر هو بضررها، ولاسبيل إلى إصلاح هذا الضرر بعد وقوعه. فاحتمال الخطأ الخطير المحتمل ولو احتمالاً ضعيفاً يجب تجنبه.. وبكلمة واحدة ان قاعدة ((دفع الضرر المحتمل)) قاعدة عقلية التزمها كل عقلاء العالم، وقال بعض الأُصوليين: كلما حكم به العقل حكم به الشرع، فدفع الضرر المحتمل الخطير قد حكم به الشارع أيضاً، بل الظاهر اتفاق كلمة الأُصوليين على حكومة الشرع طبق حكومة العقل إذا كان الحكم العقلي في سلسلة العلل للأحكام الشرعية، ومانحن فيه في هذا القبيل أيضاً، فتأمل.

القاعدة الثانية: برهان السبر والتقسيم(35)

برهان السبر والتقسيم قاعدة عقلية اعتمدها المنطقيون والأُصوليون في استدلالاتهم متى ما دعت الضرورة إليها، وتمت شروطها، وهذه القاعدة الكلية تشمل شورى الفقهاء كواحد من مصاديقها، وتثبت وجوبها، وتوضيح ذلك يتم عبر مقدمتين أيضاً:

الأولى: من الواضح أن مقلدي الفقهاء منتشرون في مختلف أنحاء العالم، وليس انتشارهم على نحو منظم ليكون مثلاً مقلدو المرجع الأول في إيران فقط، ومقلدو المرجع الثاني في العراق فقط، ومقلدو المرجع الثالث في الهند فقط، بل إن المقلدين مختلطون دائماً وفي كل مكان، وما من وطن إسلامي إلا ويوجد فيه مقلدون لمراجع متعددين، فالساحة الخليجية والإيرانية والعراقية والأفغانية والباكستانية والهندية وغيرها كلها متوزعة في تقليدهم، وتقليد اثنين أو ثلاثة أو أربعة وأحياناً خمسة من المراجع أو أكثر، وغالباً يمثل المراجع خطوطاً معينة يعرفها المتتبع من سلوك ونشاطات وأساليب المنظمات والمؤسسات والقوى التابعة لذلك المرجع.

وهذا التقسيم لايعني عدم وجود مرجع أقوى في هذا البلد، وآخر أقوى في بلد آخر ومنطقة أُخرى من بلد واحد، وحتى لو تتوزع الخارطة التقليدية فرضاً فنحن كمسلمين لانؤمن بالحواجز الحدودية التي اصطنعها المستعمرون في بلادنا، وأقرها عملاؤهم في العراق وإيران والخليج وغيرها من أقطار العالم الإسلامي وطن كل المسلمين، فلو توزع المقلدون بصورة منتظمة فرضاً، أي صار كل قطر متمحضاً في تقليده لمرجع واحد، مع ذلك فإن التداخل واختلاط المقلدين متحقق ؛ لأن كل هذه البلاد تعتبر واحدة، فكيف إذا لم يتوزع المقلدون بهذه الصورة المنتظمة، بل أدى تزايد اختلاطهم أحياناً أن يكون في أُسرة واحدة لايتجاوز أفرادها العشرة مقلدين لثلاثة مراجع، وكل منهم يمثل اتجاهاً معيناً.

الثانية: أن الموضوعات العامة التي يفترض أن يتصدى شورى الفقهاء لبحثها وتوجيه الأُمة فيها إنما هي من الحوادث الواقعة المصيرية التي تنعكس آثارها سلباً و إيجاباً على كل المقلدين دون استثناء، فخذ مثلاً أي موضوع ترى أنه ذو انعكاسات على المقلدين، فقرار الحرب مثلاً ينعكس سلباً وإيجاباً على المقلدين جميعاً، والنصر فيه مكسب للجميع، كما أن الهزيمة تقع آثارها على الجميع؛ إذ من الواضح أن الخسائر والتضخم الاقتصادي والتوترات النفسية والضرائب المختصة بالمجهود الحربي ومعاناة التهجير أحياناً، أو العجز الاقتصادي والغلاء وغير ذلك من مختلف آثار الحرب كلها شاملة لمجموع المقلدين المتواجدين في منطقة الحرب، وليست خاصة بمقلدي مصدر قرار الحرب وحده فرضاً، وماقيل في الحرب يقال في السلم والهدنة، وفي المعاهدات الدولية أيضاً، وفي فرض الضرائب الاستثنائية، وفي كل أمر ذي طابع عام كقرارات الحكومات، وخصوصاً الاستراتيجية منها.

هذه كلها تعتبر من الموضوعات العامة أو الحوادث الواقعة حسب تعبير الحديث الشريف الذي يختص القرار فيها شورى الفقهاء المراجع. إذا كان كذلك فإن تداخل جمهور المقلدين وانعكاس آثار القرارات العامة عليها جميعاً يطرح أمامنا عدة خيارات محتملة تجاه أي موقف أو قرار يراد اتخاذه تجاه الأحداث، وهذه الخيارات هي:

1-طرح قرار كل الفقهاء وعدم الأخذ براي أي واحد منهم.

2-التزام كل الأُمة بقرار كل الفقهاء على تعارضها أحياناً وأحياناً تناقضها.

3-التزام كل مكلف بقرار مرجعه فقط كما في مسائل الصلاة والزكاة وغيرها مع ترك آراء باقي الفقهاء.

4-الالتزام في قضية عامة بقرار واحد من الفقهاء، فمرة يؤخذ بقرار هذا ومرة يؤخذ بقرار ذاك، فهكذا ننتقل في كل موقف لواحد منهم على سبيل البدل والتعاقب.

5-الالتزام بقرار واحد منهم في كل القضايا والموضوعات العامة بشكل دائم ومستمر، واعتبار حكمه نافذاً على الأُمة جميعاً بما فيهم الفقهاء الآخرون ومقلدوهم.

6-التشريك بينهم في الاتباع بعد توحيد آرائهم وتنسيقها في رأي واحد، وتكون طاعة الأُمة لمصوبات وقرارات شورى الفقهاء المراجع.

لماذا الشورى؟

ومن الواضح جداً أي خيار لايمكن أن يحقق لنا حلاً معقولاً في القضية سوى الراي الأخير، وذلك لأن:

1-طرح قرار كل الفقهاء من أشد المحرمات المتفق عليها في الشريعة بعد أن ثبت وجوب الرجوع إلى الفقيه المجتهد في التقليد والفتوى والأمور الاجتماعية والسياسية في زمن الغيبة.

2-وإما أن يخضع المقلدون كلهم لكل الفقهاء في زمان ومكان وقضية واحدة، أي كل العشرة ملايين من المقلدين يخضعون لكل المراجع الخمس فرضاً الذين يقلدونهم، وهذا باطل قطعاً، لأنه أولاً: لم يصرح به أي من الفقهاء. وثانياً: يستلزم منه التناقض أحياناً، فكيف يطيع المقلدون مرجعا يدعو إلى الحرب وآخر يدعو إلى السلم في وقت واحد؟ هذا مضافاً إلى لزوم الفوضى والهرج والمرج واختلال النظام.

3-وإما أن نقول بنفوذ قرار كل فقيه على مقلديه فقط دون باقي المقلدين، وهذا ليس بالحل أيضاً للأمرين المذكورين سابقاً، حيث قلنا: إن الخارطة التقليدية مشتركة، فيستلزم الأمر أن يحارب جمهور ويسالم جمهور آخر من شعب واحد عدواً واحداً، وهذا التشابك الكثيف في المقلدين لايدع مجالاً لكي ينقسم شعب واحد على نفسه، بل منطقة واحدة، وعشيرة واحدة، وأحياناً من أُسرة واحدة.

وقلنا أيضاً: الآثار للحرب أو السلم أو ماشابههما تنعكس على الجميع، فلو فرض التشريد لظروف الحرب أو فرضت ضرائب استثنائية معينة فهي شاملة للكل لامحالة، وهكذا واقع يستلزم الهرج والمرج واختلال النظام، وهذا مايحرمه الدين الإسلامي الحنيف، وبالطبع أن الهرج والمرج واختلال النظام يؤذي المسلمين ويضرهم ويساعد على غلبة الأعداء عليهم بعد تفرق صفوفهم وتبعثر طاقاتهم، وغير ذلك من الويلات التي لايحمد عقباها والتي قامت الأدلة القطعية على حرمتها الشرعية.

مضافاً إلى ذلك يقع التدافع والتشابك بين المقلدين، فمثلاً لو أفتى أحدهم بوجوب توزيع بعض الأراضي أو مصادراتها وأفتى آخر بحرمتها معنى ذلك أن المجتمع المسلم ينقسم على نفسه، جناح يؤيد المصادرة وآخر يكافحها، ولو كان أحد أفراد هذا الجناح رئيساً والآخر من الجناح المعارض مرؤوساً يقع التشابك بينهما، وحتى لو لم يقع ذلك بصورة مكشوفة ومفضوحة فإن كل واحد منهما يعبىء طاقاته لتحطيم وإفشال قرار وبرنامج الطرف الآخر، ويقع الانشقاق العظيم في صفوف الأُمة شعباً وحكومة؛ لأن موظفي الحكومة أيضاً متوزعون في تقليدهم، وهذا أوضح من أن يخفى، إذ كيف يمكن ضبط تقليد مئات الأُلوف من الموظفين لمرجع واحد؟.

4-وأما اذا قلنا بنفوذ حكم واحد منهم على سبيل البدل فمعناه أن حكم وقرار كل واحد منهم ينفذ مفعوله في قضية معينة وموقف خاص ولاينفذ حكم غيره في تلك القضية.

الجواب: هذا صحيح، ولكن كيف تحدد القضايا التي ينفذ فيها حكم فقيه معين؟.

فان قلنا يخضع تقسيم الواجبات لنظام معين فهذا معناه قيام شورى الفقهاء، وإن لم يتحقق التنسيق فلمن يكون القرار في كل قضية؟ إن قلنا للأسبق الذي يصدر القرار قبل غيره فهذا مردود لاحتمال تطابق قرار اثنين أو أكثر في زمان واحد، ولم يحرز أحدهم السبق، وكذا لو لم يعلم أيهما السابق، فتذهب جماعة إلى أن هذا سبق ذاك، وتذهب أُخرى إلى أن ذاك هو السابق، ويقع التشاح والتنازع.

هذا فضلاً عن كون تقديم رأي الفقيه السابق على اللاحق يكون ترجيحاً بلا مرجح لتساويهم في المنصب والولاية الشرعية، وهو قبيح عقلاً، فلايبقى أمامنا إلا احتمال واحد فقط، وهو نفوذ حكم فقيه واحد معين في كل الموضوعات العامة؛ اعتماداً على مسألة حكم الحاكم الشرعي نافذ، وهذا الاحتمال مردود أيضاً، لأنه ترجيح بلا مرجح أولاً، واستبداد شنيع ومحرم في الشريعة الإسلامية.

والنتيجة: أن كل الاحتمالات والحلول المطروحة واهية ولاتقف في وجه هذا الدليل العقلي ((السبر والتقسيم)) إلا شورى الفقهاء المراجع، فهو الذي يمكن أن يكون حلاً نلجحاً وفريداً في نوعه أيضاً؛ لأنه يقود الأُمة الى التلاحم والوحدة، ويضمن لها الديمقراطية في أوسع صورها أيضاً، وعلى كل حال فقد تبين مما مضى من الأدلة أن المكلفين ثلاثة أصناف:

1-صنف المقلدين، وهم عامة أبناء الأُمة، وهؤلاء لابحث لنا حولهم؛ لأنهم لايملك أحدهم حق الولاية إلا على نفسه وماله، ولاتشمل ولايته الآخرين كي نبحث في مدى نفوذها أو عدمه.

2-المجتهدون، ومن الثابت أن المجتهد لايملك أي نفوذ على فرد آخر غيره، حتى إنه لو ألزم أحداً بمسألة لاتجب عليه الطاعة، كما أنه لانفوذ لغيره عليه، بما فيهم الفقهاء المراجع، وقد صرح المحقق الأكبر الشيخ الأنصاري بهذه الحقيقة في رسائله، وهي مؤكدة لاريب فيها كما يرى البعض.

3-مراجع التقليد، والمرجع يمتد نفوذه بحسب كمية مقلديه كثرة وقلة، وليس له نفوذ على مقلدي مرجع آخر، خصوصاً لو عرفوا خطأ حكمه، أو عدم إيمان مرجعه بحكمها، حتى لو كان مبسوط اليد وحاكماً إلا في مقام القضاء، فإذا فقد النفوذ على مقلدي غيره فبشكل أولى لايكون له نفوذ وهيمنة على غيره من المراجع؛ لأنهم متساوون في الولاية، ولهم الحق الشرعي في إصدار مايرونه شرعياً من قرارات وفتاوى لمقلديهم، وقد جاء في كتاب الحكم في الإسلام مانصه: نفس هذه الولاية والحاكمية المتحققة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) موجودة لدى الفقيه مع فارق واحد هو أن ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين لاتكون بحيث يستطيع عزلهم ونصبهم؛ لأن الفقهاء في الولاية متساوون من ناحية الأهلية، فلاترجيح لأحدهم على الآخر لدى تعدد الفقهاء(36).

 كما ضمن الشيخ الأعظم المحقق الانصاري (قدس سره) هذا المعنى بقوله: وأما الحكام المراجع فكل منهم حجة من الإمام (عليه السلام)، فلا يجب على واحد منهم إرجاع الأمر الحادث إلى الآخر، فيجوز له مباشرته وان كان الآخر دخل فيه، ووضع يده عليه (37).

ومراجع التقليد يمتد نفوذهم على كل الأُمة الإسلامية؛ لأن الأُمة خولتهم قيادة أُمورها، بالإضافة إلى السلطة القانونية التي يمتلكونها بحكم الشرع الإسلامي، لكونهم جميعاً نواب الإمام المعصوم (عليه السلام) المستمد سلطته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والنبي من الله تعالى، لذلك قال الإمام (عليه السلام): ((والراد علينا الراد على الله، على حد الشرك بالله)) (38).

فإذا كان المراجع منتخبي الأُمة وجامعي الشرائط الشرعية فكلهم قادة الأُمة دون فرق لهذا على ذاك، ولذلك لايمكن إدارة شؤونها بغير الشورى والتنسيق المشترك والقيادة الجماعية بين الفقهاء المراجع.

الرابعة: صيغة الشورى

أن لشورى الفقهاء صيغتين يمكن الجري على كل واحدة منهما في تكوين تركيبة الحكومة.

الأولى: صيغة المشاورة المباشرة، وهي تتم عندما يشترك الفقهاء أنفسهم معاً لتدارس أُمور الدولة والحكم.

الثانية: صيغة المشاورة غير المباشرة، وتتم عبر اشتراك ممثلين عنهم يرجعون إليهم في حسم الرأي الأخير، كما يمكن الجمع بينهما أيضاً بأن يشترك قسم من الفقهاء مباشرة وقسم آخر بالوكالة ونحو ذلك، فأي من الصيغتين كانت أسهل وأسرع وأنسب للظروف وأقرب إلى التطبيق يفضل الأخذ بها.

الفقهاء والشورى

إن نظرية شورى الفقهاء ليست بالمسألة الجديدة في آراء علماء الإسلام أفرزتها أحداث العالم المعاصر وأوضاعه، بل هي قيمة صحيحة من أصل تشريع الأحكام الإسلامية ومبادئها السياسية لإدارة نظام الحياة، وهناك جمع من الفقهاء العظام والعلماء الأعلام طرحوا نظرية شورى الفقهاء في تعابير مختلفة واصطلاحات متقاربة المعنى، وحملوا لواء الدعوة إليها، وحاولوا تركيزها في الأذهان منذ القديم، منهم العلامة المجلسي في البحار حيث أكد (رحمه الله) أن الولاية إنما هي للفقهاء العدول الذين يرفعون لواء الإسلام، واستشهد بحديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ((يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد)) (39).

مما يظهر من بعض تعابيره وقرائنها أن الولاية لاتنحصر في فقيه واحد، بل تنقسم بين العديد من الفقهاء العاملين في إطار مشترك، وبتعبير مشابه وصف الأُستاذ المحقق الميرزا النائيني (رحمه الله) القيادة الإسلامية بأنها تتمثل في الفقهاء العدول العارفين بأُصول الدين وفروعه، وأضاف أيضاً: أن الشورى غالباً لاتسير بمسار الحكومة الفردية التي تؤدي إلى الاستبداد والغصب والقهر(40).

أما الإمام البروجردي (رحمه الله)  الذي كان من أبرز فقهاء عصره ودانت الأُمة بالولاء له وتقليده فهو الآخر أدلى برأيه في الشورى قائلاً: في كل مجتمع ثمة قوانين سياسية واجتماعية كالحرب والسلم وإدارة البلاد داخلياً وخارجياً، وكذلك القضاء وجمع الزكاة يجب أن يتولاهما زعماء السياسة والدين الذين يمتازون بالخبرة الدينية والحنكة السياسية، وأضاف (رحمه الله)  موضحاً رأيه:

أن الولاية لاتقتصر على الفقيه الواحد بما أن الفقهاء جميعاً نواب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) (41).

وقد تحدث آية الله السيد مرتضى الجزائري عن نظرية الشورى في لجنة الإفتاء التي تتشكل من مجموعة فقهاء تطرح بينهم المسائل الإسلامية المرتبطة بأُمور المسلمين عامة، ولأن الاتفاق على جميع الآراء أمر لايمكن تطبيقه لذا يستلزم على الشورى أن تستخرج الرأي الأوفق الذي تقضي به أغلبية الآراء، واستشهد في ذلك بأدلة أُخرى متعددة منها:

أولاً: أن الشورى تقلل من نسبة الخطأ الذي يصيب الفقيه الواحد، والحكم الفرد؛ لأن الأفكار بعد مرورها على عقول أغلبية الفقهاء ستتبلور بصورة دقيقة ومركّزة، وتدرس من جميع جوانبها.

ثانياً: عمل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشورى في مواقف كثيرة، ليس لأنه قاصر في فكره ومحتاج إلى تدبير الآخرين وإنما ليحث المسلمين على ممارسة الشورى عملياً.

ثالثاً: دلت العصور السالفة على اهتمام الفقهاء بمبدأ الشورى، ويعرف ذلك من خلال المصطلحات الفقهية التي ذكرت على شكل ((المتفق عليه – المشهور – الإجماع)) فقد ورد في رواية الاحتجاج ومرسلة زرارة أنه متى ما اختلف عالمان في حكم أو تناقض حديثان فينبغي اتباع أحدهما الذي تؤيده أكثرية آراء العلماء كما قال الإمام (عليه السلام): ((فإن المجمع عليه لاريب فيه)) (42).

ومن بين القائلين بضرورة تشكيل مجلس الفقهاء تجنباً لمشكلة الاستبداد في الحكم وتحقيقاً للنصوص الشرعية التي تعطي الولاية لجميع الفقهاء في حالنا الحاضر المرجع الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) الذي أتحف هذا الموضوع بالأفكار المستفيضة والأدلة المختلفة.

يقول في باب شورى المراجع(43):ولي الفقيه هو الفقيه العادل الجامع للشرائط والذي يكون مورد ثقة الناس وأهل الخبرة، فإذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول اختار المسلمون أحدهم رئيساً أعلى للدولة، ويحق لهم أن يختاروا جماعة منهم ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم، وهذا الثاني أقرب إلى روح الإسلام، حيث إن نظام الإسلام استشاري كما في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ)(44) وقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(45).

فإن إطلاق الآيتين يعطي أنه بدون الشورى لايصح الحكم إلاّ فيما خرج، مثل حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكم الإمام (عليه السلام)، وحكم من عينه نصاً مثل تعيين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أسيد على مكة، وتعيين علي (عليه السلام) مالكاً على مصر، فإنه لامجال للشورى مع النص في الموضوعات كما لامجال للشورى مع النص في الأحكام.

وعلى هذا فإن السلطة العليا في الدولة الإسلامية هي مجلس الفقهاء الذين هم مراجع تقليد الناس ومحل الأخذ والعطاء؛ لأنهم هم نواب الأئمة (عليهم السلام) وخلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال: ((اللهم ارحم خلفائي)) قيل: يارسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: ((الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي)) (46).

وفي حديث آخر قال الإمام (عليه السلام):

((أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله الحجة القائم محمد بن الحسن)) (47) فلا حق لبعض الفقهاء المراجع الاستبداد بالحكم لنفسه وطرد من سواه، فمثلاً إذا أرسل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثة أو أربعة ليحكموا بلداً فإن الواجب عليهم أن يتشاوروا فيما بينهم، ويعملوا في أُمور البلاد على حسب أكثرية الآراء، لاأن يستبد أحدهم ويطرد الآخرين، وعلى هذا فأُمور التقليد راجعة إلى كل المراجع، فلو فرضنا في البلاد الإسلامية ذات الألف مليون مسلم مائة من المراجع للتقليد، فهؤلاء هم السلطة العليا للأُمة، يديرون أُمور البلاد في السلم والحرب وسائر الشؤون بأكثرية الآراء.

كيف نعيّن الشورى؟

تبقى هنالك العديد من الأسئلة التي تثيرها مسألة شورى الفقهاء، فالكل يعلم أن ولاية الفقيه الواحد لاتعقيد فيها، فالحاكم واحد، والقرار واحد، والكل يجب أن يسمعوا للفقيه ويطيعوه، وتكون الولاية تبعاً لذلك الفقيه العالم العادل بانتخاب الأُمة له مباشرة ومن خلال أهل الخبرة والمعرفة، ولكن كيف يتم تعيين أعضاء مجلس شورى الفقهاء؟ وكيف يصعد الفقهاء الناشئون إلى ذلك المجلس؟ وفي ظل شورى الفقهاء كيف يكون مصدر النظام المرجعي أي التقليد وأخذ الحقوق الشرعية؟ هل تذوب الدولة في النظام المرجعي؟ وكيف يحصل ذلك والحال أن المرجعية ليس لها تنظيم قانوني مدوّن؟ أم يبقى كلا النظامين منعزلين عن بعضهما؟ كيف يبقى والحال أن الاسلام لايوجب إعطاء الخمس إلاّ مرة واحدة؟ فلمن يدفع الخمس للمرجع أم للدولة؟ وهل النظام الحربي مسموح به في ظل نظام شورى المراجع أم لا؟ وأيهما يكون تابعاً للآخر؟ وكيف يمكن التوفيق بين مشاركة النخبات المثقفة في الحكم؟.

وهذه الاستفهامات وغيرها يجيب عليها الامام الشيرازي (رحمه الله) الذي يقول في كيفية تعيين أعضاء مجلس شورى الفقهاء: كل جماعة من الناس تقلد أحد الفقهاء العدول المعاصرين، فإن هؤلاء الفقهاء يشكلون من أنفسهم شورى المراجع، ويقودون الأُمة بأكثرية الآراء، والحكم يكون في زمامهم، ففي قضايا التقليد من الصلاة والصوم والحج... إلى آخره فلكل جماعة مرجعها. أما قضايا الأُمة بصورة عامة من الحدود الدولية والحرب والسلم والاقتصاد العام والقضاء فإنها تصوب بأكثرية الآراء.

ويضع الإمام الشيرازي (رحمه الله) شرطين أساسيين لوصول هؤلاء الفقهاء إلى سدة الحكم، وهما:

الشرط الأول: المواصفات التي وضعها الله سبحانه للمرء حتى يكون مجتهداً فقيهاً، وهذه المواصفات هي أن يكون فقيهاً، مستنبطاً للأحكام، عادلاً، يعرف الدين، كفوءاً، قادراً على إدارة دفة الحكم.. إلى آخره.

أما الشرط الثاني: فنحدده بانتخاب الأُمة للفقيه، أي أن يكون له مقلدون، ويكون مورد ثقة الناس وأهل الحل والعقد، فإذا وجد فقيه عادل لاتقلده الأُمة فهذا بمعزل عن الحكم.

أما في كيفية صعود الفقهاء الناشئين إلى مجلس القيادة فيقول: إذا مات فقيه من مجلس القيادة أو مرض مرضاً شديداً فلايمكنه من مزاولة الحكم فان الفقهاء الباقين ينتخبون أحد الفقهاء الناشئين، فيسدون الفراغ، ويكون الفقهاء الناشئون في الحقيقة مساعدين ومعاونين للفقهاء الكبار العدول، فتدريجياً يصبح لهم مقلدون.

وعن مصير النظام المرجعي في ظل شورى الفقهاء يقول: الجماهير تنتخب المراجع كحكام والدولة هي التي ينبغي أن تذوب في نظام المراجع، وليس العكس، والدولة تتولد من شورى المراجع، فلهذا تكون المرجعية هي السلطة العليا كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فالولاية هي التي كانت تذوب في الرسول وليس العكس، والخمس لايدفع إلى الدولة بما هي دولة، وإنما يدفع إلى صندوق الدولة بما هو صندوق الفقيه.

فالناس في زمن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يدفعون المال للدولة ليس لأنها في قبال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لأنها نابعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فالمراجع هم السلطة العليا، والدولة تتشعب منهم، وتكون للدولة وزارة مالية، فالناس يحق لهم أن يدفعوا الخمس إلى هذه الوزارة مباشرة وبموافقة الفقهاء، ويبقى للمرجع حق التصرف في أموال مقلديه من الخمس والزكاة والجزية والخراج، ولكنه لايحق له أن يتصرف بهذه الأموال اعتباطاً، بل لابد أن يكون هناك شعب وأقسام ومصارف وموارد وماأشبه.

ولهذا فإن مالية البلاد تتكون من شعبتين أساسيتين: الأولى من الخمس والزكاة والجزية والخراج، فتكون هذه الموارد من طرف الولاية. والثانية من الثروة الاقتصادية والزراعية والطبيعية.. إلى آخره، وتكون هذه الموارد من طرف وزارات الدولة.

ويحق للفقهاء المراجع أن يكوّنوا أحزاباً لهم، وبالتعاون بين الأحزاب والفقهاء والجماهير يتم تعيين مجلس الشورى، ومن مجلس الشورى والفقهاء تتشعب القوة التنفيذية والقوة القضائية.

ويؤكد الإمام الشيرازي هنا على ضرورة وجود الأحزاب في الأُمة الإسلامية المرتبطة بالفقهاء المراجع، أي كل مرجع يعين حزباً ويخول عدداً من رجال الدين الواعين لتوجيه الجيل الصاعد، ويجعلون منهم حزباً إسلامياً أو تنظيماً إسلامياً حتى لاينخرط الشباب المسلم في الأحزاب الباطلة، ويكون هذا الحزب لكافة شرائح المجتمع من الطلاب والتجار والمثقفين والأطباء والمحامين والمهندسين وماشابه ذلك.

فمن هنا يصبح في الأُمة مراجع وأحزاب بيدهم الصحف والإذاعة والتلفاز موزعة فيما بينهم لكيلا تطغي قدرة على قدرة، فتكون أحزاب متعددة لكل مرجع، والحزب يكون تابعاً للمرجع وليس العكس؛ لأن الحزب بصفته مقلداً للمرجع، فلهذا فهو تابع له، واذا مات أحد الفقهاء يرتبط حزبه بالفقيه الجديد الذي يصعد إلى الحكم بصورة طبيعية، فيكون الفقيه الجديد الذي جاء بعد موت أحد فقهاء الشورى رئيساً للحزب الذي ذهب رئيسه كما يحدث في الأحزاب الديمقراطية التي يصعد فيها رئيس مكان الآخر، فيكون الحزب موالياً للرئيس الجديد.

وستشترك النخب المثقفة في الحكم بواسطة المراجع، فكل مرجع يجمع النخبة المثقفة المقلدة له من الموثوقين والمثقفين زمنياً ودينياً ليأخذوا بأزمة المجتمع، وحينئذ ستشكل مجموع النخب هرماً لولاية الفقيه، فيصبح المجتمع بذلك مجتمعاً واحداً غير متضاد وغير متحارب.

وهنا ربما يقول البعض: إذا كان مجلس شورى الفقهاء وهو أعلى قمة في النظام الإسلامي فمن له صلاحية مراقبة أعمال هذا المجلس؟ وهل يوجد مجلس مراقبة أم لا؟ وكيف يمكن عزل أحد الفقهاء إذا سقط عن صلاحية الحكم؟.

نقول: إن الذي يراقب الفقهاء هم الناس، وهذا خير مراقب لهم، ففي الحكومات الديمقراطية الناس يراقبون الدولة عن طريق الصحف والاذاعات والتلفزة، وبما أن القدرة تتوزع بأيدي الفقهاء فرداً فرداً، وهم يمثلون السلطة العليا في البلاد، وأن الصحف والإذاعات والتلفزة تعتبر في عداد القدرة، فإن كل فقيه يكون مراقباً من قبل الجماعات الأُخرى، فلايتمكن من الانحراف، وإذا انحرف الفقيه – فرضاً – أو فقد أحد الشروط فان عزله يصبح تلقائياً بواسطة:

1-سحب المقلد تقليده عن مرجعه لأنه رأى خللاً فيه، كأن أصبح كثير النسيان مما لايؤهله للاستنباط أو مجنوناً أو سفيهاً.

2-بعد أن يسحب الناس الثقة منه فإن على الشورى إسقاطه عن صلاحية الحكم، فيكون عزله عن طريق الجماهير والشورى.

هذا باختصار دور الشورى في حماية الحريات السياسية للأفراد وأهميتها في قيادة الدولة الإسلامية نحو الأهداف الإنسانية الرفيعة، ونوكل تفاصيل البحوث إلى الكتب المختصة بهذا الشأن.

* فصل من كتاب الحرية السياسية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

.................................................

(1) من الواضح أن المعجزة في الأمور الخارقة للعادة التي يعجز الناس عن الإتيان بمثلها، وكذلك الكرامة سوى أن الفرق بين المعجزة والكرامة هو:

أ) أن المعجزة تقع في مقام الإفحام والتحدي، بينما الكرامة في مقام إظهار الفضل لا التحدي.

ب) أن المعجزة تختص في الأنبياء والمعصومين عليهم السلام تأييداً لدعواتهم ومطابقة لها، بينما الكرامة تعم سائر الأولياء والصالحين. هذه بعض الفوارق الأساسية، وهناك فوارق أخرى ذكرت في علم الكلام فراجع.

(2) البقرة: 251.

(3) النساء: 58.

(4) مستدرك الوسائل: ج17، ص311، ح21439، باب 11 باب وجوب الرجوع الى رواة الحديث.

(5) مستدرك الوسائل:ج 17، ص 311، ح21439، باب 11 باب وجوب الرجوع في القضاء...

(6) الوسائل:ج 27، ص140، ح33424، باب 11 باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى...

(7) المصدر نفسه: ص 91، ح33295، باب 8 باب وجوب العمل بأحاديث النبي...

(8) الكافي:ج 1، ص 32، ح1.

(9) فقه الرضا (عليه السلام):ص 338.

(10) مستدرك الوسائل: ج17، ص316، ح21454، باب 11 ؛ منهاج الفقاهة:ج 4، ص 289.

(11) مستدرك الوسائل:ج 17، ص 316، ح21455، باب 11 باب وجوب الرجوع في القضاء...

(12) المصدر نفسه:ج 17، ص 244، ح21240، باب 4 باب عدم جواز القضاء والافتاء بغير علم...

(13) رسائل الكركي:ج 1، ص 142.

(14) عوائد الأيام: ص189.

(15) مستند الشيعة: ج17، ص 10.

(16) النساء: 59.

(17) راجع الفقه ((الحكم في الاسلام)):ص 26-28، ((بتصرف)).

(18) نهج البلاغة: ج1 ص91، الخطبة 40.

(19) مستدرك الوسائل: ج17 ص311، ح10439، باب 11 باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى..

(20) منهاج الفقاهة: ج4، ص283.

(21) البحار: ج6، ص60، ح1.

(22) وإن كانت هناك بعض الفروق الأُخرى بين الوكالة والعقد.

(23) آل عمران: 159.

(24) الشورى في الاسلام ((السيد محمد الحسيني الشيرازي)):ص 21 – 22.

(25) نقلاً عن شورى الفقهاء المراجع ((بتصرف)).

(26) الوهم هو مايقابل الظن، ويأتي بعد الشك، أي مادون 50% يعتبر وهماً، ومافوقه يعتبر ظناً، و 50% يعتبر شكاً، و100% يعتبر علماً، وهذا واضح.

(27) راجع (فرائد الأصول) مبحث تأسيس الأصل والانسداد.

(28) الدين والدولة: ص387.

(29) البحار: ج72، ص104، ح38.

(30) مجمع البيان:ج 9، ص 57 ؛ تفسير الصافي: ج4، ص378.

(31) الدر المنثور: ج6، ص 10.

(32) تهذيب الكمال: ج14، ص36 -37.

(33) عيون الحكم والمواعظ:ص 46.

(34) عيون الحكم والمواعظ:ص 476.

(35) للاطلاع على حدود القاعدة وشروطها راجع (منطق المظفر: ج1، ص130) وغيره من كتب المنطق في مبحث القسمة الثنائية.

(36) الفقه ((الحكم في الاسلام)): ص 36.

(37) كتاب المكاسب: ج3، ص 571.

(38) الوسائل: ج1، ص34، ح51، باب 2 باب ثبوت الكفر والارتداد...

(39) البحار: ج2، ص 93، ح22.

(40) تنبيه الأمة وتنزيه الملة:ص 46.

(41) البدر الزاهر:ص 52 – 57.

(42) الإحتجاج:ج 2، ص 107.

(43) هذه الآراء منقولة عن كتابي الفقه السياسة ص504 ومن أوليات الدولة الإسلامية ص47 لآية الله العظمى الشيرازي (رحمه الله) فراجع.

(44) الشورى: 38.

(45) آل عمران: 159.

(46) الوسائل:ج27، ص91، ح33295، باب 8 باب وجوب العمل باحاديث النبي...

(47) المحاسن:ج 1، ص 1.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 1/شباط/2010 - 16/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م