رئاسي

حيدر الجراح

اسطورة الحاكم الذي لا يعرف او لا يدري، وجدت لها حضورا قويا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، مع بروز نجم صدام حسين.. فكثيرا ما كان الناس حين يرون موظفا لايعمل او مدير دائرة، او شرطي يتعدى على المواطنين، كانوا يقولون : ما أدراه صدام حسين بما يفعله هؤلاء، او من اين له ان يعرف السيد الرئيس بهذه المخالفات ؟ او شيصير صدام حسين على كل واحد يخلّي شرطي.. الى اخر هذه التعابير.. وبعد سنوات طويلة اكتشف العراقيون ان السيد الرئيس كان يعرف ويدري بكل شيء..

ويتذكر من خدم في الجيش العراقي، في سنوات انتصاراته او انكساراته، بعض الوظائف التي كان يقوم بها جنود معينين، كان يكون مراسلا لاحد الضباط، يهيء له طعامه ويرتب سريره ويغسل ملابسه، وينظف غرفته، وكان التعبير الدارج لدى بقية الجنود حين يسالون هذا الجندي المراسل عن الضابط فانهم يستعملون تعبير (عمّك)، اين ذهب عمك ؟ متى يعود عمك ؟ هل عمك نائم ام مستيقظ ؟ الى اخر الاسئلة التي ترد فيها كلمة العم..وكان الكثير من الجنود يتملقون مراسل الضابط او الامر او المساعد، لما له من كلمة مسموعة لدى ضابطه المباشر..وخوفا من ان يشي باحد الجنود لضابطه وينقل له كلاما معينا او تصرفا ما..

ويتذكر من خدم في الجيش سابقا، تعبيرا اخر لوصف بعض البدلات العسكرية، والتي كان الجنود والضباط يزودون بها من وحداتهم العسكرية وكانت هناك حوانيت الجيش التي تستورد البدلات الزيتوني ذات النوعية الجيدة، من النطاق الى البيرية والبسطال، وكانت هناك بعض قطع الملابس التي اطلقت عليها تسمية (رئاسي) والتي يرتديها الضباط المحظوظون او المقربون وبعض الجنود في مناصب مخابراتية او امنية..وكانت هذه البدلات محل تباهي وتفاخر لمن يرتديها، فهي كثيرا ماكانت تشي بمكانته داخل وحدته العسكرية..

وقد ارتبطت كلمة (رئاسي) بالكثير من المدلولات السلبية حين اقترنت في الكثير من امورها بما كان يسمى ب (الحرس الخاص) لحاكم العراق ومهيبه الركن صدام حسين، فعرفت سيارة المرسيدس نوع (جامبو) بتسمية رئاسي..وكذلك الارزاق الموزعة للحرس الجمهوري والحرس الخاص والرواتب والاجازات والامتيازات الاخرى..

وقد ظهرت على اعتاب كلمة (رئاسي) مجموعات من المستفيدين (حرس خاص – حمايات – قوادون – فدائيو صدام) الى اخر المجموعات التي كان يعج بها الشارع العراقي..

وكان هؤلاء يتصرفون على الاغلب وفي المجتمعات التي حدث فيها تراكم قمعي مزمن كالمجتمع العراقي من دون رقابة ويصبح الامر خاضعا لنزوات هذه الفئة ومصالحها وهذا يهيء المناخ لظهور ادعياء يستغلون هذا الجو للادعاء بانهم يمثلون هذا الطرف من السلطة او ذاك من اجل ارهاب الاخرين وتمرير مصالحهم او فرض امزجتهم طالما ان احدا لا يجرؤ على التشكيك بهم او على التاكد من هوياتهم ووظائفهم ويتساوى في هذا اللص الذي يدعي انه يمثل الشرطة او المخابرات، مع الدجال الذي يدعي انه يمثل الدين..

وفي بعض الحالات يتسلط اولئك الذين يحملون الاستثناءات تحت ستار الواجب الامني وحماية المرحلة ومطاردة الاعداء في الداخل، فيتطاول على حرمات المواطنين وكراماتهم الشخصية والعائلية والدينية وحياتهم اليومية وهم انفسهم يفقدون احترامهم لكل سلوك منضبط (الا ماهم مضطرون اليه امام رؤساءهم) ويرون في طاعة الاخرين للقوانين انصياعا وخوفا مثيرا للاحتقار.

ولذلك كنا نراهم يريدون تحقيق اقصى درجة من المكاسب والغنائم باقصى سرعة ممكنة وباقل وقت ممكن وينقلون هذه المشاعر الى ابنائهم (عدي صدام حسين واطلقت عليه كلمة الاستاذ) فيعلمونهم التجاوز ويحمونه ومن ثم يصبحون مع ابنائهم غير راغبين في الانضباط في مدرسة او في قطعة عسكرية او في وظيفة فينجحون عنوة ويغشون علنا ويفرضون امتيازات دراسية ووظيفية لانفسهم او لابنائهم ويمنحهم هذا التمايز احساسا بالتفوق على الاخرين ان لم يكن امتيازا بالتفوق فهو الامتياز بالقدرة على التجاوز..

وهذا التفوق لايقف عند حدود الصلاحية الممنوحة بل يتجاوزها الى الاحساس بالامتياز الشخصي فيفرضون حين تتاح لهم فرصة التنظير اجتهاداتهم السطحية والقمعية بوصفها نظريات ومباديء وعلى نحو خاص ايضا حين يستثمرون اوضاعهم تلك لياخذوا شهادات عالية من البلد (شهادات الدكتوراة الفخرية لصدام وعدي وعبد حميد حمود) او البلدان الصديقة ثم ليتسلموا بناء على هذه الشهادات مناصب هامة في ميادين الاعلام والثقافة والاقتصاد والفكر والتخطيط وكلما كان المستبد حريصا على العسف كما يقول الكواكبي (احتاج الى زيادة جيش المتمجدين العاملين له والمحافظين عليه واحتاج الى الدقة في اتخاذهم من اسفل السافلين الذين لااثر عندهم لدين او وجدان)..

هؤلاء المتسلطون قادرون على تمرير أي شيء من دون ان تستطيع اية جهة مساءلتهم وهم بالطبع اتباع، المتسلطون هم الاتباع الذين يفرضون نفوذهم باسم نفوذ سيدهم (العم او الرئيس او الاستاذ) وهم يمررون أي شيء لانهم لايتعرضون للمساءلة ولا تتعرض سياراتهم او بيوتهم او اشخاصهم للتفتيش ايضا.. ولذا فان سياراتهم التي لاتفتش قد تدخل مخدرات او سلاحا او بضاعة مهربة وربما جواسيس.. وقد تكون للمتسلط التابع صفة رسمية (كأن يكون عنصر مخابرات او عنصرا في قطعة عسكرية لها موقع خاص في البلد) وقد يدعي هذه الصفة وقد لا يحتاج الى هذه الصفة اصلا يكتفي بكونه واحدا ممن يدورون في فلك (العم او الرئيس او الاستاذ) يخدمه ويلحس صحونه ويستفيد من اسمه في الحياة العامة..

ويزداد تسلط المتسلط هذا حينما يكون في خدمة مباشرة ل (العم) كأن يكون معه في المطعم او الملهى او في السيارة وهي تجوب الشارع او هو مكلف بالمرافقة الشخصية او وهو يستقبل (العم) في المطار او على الحدود او وهو يرافقه في العمل لكنه بعد انتهاء مهمته يحمل معه هذه السطوة شخصيا الى كل مكان..

والمتسلط يشتغل أي شيء لخدمة (العم) انه يغسل السيارة ويرتب المائدة وقد يكنس البيت ويطبخ وقد يؤمّن حاجات البيت كما يؤمّن النساء والمشروب والمخدرات والجلسات ويحرس المنزل وقافلة التهريب ويرافق (العم) خادما وحارسا شخصيا..وبما ان هؤلاء المخيفين الجدد كانوا خائفين في الماضي فان الانتقام من هذا الماضي يحول المجتمع كله الى مجتمع ثاري مصاب بالذعر..

و(العم) هو ظاهرة اخرى، انه مظلة (المتسلطين) وهو ايضا فوق القانون ويكتسب هذه الصفة غالبا لانه ابن احد المسؤولين او قريبه أي انه يضرب بسيف المسؤول مثلما يضرب المتسلط بسيف العم..

Garrah 1964 @yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 24/كانون الثاني/2010 - 8/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م