محمد مهدي البصير شاعر ثورة العشرين وخطيبها [1]

د.سعدي غزاي عمران

الولادة والبدايات

ولد الشاعر والناقد والباحث الموسوعي والخطيب والسياسي محمد مهدي محمد عبد الحسين البصير عام 1895 في مدينة الحلّة القديمة في محلة الطاق،  وهو ينتمي إلی أسرة ينحدر نسبها إلی قبيلة کلاب، و توارث أفرادها الخطابة علی المنبر الحسيني، وهو إبن الشيخ محمد بن عبد الحسين بن شهاب الدين. وقد أصيب شاعرنا بمرض الجدري وهو في الخامسة من عمره،فکفّ بصره،ولقب بـ(البصير) من باب تسمية الشيء بضده بسبب العمى الذي أصيب به،وعرف بهذا اللقب دون لقب عائلته، ومما يروى عنه في هذا المجال أنه زار الدكتور والأديب المصري المعروف طه حسين في القاهرة وقد كان قريب الشبه له بكل شيء في العمر والأدب والشعر وحتى الدراسة في فرنسا وقد كان صديقاً حميماً له وحين استقبله وسأله عن صحته قال البصير له: "هل تعلم بأن هذه الجلسة ينقصها الشاعر أبي العلاء المعري فهو تماماً يكملنا". والمعروف أن المعري قد أصيب وهو طفل بالجدري وفقد بصره تماماً كطه حسين والبصير.

المؤثرات الثقافية:

تلقّی البصير علوم العربية في مسقط رأسه، وأکثر من المطالعة، ونظم الشعر في صباه فأجاد فيه،وكان معجباً إلى حد كبير بشعر السيد جعفر الحلي الشاعر الحسيني المعروف، ومن بين الشعراء القدامى الذين تأثر بهم المتنبي والشريف الرضي وأبو العلاء المعري حيث قرأ دواوينهم وحفظ الكثير من أشعارهم حيث كان يتمتع بذاكرة قوية بلغت من الحدة بحيث إنه كان يحفظ القصائد الطوال بمجرد أن يسمعها لأول مرة.

النشاطات السياسية:

وفي عام 1919 تألفت في العراق جمعية سرية سياسية تدعى (جمعية حرس الاستقلال) كان من أهدافها استقلال العراق ومساندة الملك. وتوحيد كلمة العراقيين على اختلاف مللهم ونحلهم وطوائفهم, وطُلِب من البصير أن يؤسس لها فرعاً في مدينته (الحلة) فأسس الفرع وكان أمين سره. وقد استمر في عمله السياسي حتى قامت ثورة العراق الكبرى عام 1920م ضد الإنجليز فكرس أدبه وشعره وخطابته لتأجيج حماسة الجماهير الثائرة وقد ترك تأثيراً مباشراً فيها وصارت كلماته تدوي وتسمِع كما يدوي المدفع, وكان دوره فيها بارزا وصار يسمى بشاعر ثورة العشرين وخطيبها [2] ويروي السيد ممتاز عارف نجل المرحوم عارف حكمت احد مؤسسي الجمعية السرية الثورية (حرس الاستقلال) في بغداد جانبا من ذكرياته عن المرحوم د. محمد مهدي البصير وخطبه في جامع الحيدرخانة قائلا:

" اذكر الشيخ محمد مهدي البصير وانا في الصف الرابع الابتدائي في المدرسة الاهلية "مدرسة التفيض بعدئذ" فكان بعض الطلبة وانا منهم نحضر حفلات المولد النبوي التي كانت تقام في جامع الحيدرخانة وغيره من المساجد ايام كان الوطنيون يعقدون هذه الاجتماعات، وهي المناسبات التي هيأت المناخ لقيام ثورة العشرين المسلحة ضد الانكليز. كنا نحضر هذه اللقاءات بصحبة اوليائنا واقربائنا متلهفين للاستماع الى خطب وقصائد هذا الشيخ الشاعر القادم من الحلة. فكان عندما يعتلي المنبر يصل التصفيق له الى عنان السماء. وكانت الاكف تلتهب من شدته وتكراره والحناجر تبح من صيحات طلب اعادة انشاد قصائده المثيرة البليغة، فكان حقا واحداً من ابرز المساهمين بثورة العشرين... ولن انسى مشهد غضبه مرة في احد الاجتماعات الاولى في جامع الحيدرخانة اذ تقدم منه بعضهم لوضع خلعة على كتفه، فصرخ فيهم قائلا:"ارفعوا عني هذه الخلع فلست ممن يدافع عن الوطن لقاء المادة". وكانت العادة في السابق ان يخلع على خطباء الجوامع بعض الهدايا كقطعة من القماش او عباءة او غيرها"[3].

ويعد البصير اول شاعر عراقي دعا إلى ان تكون الثورة على المحتل البريطاني ثورة مسلحة لا مجرد خطب على المنابر واهازيج وخطب في الجوامع، بل  كان من الدعاة الرئيسين الذين اشعلوا ثورة العشرين، وقدم إلی بغداد في 1920م حيث کانت الثورة العراقية علی أشدّها، فشارک فيها مشارکة فاعلة من خلال الخطب والقصائد الحماسية في المناسبات الإجتماعية والدينية حتی اشتهر وسارت أشعاره وخطبه علی الألسنة حتى لقبته الجماهير بخطيب ثورة العشرين وقد مثل العراقيين لعرض مطالبهم أمام الملك فيصل الاول بعد تتويجه بيوم واحد وخطب ثائراً:  "نقبل بك.. علي أن.. ثم نقبل بك.. بعد أن... "وكان الحاكم البريطاني يستمع بتوجّع وغيظ، بينما أخذ البصير يصعّد من نبرته، وما ان خرج البصير من القصر حتي أصدر الحاكم البريطاني امراً فورياً باعتقاله ووضع في سجن إنفرادي كتب فيه البصير واحدة من أروع قصائده الثورية »البرلمان - اوديوانة«.، وقد حرّر في جريدة الإستقلال وغيرها، فحکم عليه بالسجن تسعة أشهر سنة 1921م، وخرج من السجن في العام نفسه ليواصل کفاحه الوطني، فنفي إلی جزيرة هنجام في الخليج العربي عام 1922م، وعاد إلی بغداد بعد تسعة شهور.

التفرغ للدراسة والتدريس

ثم إنه أنتدب لتدريس الأدب العربي في المدرسة الثانوية المرکزية وجامعة آل البيت سنة 1925، وفي سنة 1930م أرسل في بعثة دراسية إلی مصر ثم إلی فرنسا في السنة التالية فحصل علی شهادة الدبلوم في الدراسات الفرنسية من جامعة مونبيليه سنة 1932 ونال شهادة الدکتوراه في نفس الجامعة في الأدب الفرنسي عام 1937،وکان موضوع أطروحته حول الشاعر الفرنسي بيير کورناي (1606-1684م) المعروف بشعره التمثيلي الحماسي.

عاد البصير إلی بغداد في 1938م وعين في السنة نفسها أستاذاً في دار المعلّمين العالية،وواصل التدريس فيها أکثر من عشرين عاماً حتی أحيل علی التقاعد عام 1959م.

توفّي الشاعر محمد مهدي البصير في بغداد سنة 1974،ووري الثرى في مدينة النجف الأشرف.

آثاره

للبصير العديد من الآثار والمؤلّفات الشعرية والنثرية نذکر منها :

مجموعة شعرية صغيرة باسم« الشذرات » 1922م؛ المختصر وهو مجموعة من الشعر والنثر 1922؛ النفثات 1925؛ دولة الدخلاء 1925؛ بعث الشعر الجاهلي 1939؛ نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر 1946؛ في الأدب العباسي 1949؛ البرکان وهو ديوان شعر ضم قصائده السياسية 1959؛تاريخ القضية العراقية؛ شعر كورني الغنائي(الأطروحة التي تقدم بها لنيل شهادة الدكتوراه)؛سوانح(خطب ومقالات ومحاضرات)، کما نقل عن الفرنسية إلی العربية کتاب «أميل» لروسو، «وجريمة سلفستر بونار» لأناتول فرانس؛ وأصدرت له وزارة الإعلام في العراق «المجموعة الشعرية الکاملة» سنة 1977م.[4]

خصائص شعره

يعدّ الشاعر محمد مهدي البصير شاعراً مطبوعاً، نظم علی الطريقة التقليدية المدائح والمراثي والتهاني والاخوانيات، وقد تميزت أشعاره ببساطتها وسلاستها وخلوّها من التعقيد والغموض، وبموسيقاها العذبة الرنّانة نظراً الى اغراضها الثورية الحماسية، وکلماتها المؤثّرة، وقد إستطاع البصير أن يتقمّص روح الشعب العراقي لفترة من الزمان في أعقاب الحرب العالمية الأولی، حتي غدا لسانه الناطق في جانبه الثوري المنتفض ضد الإحتلال، فتحوّلت أشعاره إلی جزء من تاريخ العراق وثورته.

وللبصير بالإضافة إلی ذلک شعر رائق لطيف في الموضوعات الإجتماعية والوجدانية والوصفية لا تقلّ روعة عن أشعاره الوطنية.

المختار من شعره[5]

قال في وصف الحرب العالمية الأولی وهذه القصيدة تعكس لنا مهارة الشاعر في الوصف بشكل عام، ووصف الوقائع والحروب في نفس الوقت،وقدرته الفذة على استخدام الألفاظ والتعابير القوية ذات الإيقاع الشديد،والجرس الموسيقي الذي يقرع في الآذان ليقدم لنا صورة ناطقة حية عن واحدة من الحوادث الكونية التي عاصرها الشاعر :

وليلةٍ في جبينِ النجمِ قد رسمتْ                أمراً يسجّلُهُ  فيها لکَ القدرُ

أصْلَتْکَ في المأزق الغربيّ نارَ وَغیً             عنها تطايرَ في  آفاقِک الشّررُ

حيثُ المدافِعُ إن صَبَّتْ قذائفَها                ظَلَّتْ بِأحشائکَ الألغامُ تنفجِرُ

صُفّت علی طولِ خطِّ الجيشِ وانفلقتْ       معاً فکادَ السّما إذ ذاکَ ينفطرُ

تَمدُّ ألسنةً من نارِها إندلعتْ                 فينطوي الليلُ عنها  حينَ  تنتشِرُ

لم تنتظِمْ کبدَ الجوزاءِ ساطِعةً               حتی إنبرتْ فوقکَ الأشلاءُ تنتثِرُ

تَکَدَّستْ بکَ حتّی کوّنتْ جبلاً           يغشاکَ للدمِ سيلٌ عنهُ مُنحدِرُ

وکم کهذي لکَ الأيامُ مُضْمِرَةٌ           فلننتظِرْ  ما  ستأتينا  بهِ   الغِيرُ[6]

ومن أشعاره الوطنية التي يتغنّی فيها بوطنه وتعد من أشهر وأروع قصائده الحافلة بالمعاني الوطنية الثورية وقد ألقاها في جامع الحيدر خانه في بغداد بعد اعلان الثورة العراقية عام 1920ضد الإنجليز، وتتميز هذه القصيدة بالنفس الحماسي،والصدق في التعبير عن العواطف والأحاسيس، خاصة وإنها تتلاءم مع توجهات الشاعر الوطنية والثورية التي ظل مخلصاً لها،متمسكاً بها طيلة مسيرة كفاحه وجهاده دون تقلب وانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك :

إن ضاقَ ياوطني عليّ  فضاکا               فَلْتَتّسِعْ  بي  للأمامِ   خُطاکا

بکَ هِمتُ أو بالموتِ  دونکَ في الوَغی    روحي فداکَ متی أکونُ فداکا؟

هبْ لي بربِّکَ موتةً   تختارُها              يا موطني، أَوَلسْتُ مِن أبناکا؟

إن يندمِجْ جسدي بِتُربِکَ بالِياً             فلتقتَرِنْ ذِکرايَ  في  ذکراکا

أو يقتضِبْ نفسي فما لي مِنَّةٌ              أَوَ لم يمُنَّ  بهِ  عليَّ   هواکا ؟[7]

أو جُدْتُ في  نفسي  عليکَ فإنّما        هيَ کلُّ  ما عندي وبعضُ جِداکا[8]

کم أوْرَثَتْکَ  يدُ  السياسةِ علّةً           فاشربْ دمي  وأظُنُّ  فيهِ شِفاکا

ومن شعره في وصف الفرات والطبيعة في مسقط رأسه الحلّة حيث تتجسد لنا في هذه القصيدة قدرة الشاعر على وصف الطبيعة بأسلوب سلس تتدفق منه العذوبة ويعكس لنا الثروة اللغوية الهائلة التي يتمتع بها الشاعر وتمكنه من أساليب التعبير البليغة والتراكيب المتينة حتى لكأننا نقرأ قصيدة لأحد الشعراء من العصر العباسي،كما أن هذا الإبداع في وصف الطبيعة والإجادة فيه يجسد لنا مقدرة الشاعر في هذا اللون من الشعر بنفس مستوى قدرته في نظم الأشعار والقصائد الوطنية والحماسية اللاهبة:

يا حبّذا نهرُ الفراتِ وحبّذا               ماءٌ بهِ  عذْبُ المواردِ  صافي

والنخلُ باسِقةٌ کأنَّ ظلالَها             ثوبٌ عليهِ  مِن السّکينةِ ضافِي[9]

والطيرُ دائمةُ الغناءِ  کأنّها              کَلِفتْ بِسحرِ  مناظرِ الأريافِ

والنهرُ  في حُلُمٍ  کأنَّ خريرَهُ           نَفَسٌ  يرَدِّدُهُ   وليدٌ   غافِ

خلَعَ الأصيلُ  عليهِ  أجملَ صبغةٍ        فکأنّما  وشّاهُ نضحَ سُلافِ[10]

سَلِّمْ علی الفيحاءِ بابِلَ إنّها            فَياحَةُ  الأرجاءِ   والأکنافِ

تستنشقُ الأرواحُ عَرْفَ نسيمِها       قبلَ إنتشاقِ  شَذاهُ بِالآنافِ[11]

فَلَکَمْ نعمتُ بِها وقد نشرَ الحَيا       وشيَ  الربيعِ مَفَوَّفَ  الأطرافِ[12]

بالجوِّ أزهرَ  والرُّبی  مُخَضَّلَةٌ         وشَذا الحقولِ  يضَوِّعُ للمُسْتافِ[13]

والروضُ مصقولُ الأديمِ وإنَّما       صَقَلَتْهُ  کفُّ العارضِ الوکّافِ[14]

تَتَضاحَکُ الأزهارُ فيهِ  کأنّها        شَمَتَتْ بدمعِ  غَمامِهِ  الذَرَّافِ  

[email protected]

....................................................

[1] من الكتب التي ألفت حوله:محمد مهدي البصير،شاعراً لمنعم حميد حسن،سلسلة الأعلام والمشهورين،1980، محمد مهدي البصير رائد المسرح التحريضي في العراق لعلي محمد هادي الربيعي وقد صدر عن دار الصادق في الحلة.ومن المؤلفات التي ترجمت له وذكرت نماذج من شعره:مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين،ج5،مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري،الكويت،2001.

عن مقالة لجاسم محمد كاظم،متاحة في: www.kululiraq.com [2]

 [3] مقالة:ثورة العشرين في عامها التاسع والثمانين،نشرت في مجلة الف باء عام 1974م.

[4] انظر ترجمته في :أعلام الأدب في العراق الحديث 3/248وما بعدها،

[5] المصدر السابق ص 248-255

[6] الغير: الحوادث

[7] يقتضب: يقطع والمراد يختطف نفسي

[8] الجدی: الجود

[9] ضافي : واسع ومسبل

[10] نضح سلاف: المترشّح من الخمرة

[11] الآناف جع أنف

[12] الحيا: المطر، المفوف: الفُوفُ: البياض الذي يكون في أَظفار الأَحْداث، وكذلك الفَوْفُ، واحدته فُوفَةٌ يعني بواحده الطائفة منه، ومنه قيل: بُرْدٌ مُفَوَّفٌ.

[13] المستاف:أي الطالب للمزيد

[14] العارض الوکّاف: المطر الغزير

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/كانون الاول/2009 - 26/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م