قراءة في مؤلفات الشيخ عبد الحسين الاميني

جهوده الفكرية والعلمية

محمد طاهر محمد

 

شبكة النبأ: يعد الشيخ عبد الحسين الاميني -رحمه الله - من الشخصيات التي كان لها اثر كبير في بناء الصرح الفكري والثقافي للأمة الاسلامية ومن افذاذ العلماء الذين رفعوا من مستوى الامة على الصعيد العلمي والفكري والعقائدي، فكان لنشأته وسط بيئة علمية ابلغ الاثر في تكوين شخصيته وصقل مواهبه وثقافته وسلوكه.

عاش الشيخ الامييني حياة حافلة بالعلم والبحث والتدقيق تصل الى حد الوله بالكتاب ومن يستقرا كتبه يجد إن هذا الرجل قد أفنى عمره مع المصادر والمراجع وكرس كل طاقته في البحث والتحليل والتحقيق والتدقيق.

فمما يحكى عن عمقه واستغراقه وولعه بعالم الكتب والمكتبات انه لم يكن يعير اهتماماً لما كان يلاقيه من شدة وقسوة لتحقيق أهدافه الرسالية فلم يرى في حياته الذ من مسامرة الكتاب ومطالعته واستنساخه كما يروى عنه - رحمه الله - ايضاً انه إمعاناً في كشف الحقائق التاريخية لم يرق له الركون والاعتماد على ما نقل عن الأصول المخطوطة من تراث السلف بل اخذ على نفسه الوقوف على تلك المصادر ذاتها قطعاً للعذر وابطالاً للشك واجتثاثاً لدعاوي المشككين لم يكن يهمه ما يبذله من الجهد والعناء جراء أسفاره المتعددة من اجل ايصال الحقيقة فضل يبحث في المكتبات العامة والخاصة في مختلف ارجاء المعمورة ويشد الرحال الى أقصى بقاع الارض للوقوف على مصادر بحثه والتزود من فيض التراث الفكري الاسلامي وينقل نجله الشيخ محمد رضا الاميني عنه -رحمه الله - انه ساقه عزمه للرحيل الى الديار الهندية عام 1380 للأطلاع عن كتب على ما تضمنه مكتباتها الضخمة من المآثر الإسلامية والآثار الفكرية فقضى اربعة اشهر هناك متجولاً في الخزائن العلمية لهذه القارة وكان يقضي ليله ونهاره في بعض المكتبات بلا كلل أو ملل وقد وقف اثناء هذه الجولة على طائفة كبيرة من مأثر السلف غير مكترث بما تؤول اليه صحته فكان لا يبرح ملازماً المكتبات إلا عند انتهاء أخر لحظة من أوقات علمها وإذا عاد الى مسكنه عكف على مطالعة الكتب التي كان قد جلبها من تلك المؤسسات العلمية العريقة، وكانت ثمرة هذه الرحلة تأليف كتابه ثمرات الاسفار الى الاقطار.

وفي السنة الثانية أو بعد شهر من عودته من الهند سافر الى ايران لنفس الغرض ثم سافر الى سوريا عام 1384حيث قضى في ربوع هنا البلد اربعة اشهر وقف خلالها على ما تضمنته مكتباتها من ثروات فكرية وكنوز تاريخية وكان من ضمن المكتبات التي دون الكثير من مخطوطاتها هي: دار الكتب الظاهرية في دمشق ومكتبة مجمع اللغة العربية بدمشق ومكتبة الاوقاف الاحمدية بحلب والمكتبة الوطنية بحلب حيث قام الشيخ الاميني بوصف كل كتاب وقف عليه وقد أحصى ما طالعه من مصادره في هذه المكتبات بين مفردات وموسوعات فكان الرقم قد زاد على 250مصدراً، ثم سافر الى تركيا عام 1388 بغية الاطلاع على مصادرها القديمة حيث وقف على طائفة ضخمة من التراث الفكري واصول البحوث الاسلامية، واضافة الى سفراته هذه ومطالعاته للمكتبات في سوريا والهند وايران وتركيا فقد طالع جل محتويات المكتبات العلمية في النجف الاشرف العائدة لأعلام الفكر وعلوم الشريعة المرتبطة بمشروعه الكتابي كما سافر الى كربلاء وبغداد والكاظمية وسامراء للبحث والتقصي وجمع الوثائق والمعلومات والوقوف على المصادر والمراجع العلمية الكبرى للأخذ عنها واستنساخ ما يمكن استنساخه.

كان شيخنا الاميني -رحمه الله - يحسن من اللغات: التركية والفارسية والعربية وكان ذا ثقافة واسعة تجلت في مؤلفاته ففي كتاب (شهداء الفضيلة)  ترجم الاميني لأكثر من مئة وثلاثين شهيداً من العلماء الشهداء فأحصى في كتابه هذا ثمانية شهداء في القرن الرابع وخمسة في القرن الخامس وخمسة عشر في القرن السادس واربعة في القرن السابع واثني عشر في القرن الثامن وشهيداُ واحداً في التاسع وثمانية عشر شهيداً في القرن العاشر وسبعة في القرن الحادي عشر وأثنين وعشرين في القرن الثاني عشر وتسعة عشر في القرن الثالث عشر ومثلهم في القرن الرابع عشر وكان ابرز هؤلاء العلماء الشهداء الذين استعرضهم العلامة الاميني وترجم لهم هم الاديب الشاعر ابو الحسن التهامي المعروف ب (علي بن محمد بن الحسن العاملي الشامي) والامام أبو المحاسن وأبو علي الفتال النيسابوري وابن الراوندي والطغرائي والطبرسي الذي لم تشتهر قضية شهادته لأنها كانت بالسم والشهيد الاول أبن احمد العاملي النبطي الجزيني وهو أول من اشتهر بهذا اللقب عند الامامية وعلي بن أبي الفضل وسيد الحكماء أبو المعالي والسيد الفاضل الامير غياث الدين والعلامة المحقق الكركي والشهيد العاملي الثاني والشهيد الثالث شهاب الدين بن محمود بن سعيد التستري الخراساني والشيخ الجليل ملا احمد والعلامة القاضي التستري المرعشي والعلامة السيد محمد مؤس والعلامة المدرس أبو الفتح والفقيه الشيخ محمد والعلامة الشيخ محمد حسين الاعسم والعلامة الشيخ فضل الله ابن المولى عباس النوري وعشرات غيرهم ممن سقوا شجرة الإسلام بدمائهم الطاهرة في سبيل الدين وقيم الدين ولا ينكر ما يحتاجه هذا العمل من جهد كبير واطلاع واسع على المصادر التاريخية أما في كتابه (سيرتنا وسنتنا) وهي مجموعة محاضرات القاها العلامة الاميني في سوريا اثناء رحلته اليها عام 1384فقد حوت أجوبة وافية شافية لأسئلة وجهت اليه حول ما يقال عن غلوا الشيعة في حب اهل البيت وأقامة المآتم العزائية على سيد الشهداء.

فراح الشيخ الاميني يفند هذه التهم الباطلة مثل اتخاذ الشيعة تربة كربلاء مسجداً لهم فقال –رحمه الله- انهم  أي الشيعة لم يوجبوا اتخاذ تربة كربلاء مسجداً لهم ولكنهم جوزوا السجود عليها كما جوزوا السجود على جميع تراب الارض، وكل ما في الامر ان مغزى تربة الحسين (ع) التي يحب الشيعة السجود عليها أنما هي لإبراز حبهم لابن بنت النبي (ص) وانشدادهم اليه وسيرهم على نهجه، وانهم - أي الشيعة - (وعلى لسان الاميني) يريدون القول: - (هذا حبنا، وهذا حسيننا وهذا مأتمنا وهذه كربلاؤه وهذه تربته وهي مسجدنا والله ربنا وان سنتنا وسيرتنا انما هي سيرة وسنة نبينا محمد (ص)) .

أما في تحقيقه لكتاب كامل الزيارات لشيخ الطائفة الطوسي والذي نقله الثقات من علمائنا وأسند الى الائمة الطاهرين بعدة طرق حتى بلغ رواته على الستمائة راوً فقد حققه الشيخ الاميني وجاء في نهاية تحقيقه النص التالي: -(لقد تحرينا غاية الدقة ف طبع هذا الكتاب القيم بمقابلته أي مقارنته مع نسخ عريقة في الدقة والصحة منها نسخة عتيقة مصححة بتصحيح العلامة ثقة الاسلام النوري ونسخة أخرى مكتوبة في أوائل القرن التاسع وغيرهما من النسخ التي وقفنا عليها في العراق وأيران)  ثم قال (لم يقنعنا ذلك حتى رجعنا في تصحيح جميع ما في الكتاب الى مصادرنا المعتمدة كالوسائل والبحار والمستدرك وغيرها من كتب الرجال المعتبرة لأصحابنا رضوان الله عليهم) .

أما في تفسيره لفاتحة الكتاب والذي يعد من اولى مصنفات الاميني فقد اوضح ما يستفاد من تفسير لآيات الله البينات الواردة في هذه السورة وهي مسائل التوحيد والقضاء والقدر والجبر والتفويض وذلك من خلال ما ورد عن رسول الله (ص) واهل بيته (ع) كما تناول الاميني في تفسيره هذا مسائل الصفات أي صفات الذات الالهية وصفات الفعل والعلم الاجمالي والتفصيلي والمشيئة الازلية والمحدثة والإرادة التكوينية والتشريعية وغير ذلك من المسائل الكلامية والفلسفية المعقدة التي تبحث بعض العقول عن اجوبة شافية وافيه لها.

أما موسوعته الخالدة الغدير فهي ثمرة جهد وجهاد نصف قرن من عمر الشيخ الاميني درس فيها قضية الخلاقة والامامة وما ارتبط بها دراسة علمية وبحثها بحثاً توثيقياً على ضوء منهج البحث في علم الرجال والرواية وادلة العقل والنقل والاستشهاد وبمشاهير أصحاب الرأي والفكر والأدب، ويعد هذا الكتاب الخالد خطوة رائدة على طريق اعادة كتابة التاريخ لما حوي من تحقيق وتمحيص.

وعن سعيه الحثيث في البحث والتدقيق العلمي ومعاناته في الحصول على المصادر يذكر بعض المقربين عن الشيخ الاميني انه وصل يوماً الى طريق مسدود في احد ابحاثه لان الكتاب الذي يوصله الى مخرج من هذا الطريق كان مفقوداً وبدونه تبقى حلقة مفقودة لابد من ايجادها لإتمام بحثه حتى قيل له ان الكتاب بحوزة وجل من أهل السنة يسكن منطقة الاعظمية فقصده شيخنا فدهش ذلك الرجل من هذه الزيارة غير المتوقعة لرجل مثل الاميني يقول الشيخ الاميني:

قلت له: علمت ان في مكتبتك الكتاب الفلاني وقد جئت من النجف لأطالعه وأعيد اليك، فدعا الرجل شيخنا الاميني للصعود الى المكتبة ويواصل الشيخ الاميني حديثه قائلاً (دخلت المكتبة وشاهدت الغبار على جميع أجزائها والكتب مبعثرة هنا وهناك وكأنها مهجورة ولم يمسها أحد منذ زمن فتركني صاحب المنزل وحدي ونزل وعند ذلك فتحت حزامي ووضعت عمامتي وقبائي فيها وغطيتها من الغبار وابتدأت بتنظيف الكتب وإزالة الغبار عنها، وكان الجو شديد الحرارة وكنت أتصبب عرقاً وحيث لا مروحة ولا ماء ولا طعام وأختلط الغبار بالعرق وغطى المزيج وجهي وأطرافي وانا مشغول بمطالعاتي واستنساخي حتى العصر في تلك اللحظة طرقت الباب وجاء صاحب الدار والنعاس في عينيه فاستحى حين رآني في تلك الحالة ثم تعجب اني ما زلت هنا كيف وبلا ماء ولا وضوء ولا طعام وعندها جيء للشيخ بالماء وبعض الطعام فتوضأ وصلى وراح يستنسخ ويقرأ وأخذ ما يريد).

وهناك حكاية أخرى تدلنا على مدى شغف الشيخ الاميني في استقصاء الحقائق من المصادر والسعي لأستحصال الكتب المعتبرة التي تهم بحوثه وخلاصة هذه الحكاية انه بكى يوماً لأنه لم يستطيع العثور على مصدر لهم من مصادر بحثه الذي نذر عمره له فطرق باب أمير المؤمنين (ع) قائلاً له (إن الكتاب كتابك والغدير لك وأسألك بحقك ومقامك عند الله ان تساعدني في العثور عليه)  ويواصل الاميني حديثه (بعد أن نمت قليلاً نهضت واذا بطارق يطرق الباب وهو جارنا الذي كان يعمل بناءً يقول: شيخنا انني اشتريت داراً جديدة أوسع من هذه ونقلت معظم الأثاث فوجدت هذا الكتاب القديم في زاوية من زوايا البيت فقالت لي زوجتي: أن هذا الكتاب لا ينفعك فلماذا لا تهديه الى جارنا الشيخ الاميني ؟ وعندما قدم الكتاب الى الشيخ وإذا به نفس الكتاب الخطي الذي كان الشيخ يبحث عنه منذ شهور، وهناك قصة ثالثة جرت مع الشيخ الاميني في معاناته في العثور على المصدر الذي يبحث عنه وهو انه - رحمة الله - احتاج الى كتاب (ربيع الأبرار) للزمخشري وكان هذا الكتاب قبل ان يطبع وينشر خطياً ونادراً ولا توجد منه سوى ثلاث نسخ خطية واحدة منها عند الامام يحيى في اليمن والثانية في المكتبة الظاهرية بدمشق والنسخة الثالثة عند احد المراجع في النجف الأشرف ولما توفي هذا المرجع ورث المكتبة - بما فيها هذا الكتاب - ولده، قصد العلامة الاميني بين هذا العالم وطلب من ولده الكتاب استعارة لمدة ثلاثة ايام فقط ولكنه امتنع فالتمسه الشيخ يومين ولكنه امتنع ايضاُ... يوم واحد امتنع كذلك يقول الشيخ الاميني: (قلت له اعرنيه ثلاث ساعات فرفض فقلت له: اسمع لي ان أطالعه عندك في دارك فأمتنع مرة اخرى وهنا يئست منها تماماً)  ولم تنفع توسطات المرجعين ابي الحسن الأصفهاني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في اعارة الكتاب وبعد ان اصاب اليأس شيخنا الاميني من الرجل والكتاب قصد كعادته الحرم المطهر لأمير المؤمنين وهو يتوسل بالله في الحصول على ذلك الكتاب فرأى فيما يرى النائم الامام (ع) وهو يقول: أن جواب سؤالك عند ولدي الحسين فأستيقظ أثر ذلك وكان وقت الفجر وارتدى ملابسه قاصداً حرم سيد الشهداء في كربلاء وبعد ادائه الزيارة جلس في احد الاواوين اقبل اليه خطيب كربلاء الشيخ محسن ابو الحب وبعد السلام والتحية دعاه ابو الحب الى داره القريبة للاستراحة وبعد استراحة قصيرة قال شيخنا للشيخ ابو الحب: أرني مكتبتك فلما رافقه الى مكتبته جعل يتجول فيها ويتصفح الكتب وفيما هو كذلك واذا به يشاهد ضالته المنشودة كتاب ربيع الأبرار للزمخشري يقول الشيخ الامين: ولما مسكته بيدي تأكدت انه هو لا غيره خنقتني العبرة واجهشت بالبكاء فجاءني صاحبي مستغرباً ومستفسراً فحدثته عن قصة الكتاب والرؤية وكيف ان الامام (ع) حولني على ولده (ع) الذي قادني اليك والى مكتبتك والكتاب وفيما يسمع الشيخ محسن ابو الحب تلك الحكاية ترقرقت عيناه بالدموع هو الاخر وقال لي: شيخنا الجليل ان هذا الكتاب الخطي يعتبر من النوادر، وان قاسم محمد الرجب - وهو صاحب اكبر مكتبة في بغداد آنذاك - وهي مكتبة المثنى دفع لي مبلغ الف دينار لشرائه وطبعه ولكني رفضت ذلك - وكان ذلك المبلغ في حينها يعتبر مبلغاً ضخماً يكفي لشراء دار - بعدها أخرج الشيخ أبو الحب قلمه من جيبه وكتب عليه إهداءه الى العلامة الاميني قائلاً: هذا جواب حوالة سيدي الإمامين العظيمين علي والحسين (ع).

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 5/كانون الاول/2009 - 17/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م