سؤال الطائفية في الخليج

أحمد شهاب

سؤال الطائفية لا يقف عند أعتاب المنطقة الخليجية، ولا يقتصر على أبنائها، لكنه يبدو أكثر تشددا وغلظة في ربوعها، ويعود ذلك إلى ظروف التَّبيئة التي يُمارسها رجل الدين لدى مزاولته مهنة قراءة النص الديني وتفكيكه. فمفهوم الستر يلتمس أثر البيئة الخليجية الميالة إلى المحافظة والتشدد في حجب المرأة عن المجتمع. ومفهوم الشورى الإسلامي الواسع يضيق بضيق الإدارك القبلي بمسألة المشورة وحزم الرأي عند سيد القبيلة، والاختلاف الطبيعي بين الأفراد يتحول إلى رغبة في عزل الفئات المختلفة وتوحيدهم بالقسر تحت راية مذهب واحد ورأي فقهي محدد.

لقد عانت المنطقة الخليجية جراء هذا الميل إلى الإقصاء والتهميش الدينيين، أكثر من سواها، وسيطرت الرغبة في تعميم مدرسة فقهية في الخليج على ما عداها حُقبة طويلة من الزمن، لاتزال الكثير من المجتمعات الخليجية تعاني من آثارها وامتداداتها، ويبدو لي أننا بحاجة ماسة إلى تفكيك منظومة الطائفية والتحيز المذهبي داخل دول الخليج، والعمل على توسعة مساحة الإدراك الديني للخروج من حلقة الارتهان إلى الحالة الطائفية ومتوالياتها السياسية والاجتماعية.

وأُقر بدءا بأن الطائفية سيرورة اجتماعية لا يمكن أن تنتهي، وهي تقوم على تجاوز الأزمنة والأمكنة، ولا تكاد تتوقف في مكان، حتى تنشب في مكان آخر، ولا تهدأ في مرحلة حتى تعود في مرحلة تالية. والمخيف في الأمر أنها حين تعود فإنها تأتي بشكل أكثر حدة وشراسة من سابقتها، وكأنها حين تعود تستبطن في جوفها «رغبة متوحشة» في تعويض ما فلت منها، فهي إن حملت في مرحلة ما صفة «الاختلاف الفكري»، وأجلت الصراعات الاجتماعية لمصلحة الصراعات الفكرية، فإنها تحمل في مرحلة لاحقة صفة الاستهداف الاجتماعي، وإن تراجع الهم والأثر الفكريين.

 من المؤكد أن الانتماء للطائفة والمذهب الديني، هو حق مشروع لكل أفراد المجتمع بلا استثناء، ولا يمكن لجهة ما أن تسلب هذا الحق من أحد، وإلا اعتبر من صنوف الاعتداء السياسي والقهر الفكري غير المبررين، فهو حق ثقافي يُجسد من خلاله الفرد تعبيراته الحرة عن ذاتيته وخصوصيته، فالانتماء للطائفة والمذهب يحفل بقيمة ثقافية واجتماعية لا تختلف كثيرا عن الانتماء إلى الأسرة والقبيلة والوطن، وإن اختلفت الأطر والعناوين المستهلكة.

 لكن تحول الطائفة إلى طائفية، والمذهب إلى مذهبية، يعني تحولها إلى حالة إقصائية لا تستطيع إحداها أن تتعايش بسلام وتراض مع الآخرى، بل لا ترى إمكانية أن تقوم واحدة إلا عبر تهميش الأخرى والقضاء عليها أو تضعيفها، فالطائفية إنما تُعبر عن أقصى درجات العنصرية، وتشير إلى الرغبة في تعزيز الذات على حساب وجود الآخر، إذ يمكن أن تتعايش الطوائف في وطن واحد، لكن لا يمكن أن تتعايش الطائفيات في مكان واحد.

ويمكن للطوائف أن تحمل فكر التسامح تجاه الآخرين، وتدفع نحو ثقافة التعايش السلمي بين المواطنين على الرغم من اختلافاتهم الفكرية والدينية، وتنفتح الواحدة على الأخرى بعقل واع، ورغبة في التفاهم والتعاون دون عقد وأزمات اجتماعية وسياسية، لكن لا يمكن للطائفيات والمذهبيات إلا أن تتشدد تجاه الأطراف المغايرة، وتُحجِّم من مساحات العيش المشترك، فالأوطان تضيق بالطائفيين والمذهبيين العنصريين، في الوقت الذي تتسع للطوائف والمذاهب.

إن المنحى الطائفي في التدين لا يقف عند حدود الاستعداد للتصادم مع من يعتبرهم الفريق المتطرف أنهم يحملون الانحراف في سلوكهم اليومي، بل تنطوي المنظومة الطائفية على نزعة عدائية ضد كل أشكال الاختلاف والتنوع، بحيث تعمل على تصوير كل أتباع الطوائف الأخرى على أنهم في جبهة واحدة يقفون في مقابلها، وتعتبر نفسها الأكثر قدرة وإمكانية على التعبير عن الدين، فيما تُصنِّف المدارس الدينية الأخرى على كونها مدارس منحرفة بدرجة ما عن الإسلام الحقيقي، لأنها تؤمن بفكرة لم يتعرف عليها شيخ الطائفة من قبل، أو لأنها تُحيي شعيرة دينية لم يتذوقها رجل الدين المتشدد في سالف أيام شبابه.

 هكذا تحول السؤال الديني في الخليج على وقع انغلاق بعض جماعاته وفرقه إلى سؤال التخلف والتأخر، بدلا من سؤال النهضة والتقدم، وفسحت التَّبيئة القبلية للمفاهيم والإرشادات الدينية المجال لتوقف الإبداع الفكري والثقافي عند حدود مدركات القبيلة لا مدركات النص الديني، ما دفع بالخطاب الطائفي المُغلف بأطروحات متشددة ومنغلقة على ذاتها للتقدم والحضور وتسجيل انتصارات موهومة في الساحة.

في المقابل تراجع الخطاب الوحدوي الجامع الذي يميل إلى العقلانية والواقعية، وتوارت القدرة على محاكاة النص الديني بإبداعية حضارية ملهمة، وهو ما أنعش سوق الخطباء والمتحدثين، وكُتاب القطعة الدينية الطائفية وكل من لديه بضاعة رديئة يُقدمها لجمهور عريض مُتعطش للاستماع لكل ما هو أسطوري، وغير واقعي، وضيق على المستوى المعرفي، ولكنه يرسم في ذهن أتباعه ومريديه حال نجاة افتراضية.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/تشرين الثاني/2009 - 12/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م