ضمانات الحريّة السياسيّة

الشيخ فاضل الصفار

لعل من المتفق عليه أن طغيان القدرة السياسية واستبداد الأنظمة السلطوية تعد من أكبر المشاكل والأزمات الحادة والعويصة التي سايرت الحياة الإنسانية على طول التأريخ، وعانت منها الأُمم والشعوب أشد المعاناة والمحن؛ إذ كانت ولا تزال أزمة الحرية من أهم الأزمات القائمة في العالم وإلى اليوم، إذ لم تتمكّن حتى أفضل الأنظمة والقوانين الديمقراطية في العالم من إيجاد حل ناجح لها يتكفل بضمانات مبدئية واضحة تحول دون تعدي الحكومات على شعوبها، أو إعطائها دوراً ملموساً في القرار السياسي وإدارة البلاد؛ وذلك لأن الطبيعة الذاتية والأولية للقدرة هو التعدي والتطرف والطغيان ما لم تقف أمامها حدود وقيود.

قال تعالى: (إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ* أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ)(1).

وقال علي (عليه السلام): (( آفة الاقتدار البغي والعتو )) ([2]).

ومن هنا سعت بعض الأنظمة العالمية وعقلاء العالم على إيجاد حلول منطقية وصائبة ولو نسبياً للحؤول دون طغيان الحكومات وديكتاتورية الحكام.

ولكن الحقيقة المرّة التي يصعب على الكثير من أصحاب المبادئ الديمقراطية الوضعية الاعتراف بها هي الإعلان عن عجزها أمام هذه المشكلة المستعصية على الحل، وفقدان الوسائل السليمة لتحجيمها، أو القضاء عليها كلياً، حيث يظهر فشلها الذريع في ذلك من خلال المواقف الضعيفة أو المنهزمة الكثيرة والمتكررة التي تتخذها تجاه الأحداث العالمية، حيث ماتزال تطرق طبول الحروب العالمية والمحلية هنا وهناك من دون أن تتمكّن حتى هيئة الأُمم المتحدة ومجلس الأمن من إلغائها، أو إيجاد سبيل للسلام التام يلغي مخاطرها، أو يحد منها، ولاتزال الهجمات الاستعمارية وأطماعها تشغل العالم وتهدده بالفناء من غير أن يجد لها العالم حلاً للحد منها، ولازالت صراعات النفوذ وسباق التسلح بين الدول العظمى تنذر بوقوع عاصفة تقود العالم إلى الدمار، ولا زالت الدول الضعيفة تئن من وطأة المؤامرات العالمية والمخططات الاستعمارية الطامعة بالتهامها.

وإلى هذا اليوم الذي تتمتع فيه البشرية بنعمة الحضارة والتمدن الصناعي الراقي هناك شعوب تئن من الجوع والفقر والحرمان ونقصان التغذية، وتعيش أسوأ حالة عرفتها الإنسانية في تأريخها القديم، وإلى هذا اليوم الذي تفتخر فيه شعوب العالم بسيادة القانون والأنظمة الديمقراطية توجد شعوب كثيرة وكثيرة جداً تعاني من مأساة الاستبداد وقمع الديكتاتورية.

وفي كل يوم تصك أسماع العالم هتافات الحرية والمبادئ إلانسانية وضمان حقوق إلانسان في الحرية والأمن والسلام، ولكن تعيش شعوب العالم الثالث بأجمعها في حالة ترثيها حتى شريعة الغاب من القتل والتعذيب النفسي والبدني والأرهاب المتواصل في الليل والنهار، وغيرها وغيرها من الأزمات والمشاكل المأساوية الكبيرة، وكلها ناشئة من الطغيان السلطوي واستبداد القدرة وتحكيم قانون القوة والغلبة على المبادئ والقيم إلانسانية الحقة، أليس كذلك؟ وأليس في ذلك الفشل الذريع؟

طبعاً لا نريد أن ندعي أن الديمقراطية لم تذهب وراء الحل أبداً، وإنما أثبتت الأحداث والتجارب العديدة التي كشفها لنا التأريخ السياسي المعاصر للأنظمة الديمقراطية أنها عجزت عن إيجاد الحل الذي يرفع من هذه الأزمات، ويقضي على المشاكل العالمية والمحلية الناجمة من طغيان القدرة تماماً؛ وذلك لأن عصارة ما جاءت به الديمقراطية للوقوف أمام الديكتاتورية والطغيان هو قانون الانتخابات وتسليم السلطات السياسية بأيدي الشعب أو البرلمان، إلا أن هذا وحده أيضاً غير كاف لمنع الاستبداد؛ وذلك لأن الديكتاتورية وإن ارتفعت نسبياً من القانون وطريقة التنصيب الشرعي الذي يصل بالحاكم إلى السلطة إلا أنها انتقلت ثانية إلى من بيده القانون وشرعية الحكم، وأصبحت المشكلة كامنة فيهم هذه المرّة؛ إذ بات أعضاء البرلمان وأبناء الشعب آلة طيعة بيد المال، ورأس المال يسيرهم حيث أراد، ويملي عليهم شرائطه وأفكاره بواسطة أجهزته الإعلامية وجماعات الضغط وتكتلات اللوبي.

ومن هنا أصبحت الديمقراطية جوفاء تدور في حلقة مفرغة، بل باتت أغلب مبادئها وأهدافها التي رفعتها في سبيل الحرية والإنسان وسيلة مقنعة يستخدمها الأقوياء وأهل المطامع للوصول إلى أهدافهم، أليس الاستعمار وليد أمريكا وبريطانيا والدول الأُوربية التي تنادي بالديمقراطية؟ وإسرائيل تحميها الديمقراطية العالمية؟ والحكام المستبدون المحلّيون هم عملاء الديمقراطية؟ والحروب الهوجاء الناشبة في كل بقعة وأرض من البلدان الفقيرة والمتجددة في كل شهرين ونصف تقريباً في العصر الحديث إفرازاً واحداً من إفرازات الديمقراطية؟ والانقلابات العسكرية المدبرة في الليالي المظلمة ضد الشعوب العزلاء أليست من تصديرات الديمقراطية؟ وأليست الأسلحة الكيمياوية والجرثومية والقنابل الذرية والنووية وأمثالها من عطاء الديمقراطية؟ وأليست التفرقات الطائفية والقومية والعنصرية وأسباب النزاع والتفرقة في العالم هذه كلها من نتائج الديمقراطية؟

فأين الحل إذاً؟ وكيف سينجو الإنسان والبشرية أجمع من هذه الأزمات والمشاكل؟ نقول: إن الحل لايكمن في الديمقراطية ولا في مبادئها؛ وذلك لأنها:

1-اتجهت في حل الأزمة تجاهاً ماديا يراعي في مواقفه بدن الإنسان وغرائزه وشهواته الجسمية، ولم تتوجه إلى روح الإنسان وعواطفه وضميره، مع أن الحل الحقيقي كامن فيه؛ إذ كان لها أن تضع طرقا وأساليب لتهذيب سلوك الإنسان وتطهير ضميره ووجدانه؛ إذ إن الروح هي التي تسير الإنسان وتستخدم وسائله لا البدن،فإذا كانت الروح سليمة كانت مواقفه وتصرفاته سليمة أيضاً، ومن دونها تقصر المشكلة عن وجدان الحل وإن راقبتها أو حددها القانون.

2-سيطرة التجارة ورأس المال على المبادئ الديمقراطية، وبذلك أصبحت أغلب مبادئها رأسمالية ولكنها في قالب برلمان وصورة ديمقراطية، ومن الواضح أنّ من تقوده أطماع رأس المال لا يعرف لغيره أية قيمة أو ثمن، فيبالغ في كسبه وتحصيله ولو أدى إلى سحق الناس والدوس على مبادئهم وإشعال نار الحروب، وللدلالة على مانقول ننقل لك إقراراً صادقاً صدر على لسان((ايزنهاور)) لدى انتهاء ولايته الحكومية في عام ((1961)) وهو من أكبر الزعماء الأمريكيين من باب ((من فمك أدينك)) قال:

إن الولايات المتحدة لم تعرف صناعة الأسلحة حتى نشوب آخر حرب عالمية، وأصبحنا من ذلك الحين مكرهين على أن نخلق صناعة الأسلحة ذات أبعاد شاسعة، وأضفنا إلى هذه الصناعة ثلاثة ملايين ونصف من الرجال والنساء يرتبطون بالمؤسسة الدفاعية ارتباطاً مباشراً، وأصبحنا ننفق سنوياً على الأمن العسكري أكثر من الدخل الصافي للشركات الأمريكية.

وهذا التواتر بين مؤسسة عسكرية ضخمة وبين صناعة كبيرة للأسلحة هو تجربة أمريكية جديدة، ولذلك فإن كل مدينة وكل مجلس من مجالس الولايات وكل إدارة من إدارات الحكومة الفيدرالية تشعر بالتأثير الكلي لهذه البدعة الجديدة، سواء كان هذا التأثير اقتصادياً أو سياسياً أو روحياً.

ونحن نقر بحاجتنا لمثل هذا التطور ولكن علينا أن لا نغفل عن مضاعفاته؛ لأن هذه المضاعفات تدمر عملنا ومواردنا وحياتنا، اي إنها تدمر بنية مجتمعنا، فيتوجب علينا أن نحذر من اكتساب ((المركب العسكري الصناعي)) لقوة تأثير في مجالس الحكومة، سواء سعى المسؤولون عنه لاكتساب هذا التأثير أو لم يسعوا إليه، ويكمن في مثل هذا التأثير خطر كارثي وهو خطرنشوء قدرة تحل محل جميع القدرات الأُخرى، وهو خطر موجود ويمكن ان يستمر.

فعلينا أن لا نتيح مطلقاً لقوة هذا المركب الجديد أن تهدد حرياتنا وعملياتنا الديمقراطية، ولابد أن يكون المواطنون في حالة يقظة وبصيرة تمكنهم من إكراه الآلة الدفاعية الصناعية العسكرية على أن تظل خاضعة لأساليبنا وأهدافنا السليمة، وتؤمن لهم أن يضمنوا نمو سلامتنا وحرياتنا معاً([3]).

كل هذا مع الغض عن النقصان الذاتي في الفكر الديمقراطي عن استيعاب كل جوانب الإنسان وحل مشاكله وحاجاته.

كيف نضمن الحرية؟

ولكن وبعد فشل الحلول الديمقراطية لهذه الازمة نتساءل هل هناك بديل يتكفل لنا حل الأزمة بأساليب صحيحة، ويضمن لنا ولشعوب الأرض أجمع الطمأنينة والحرية والسلام؟ وهل هناك علاج شامل ومستوعب يمكن أن يلبي لنا وللإنسانية أجمع حقوقها الأساسية في العيش الحر الكريم بعيداً عن الحرب، وبعيداً عن الديكتاتورية والإرهاب؟..

الجواب: نعم، إن الحل موجود في إلاسلام وحده وحسب، فتعالوا معي لنرى كيف يعالج الإسلام أزمة الديكتاتورية؟ وما هي السبل التي يسلكها لحماية الحرية والإنسان من السحق والمصادرة والعدوان؟

أولاً: يشترط الإسلام في سلطة الحكومة وشرعية الحاكم أن تكون قد وصلت إلى كرسي الحكم بالطرق المشروعة وبالأساليب السليمة الطبيعية؛ وذلك لأن الحكم حق من الحقوق إلالهية الذي لايمنح لأحد ولا يناله إلاّ إذا حاز على رضا الله ورضا الشعب معاً، ولا يقبل عنه بأدنى واسطة أو بديل، ولذلك فإن استخدام التزوير وشراء الضمائر والذمم وتسخير الإعلام والأقلام وباقي أجهزة الدعاية والتطبيل كوسائل تستخدم للوصول إلى الحكم يعتبر عملاً باطلاً في نظر الإسلام، ولايستحق صاحبه شرعية الحكم حتى لو كان كفوءاً في ذلك، وبذل في سبيلها الكثير؛ وذلك لأن الإسلام كما يشترط في شرعية الحكم أحقّية الاهداف والمصالح التي يتطلع اليها كذلك يشترط مشروعية الوسيلة والطريق الموصلة إليها، ويعتبرها من أهم العوامل التي تساعد على ديمومة القدرة واستمرارية السلطة في الحكم؛ إذ إن الغاية لاتبرر الوسيلة، والحاكم الذي يصل بالتزوير والدجل والتضليل واتباع الوسائل اللامبدئية إلى الحكم لا يمتلك إلاّ أن يتبع نفس الأساليب من أجل ديمومته والمحافظة عليه، وهذه أعمال محرمة في الشريعة لا تمتلك أدنى حظ من الصواب، مضافاً إلى أنها تعتبر من الأساليب الاستبدادية والقهرية المقنّعة التي تقود الشعب إلى مطبات ومداخل لم يكن يرتضيها لولا الكذب والغش والخداع الذي تمارسه بحقه الحكومة، والإسلام يحرم القهر وكل أُسلوب ديكتاتوري من شأنه أن يحول دون حريات الناس وآرائهم المستقلة؛ لأن القسر لا يدوم.

ثانيا: ومضافاً إلى ذلك فقد انتهج الإسلام سبلاً عديدة للوقوف أمام طغيان الحكومة وإعطاء كل مواطن مسلم دوراً مهماً في تقرير مصير الشعب والدولة والمشاركة في سياسة الحكومة، وأهم هذه السبل اثنان:

الأول: السبيل النفسي والأخلاقي كضمانة ذاتية.

الثاني: السبيل الشرعي والقانوني كضمانة عملية.

وسنتعرض إلى كل واحد منهما بشيء من التفصيل..

أولاً: الضمانات الذاتية

إن أول خطوة يخطوها الإسلام في سبيل ضمان الحرية للشعب وحمايتها من المصادرة هو تربية الشعور والوازع الذاتي في شخص الحاكم والشعب معاً، حيث يعمل على تحريرهما من الداخل نفسياً وفكرياً وثقافياً واخلاقياً، ثم يبدأ بتنسيق روابطهما في ظل القانون؛ ولهذا وضع مبدأين مهمين لتوفير ذلك، أحدهما للحاكم والآخر للشعب، وهما:

1- التهذيب

فإن الإسلام يبني دولته على الدين، والدين خير مهذب للنفوس والطبائع، وأفضل مربّ للوجدان الداخلي للإنسان؛ لأنه يجعل في داخل الإنسان رقيباً داخلياً يحاسبه على كل تصرف سيء يشينه عند الله سبحانه والناس، ويدفعه إلى كل عمل حسن يحبه الله والناس، ومن الواضح أن الرقيب الداخلي يشكل أشد الرقباء والمحاسبين دقّة ومحاسبة وضبطاً في حياة الناس.

قال علي (عليه السلام): ((اعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ)) ([4]).

ولهذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام)وهو أكبر حاكم في عصره على أوسع رقعة جغرافية يشدد على نفسه بإجراء العدل، ويصر على الالتزام بمبادئ الإسلام في السياسة والحكم التزاماً دقيقاً غاية في الدقة، بواعز ذاتي وروح عادلة متقية بلا حاجة إلى أي ضغط خارجي أو مراقبة قضائية، فكان يقول(عليه السلام) لمن يدعوه أحياناً إلى اتباع بعض الوسائل والألاعيب السياسية من أجل تحقيق أهدافه الصالحة، سواء في مواقفه تجاه معاوية الذي شهر السلاح في وجهه أو أطراف المعارضة من الخوارج والمنافقين وأمثالهم: ((والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً وأُجرّ في الأغلال مصفّداً أحبّ اليّ من أنْ ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها؟ )) ([5]).

وقال أيضاً: ((والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة مافعلته)) ([6]).

لأنه واعز الضمير الحر والروح النزيهة الناصعة والوجدان الطاهر النظيف، فالحاكم المسلم الحق هو الذي هذبه الإسلام، وقضى فيه على كل نوازع الشر التي تدعو إلى التعدي والأنانية والطغيان.

ومن هنا يشترط الإسلام في الحاكم المسلم أن يتسم بصفات نفسية رفيعة وخلق كريم وعفة متناهية حتى يستطيع أن يتمتع بشرعية الحكم، كما تقدم الإلماع إليه في بحث عدالة الحاكم ((في الجزء السابق)) وذلك من أجل ضمان عدم الاستبداد والوقوف أمام طغيان القدرة في مهدها الأول، وهو نفس الحاكم، حيث يرى الإسلام أن الدين والمعنويات أهم دعامة تقوم عليها الدول القوية الثابتة التي لاتعرف الانهيار أو الزوال؛ وذلك لأن الدولة التي يحدد سلطاتها الدين والفضائل النفسية والأخلاقية العالية تقوم في قلوب الناس وأرواحهم وعواطفهم أولاً قبل أن تستحكم على أبدانهم، والدولة التي تدعمها الروح لا تقبل السقوط أبداً.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((صيّر الدين حصناً لدولتك، والشكر حرزاً لنعمتك، فكل دولة يحوطها الدين لا تغلب، وكل نعمة يحرزها الشكر لا تسلب)) ([7]).

وقال (عليه السلام):أيضاً: ((من جعل ملكه خادماً لدينه انقاد له كل سلطان)) ([8]).

2- الوعي الجماهيري

ربما يعترض البعض قائلاً: لقد تحققت العدالة والحرية الإسلامية فعلاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأمير المؤمنين (عليه السلام) عندما كانت الأخلاق والضمير والوازع الديني هو العامل المسيطر على تصرفات الحكومة الذي يمنع من الاستبداد وتجاوزات السياسة وألاعيبها الخادعة، ولكن التأريخ السياسي للمسلمين يروي لنا أن أغلب الحكام الذين تربّعوا على كرسي الخلافة بعد هذه المرحلة المثالية والفريدة في التأريخ قد فجروا واشتطّوا واستغلوا الدين نفسه الذي يدعو إلى الحرية والسلام، سيفاً يتحكمون به في قارب العباد، وقناعاً تختفي وراءه أشد الحكومات ديكتاتورية، فاتهموا معارضيهم بالكفر والزندقة والخروج عن الدين أو شق عصا الطاعة والتفرقة بين المسلمين، ونصبوا المشانق والصلبان في أكثر البلاد الإسلامية باسم الدين!! فما هي الضمانات المنطقية الأُخرى التي يقدمها الإسلام لصيانة الحكم ليس من التعدي والطغيان فقط، بل من الديكتاتورية الدينية هذه المرة التي تكون قد وظفت الدين لخدمة أطماعها؟

فنقول رداً على ذلك: إن الضمان الحقيقي والأساسي لعدم استبداد أي حاكم على ظهر الأرض لا يكمن في الدين وحده، ولا في المجالس النيابية أو مراقبة البرلمان، ولا اللوائح الدستورية، ولا القسم الذي يتعهد به الحاكم على نفسه أمام الشعب والقانون بمراعاة العدل وعدم الاستبداد مالم تكن مراقبة ومحاسبة شديدة ومستمرة من قبل الأُمة نفسها على أعمال الحاكم ومواقفه وسائر تصرفاته.

أي إن الضمان الحقيقي الحصين في هذا المجال هو وعي الأُمة وفهمها لحقوقها وواجباتها، وهذه هي النقطة الفعالة التي اهتم بها الإسلام، وعمل على إيجادها في نفوس الشعب، ونجح في تحقيقها، ولذلك فإن الفترة التي كان يتمتع بها الشعب بيقظة تامة ووعي إسلامي أصيل كان يتنعم معها بالحرية والأمن والاستقرار، ومتى ما ركن إلى الجهل عاش في فترات عصيبة ومؤلمة دامسة الظلام في ظل الديكتاتورية والقمع والإرهاب؛ وذلك لأنه مهما بلغت الضمانات السابقة من القوة والمكانة والإحكام حسب الطرق العلمية الحديثة فإنه يبقى الشعور الداخلي للأُمة بمشاكلها وتحسّسها لهمومها وآلامها وحراستها المشدّدة على الأُمور هو الحصن القوي الذي لا يمكن للحاكم مهما بلغ من القوة والعظمة والدهاء أن يتجاوزها، أو يلغيها من الوجود.

وبعكس ذلك فيما إذا وجد الحاكم من شعبه جهلاً وغفلة وتهاوناً في حقوقهم انقلب عادة إلى دكتاتور مستبد حتى لو كان في نفسه عادلاً متديناً بالإسلام، دون أن يجد في ذلك مانعاً قوياً يستطيع أن يعوقه أو يعرقل من مسيرته الاستبدادية وانفراده بالأُمور، فإن الطبيعة الذاتية الأولية لكل إنسان هو حب الذات والأنانية والميل إلى تلبية حاجاتها ورغباتها الخاصة بأي طريقة كانت مالم يهذبها الدين وتروضها الفضائل الأخلاقية على ملامسة الحق وتجنب الباطل، فإن ((من ملك استأثر)) ([9]) وقال الشاعر أبو العلاء المعري:

 الظلم من شيم النفوس            فإن  تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلمُ

فكم من حاكم متدين او متظاهر بالدين والقانون حكم في التأريخ البعيد والقريب أو في الزمن الحاضر له مظاهر الحاكم المتشرع المتعبد بالدين،والملتزم بمبادئ الدستور العصري النزيه، فله مجلس نيابي منتخب، وحزب سياسي حاكم منفتح على الشعب، ويمتلك عدداً لا يحصى من النقابات واللجان والمؤسسات القانونية المنتخبة، ويتمتع بكل مظاهر الديمقراطية وشعارات الأجواء الحرة، ولا يمكن لأحد أن يأخذ على حكمه وسياسته أي عيب دستوري أو مخالفة للقانون، ولكنه في الواقع ديكتاتور مقنع يتخفى وراء القانون والمظاهر الحرة المزيفة في سبيل توطيد حكمه؛ إذ ينكشف خداعه المستتر بعد حين، وخاصة في الأزمات السياسية الداخلية التي تتعرض لها الدولة عندما تجد الأُمة أنه في الواقع صاحب الأمر والنهي ومصدر كل السلطات السياسية في البلد، حيث يمتلك صلاحيات دستورية هائلة قد لا يطمح الشعب نفسه لامتلاكها، فنرى مثلاً عندما تتعارض مطالب الشعب مع سياسة الحاكم يقوم بعدة إجراءات تعسفية باسم القانون من أجل أن يملي إرادته فيقوم بحل المجلس الوطني والنيابي، أو تعطيل أعماله الى إشعار آخر، ويقوم نفسه بالإعلان عن موعد إعادته، وينص على أن أعضاء المجلس يجب أن ينالوا موافقة الملك أو الرئيس حتى يحصلوا على شرعية العضوية في المجلس، بل وكل قانون أو مرسوم يصدر عن المجلس النيابي يجب أن يحظى بإمضائه حتى يصبح دستوراً ملزماً.

ومن صلاحياته الدستورية الأُخرى أنه يمتلك الحق في أن يؤجل عمليات الانتخاب التي تجري في البلاد أو إلغائها من رأس، وغيرها من البنود الدستورية التي تريد أن تسند كل شيء يجري ويمر في البلد الى الحاكم أو الرئيس، ولسان حالها يقول: إن البلد هو الحاكم، والحاكم هو البلد لا غير، فتمنحه صلاحيات واسعة فوق الدستور وأكبر من سلطات الشعب، ولكن بثوب قانوني وبأُسلوب ديمقراطي كاذب.

كل ذلك يجري على الشعب طالما كان الشعب نفسه غافلاً عن حقوقه، متساهلاً في مطالبه؛ لأن الضمانات الدستورية التي وضعت في مقابل تطرف الحكومة وتجاوزات الحاكم مهما كانت علمية وبرّاقة فإن الحاكم المستبد يمكن أن يصادرها، ويسحب البساط من تحتها، أو يفسرها تفسيراً منحرفاً بأساليب علمية وبرّاقة أيضاً وبمهارة فائقة، بحيث يحافظ على مظهرها القانوني وشكلها الحر مالم يعِ الشعب ما يجري حوله وحواليه، ويتفهم حقيقة الوضع بيقظة وحذر تامين تمنحه الثقة والقدرة الكافية على الوقوف أمامه والحؤول دون مصادرة حرياته والتلاعب بمصيره.

مكافحة الديكتاتورية

إن طبيعة الاستبداد طبيعة واحدة سارية في الأنظمة والحكومات الديكتاتورية الحاكمة في العالم، فهي لا تختلف من حاكم لآخر ومن بلد لآخر من حيث الواقع والمضمون وإن اختلفت الأشكال والصور والأساليب في بعض الأحيان.

فإننا إذا أردنا المقارنة بين نوعين من أشهر أنواع الحكم المستبد أحدهما ديني والآخر مدني لما وجدنا بينهما أي فارق من حيث الديكتاتورية والاستبداد والتفرد بالأُمور إلاّ من ناحية الوسيلة والشعار فحسب، فالأول يستغل الدين ومبادئه لاستبداده، والثاني يستغل القانون وأصحابه والأُطر القانونية في سبيل علوه وطغيانه، فكم من حكم مدني أو ديني اشتهر في التأريخ السياسي الإنساني وفي العالم المعاصر بالمحاكمات الصورية ومحاكم التفتيش وأجهزة الأمن والمخابرات وأحكام السجن والإعدام بالجملة، وكل هذا باسم الدين والقانون وتحت سلطتهما، والشاهد العملي الحي على هذا الواقع السياسي المنحط هو سياسة أغلب الحكومات الحاكمة في العالم الثالث اليوم.

طبعاً من غير الحكمة ولا المنطق الصحيح في مثل هذه الأحوال والأوضاع السيئة أن نتهم الدين، ونشتم القانون الصحيح، وندعي بأنه يهيئ الفرصة للاستبداد والحكم المتفرد، ويوطد له طريق القمع ومصادرة الحرية؛ لأن الذنب ليس ذنب الدين ولا جريمة القانون الصحيح، وإنما الذنب الحقيقي يعود على الشعوب نفسها؛ لأن غفلة الشعوب وجهلها وتهاونها في حقوقها ومطالبها المشروعة هي التي تهيىء الفرصة الكبيرة للحاكم الضعيف الشخصية لأن يستبد بها، ويلغي وجودها نهائياً.

وانعزال الجماهير وغياب الوعي عنها هو السبب الحقيقي الكامن وراء تطرف الحاكم وديكتاتورية الحكومة؛ وذلك لأن الحاكم الضعيف المنهار عندما يعجز عن كسب أراء الشعب ويقصّر عن مواجهة خصومه ومعارضيه بالحجة المقنعة والعمل الصالح والأساليب الديمقراطية الحكيمة فإنه يلجأ إلى القوة والعنف وكبت الأصوات ومصادرة الحريات، وهذه حالة طبيعية سائدة في أكثر البلدان الديكتاتورية، حيث إن ضعف الحكومة أمام قوة الشعب يلجئها إلى القمع والقوة وفتح أبواب السجون والمعتقلات وصناعة الأزمات الداخلية في الخبز والعمل والوظيفة وأمثالها من أجل تطويعهم والقضاء عليهم؛ لذلك نجد أن أول خطوة يتبعها الحاكم الفرد الذي يريد الاستبداد حتى يؤمَّن لنفسه حكماً مطلقاً وملكاً عضوضاً لا ينازعه فيه أحد هي ممارسة سياسة التجهيل بحق الشعب وحرمانه من كل وسائل التوعية والتثقيف التي تنبهه إلى حقوقه ومطالبه، وتحفّزه نحو الحرية والحياة الديمقراطية المفتوحة.

وأول هذه الطرق والممارسات هي السيطرة التامة على وسائل الإعلام وتحكيم القبضة المتشدّدة على العلماء وأصحاب الفكر والثقافة في البلد في مقابل توحيد الإعلام الرسمي وتحجيمه وتحويل الشعب وكل وسائل التنوير فيه إلى جهاز إعلامي متفرد يجيد فن التطبيل والتزمير والتصفيق الدائم خوفاً وتملقاً، ويشيد بحياة الحاكم وأهداف الحكومة صباحاً ومساء، وهذه سياسة متبعة وسائدة في كل الأنظمة الديكتاتورية عدوّة الإنسان والديمقراطية منذ القديم.

ففي التأريخ عندما عجز معاوية عن مقاومة الشرعية وقوة الحجة والمنطق الصائب الذي كان عليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في موضوع الحكم والخلافة في الإسلام لجأ إلى ابتداع أُسلوب التهجم والتزييف الإعلامي الكاذب، حيث وظّف الوضّاعين للحديث والسنة وأصحاب المنابر والأقلام الأجيرة في سبيل خلق الدعايات والاتهامات الكاذبة وسب أمير المؤمنين (عليه السلام)ليقضي على حقانية الإمام ومكانته في نفوس الناس، ومارس في أهل الشام الذين كانوا يشكلون أكبر قاعدة شعبية لحكمه سياسة التعمية والتجهيل ومصادرة الرأي حتى روى لنا التأريخ أن رجلاً من أهل الكوفة التي كانت تشكل عاصمة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قدم على بعير له إلى دمشق عاصمة الأُمويين حال منصرفهم في صفين ــ الحرب التي تقابل فيها معاوية مع الإمام علي (عليه السلام) ــ فتعلق به رجل شامي من أهل دمشق قائلاً له: هذه ناقتي أُخذت مني بصفين!! وحدثت مشادة بينهما ونزاع حاد، فرفعا أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي بيّنه على دعواه تتألف من خمسين شاهداً شهدوا على أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه فوراً!! فالتفت إليه الكوفي متعجباً من هذا الحكم قائلاً: أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة!! فقال له معاوية: حكم قد مضى!!

ولما انفض الجمع أمر معاوية باحضار الكوفي، فلما مثل عنده سأله عن ثمن البعير فأخبره به فدفع إليه ضعفه، وبرّ به، وأحسن إليه، ثم قال له: أبلغ علياً أني أُقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل!!. ([10])

ولعل القضية كانت مدبرة من الأصل من قبل معاوية كرسالة يبعثها معاوية إلى الإمام يعكس فيها مستوى انقياد أهل الشام الأعمى له.

ولهذه القصة أشباه ونظائر كثيرة تجري اليوم كما جرت بالأمس في عالمنا الإسلامي في ظل الأنظمة الديكتاتورية، والسبب في ذلك هو جهل الشعوب وعدم وعيها وغفلتها عن مهامها الأساسية في الحياة.

وهكذا نعود إلى الضمان الحقيقي لعدالة الحاكم وديمقراطيته، ألا وهو وعي الشعب ويقظته وبصيرته في الأُمور. ((كما تكونوا يولّى عليكم)) ([11]).

إذ من الواضح أن سلوك الحاكم وسياسة الحكومة ما هو إلا إفراز طبيعي لثقافة الشعب ومواقفه العملية، فإن كان الشعب واعياً قوياً متمسكاً بمبادئه لا يسمح لغير العدول والصالحين من التصدي للحكم ورئاسة الحكومة وحتى لو قفزت على السلطة جماعة أو فئة جائرة واستولت على الأُمور في جنح الليل فإن تماسك الشعب ويقظته ونباهته لاتترك مجالاً لاي أحد منهم أن يتجبر أو يتعالى ويصادر حريات الناس، والعكس بالعكس أيضاً؛ لأن الملاك الحقيقي الذي يتحكم بشكل الحكم وأُسلوب الحاكم الذي يرأس الشعب هو الشعب نفسه لاغير، وأحداث الدنيا وأوضاعها طراً خاضعة لقانون العلة والمعلول والنتائج والمقدمات.

فالنتائج الصحيحة لاتفرزها إلاّ المقدمات الصحيحة أيضاً، كما أن النتائج الخاطئة لاتتولد إلاّ من المقدمات الخاطئة أيضاً؛ وذلك للزوم السنخية والتناسب بين كل علة ومعلولها وبالعكس، وإلاّ لزم صدور كل شيء عن كل شيء، بل لصدر الشيء عن نقيضه أيضاً، وهو في نفسه محال عقلاً فضلاً عن كونه فوضى واضطراباً في النظام الكوني، وهو مما يخالفه الوجدان أيضاً، ومن هنا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) مخاطباً أصحابه وموبخاً لهم لدى الأزمة السياسية التي كانت متفاقمة مع معاوية: (( أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ليس لأنهم أولى بالحق منكم ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقي)) ([12]).

كيف نكافح الديكتاتورية؟

إن الشريعة الإسلامية وضعت لنا مباديء عديدة من أجل أن تقضي على حسن الديكتاتورية أولاً في نفس المواطن المسلم كما تقدم ذكرها إلى جانب مبادىء عديدة أخرى اعتبرتها كوسائل وضمانات عملية تتكفل لنا القضاء على الاستبداد وروح التفرد بالحكم، أولها محاكاة الشعب نفسه والعمل على توجيهه وتربيته وتهذيبه لكي يحس بأنه مسؤول ليس على نفسه وعائلته وأولاده فقط، بل مسؤول عن كل مسلم يعيش على ترابه، ويشاركه في العقيدة والانتماء إلى الإسلام، بل كل إنسان يشاركه في الإنسانية؛ إذ بالاضافة الى منحها جميع المسلمين حق الرأي وحرية الكلمة والعمل الذي من شأنه أن يحدد تصرفات الحاكم ويحدد من سلطاته أمام الشعب قررت الشريعة أيضاً قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنقد والمحاسبة وسحب الثقة كحق سياسي للمسلمين أجمع، وواجب عليهم ممارسته والعمل به كضمان يمنع من الاستبداد والديكتاتورية أيضاً.

ولم تكتف في وضع الضمانات الحامية للحرية عند هذا الحد، بل جاءت الشريعة كذلك بوسائل عملية وإجرائية أخرى لضمان قيام الأمة والأفراد بمزاولة هذا الحق وإقامته وجعلهم المسؤولين أولاً وأخيراً عن حماية حقوقهم وحرياتهم في الحياة، حيث حدد القرآن جهات رئيسية تتولى الأمة فيها القيام بهذه المسؤولية:

1-الأفراد في الموارد التي يمكن أن يقوم بها المواطنون منفردين بلا حاجة الى انضمام أو تجمع.

2-الجماعات في الموارد التي لايمكن العمل بها إلاّ ضمن أطر جماعية وهيئات ومؤسسات منتظمة.

وقد ضمن القرآن الكريم هذا المبدأ في هذه الآية الشريفة: ( وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(13).

إذ يكون دور الأفراد مقتصراً على المحاسبات الفردية العادية والمحدودة كالأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي التي يمكن أن تصدر من كل فرد من أبناء المجتمع في الحياة اليومية العادية.

وأما الجماعات فيكون دورها ضمان القيام بما أوجب الله سبحانه على الناس من أمر بالمعروف اجتماعي ونهي عن المنكر اجتماعي ومحاسبة اجتماعية وسياسية أيضاً كحق وواجب سياسي على الأمة والمواطنين المسلمين.

وقد اتفق الفقهاء والمفسرون معاً على وجوب قيام جماعات من الأمة بهذه المهمة الخطيرة، سواء كانوا من أصحاب الاختصاص والتكتل في هذا الشأن كالأحزاب والمنظمات أو من غيرهم، حيث قال بعض المفسرين: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء... والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجباً على كل فرد فرد من الأمة بحسب([14]).

وعليه فإن الآية توجب على المسلمين إيجاد جماعات أو هيئات إسلامية خاصة بهدف الحث على التطبيق العملي للإسلام في الحياة وضمان الحقوق السياسية والاجتماعية للمسلمين ومنع الاستبداد الحكومي. هذا الذي يسمى اليوم في المصطلح السياسي بالأحزاب السياسية والمؤسسات الدستورية؛ وذلك لأن من الواضح إنه ليس المراد من مضمون الآية إلزام كل المسلمين فرادى بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط، وإنما أيضاً إيجاد جماعة تتولى هذا الشأن، وقد نصت عليه الآية في كلمة ((من )) التبعيضية ( وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ O كما إن من الواضح أن الآية تنص على مهمتين:

الأولى: الدعوة إلى الخير، وهذه المهمة يمكن أن تقوم بها أية فئة، سواء كانوا أفراداً أو جماعات؛ لأن الخير هنا هو الإسلام، والدعوة الى الإسلام لاتتوقف على أية مقدمة أخرى؛ ولذلك يمكن أن يتبناها حزب أو هيئة أو نقابة أو أفراد.

الثانية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه أيضاً يمكن أن يتولاها الأفراد كذلك في بعض الحقول والمجالات، إلاّ أنها تبقى تحتاج إلى التنظيم والحزب والمؤسسة الدستورية في بعض المجالات الأخرى التي لايتمكن على النهوض بها كل أحد، وخاصة المجالات السياسية.

 فإن من المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مسائل السياسة ومواقف الحكومة وأعمالها التي يشملها عموم الآية لايمكن أن يقوم بها إلاّ حزب أو جماعة سياسية أو مؤسسة دستورية؛ لأن هذه المهمة العسيرة تتوقف على مراقبة الحكام ومتابعة شؤونهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر من دون أن يعرض الآمرين والناهين إلى الخطر ومواجهة السجون والمعتقلات؛ لأن الحزب والعمل الجماعي هو أيضاً قوة جماهيرية وقانونية تقف أمام قوة القانون الأخرى التي يتمتع بها الحاكم.

ومن هنا فإن الأمر الإلهي في الآية الكريمة يكون مسلطاً على إقامة الجماعات والمؤسسات السياسية التي تتولى مهمة التأكد من حسن تطبيق الحاكم والحكومة والشعب أيضاً لأحكام الشرع وقوانينه العامة؛ وذلك لأن تطبيق الإسلام من الواجبات الشرعية الملزمة، ومالايتم الواجب إلاّ به يكون واجبا أيضاً، فتصبح إقامة هذه الهيئات والأحزاب لغرض العمل بمبادىء الإسلام وصيانتها من التشويه والتحريف الذي يمارسه في حقها الاستبداد واجبة أيضاً؛ لأن الواضح أن الهدف الأصلي الذي من أجله طلب الشارع المقدس قيام هذه الجماعات السياسية لايتحقق إلاّ بممارسة هذه الجماعات عدة أساليب وأعمال سياسية، وأهمها:

1-مراقبة الحكام ومناصحتهم ومحاسبتهم للتأكد من التزامهم بأحكام الإسلام وحقوق الشعب.

2-القيام بمهمة التوعية والنصح والتثقيف والإرشاد لعامة الشعب نحو الأهداف الصحيحة والمواقف الحقة ومراقبة انحرافهم عن تطبيق أحكام الشرع أو سوء فهمه، وأيضاً نشر الأفكار والبرامج التي تعالج شؤون الأمة ومشاكل الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية بهدف النهوض بهم لتحمل مسؤولية البناء بناء الحياة والحضارة، ولكي تتمكن من أداء هذه الوظيفة الشرعية الدينية لابد لها هي الأخرى من ضمانات ووسائل تكفل لها ذلك، منها:

-أن تتمتع بالشكل العلني الرسمي والوجود القانوني المأمون من الضرب.

-أن تحصل على كافة الوسائل والإمكانات الرقابية الحرة على الحكام ومجريات الأمور على صعيد القرار السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي.

-أن تمنح حق النقد وحرية الكلام والإعلان عن مواضع الخطأ والانحراف في مواقف الحكومة مع الحصانة الدستورية أمام الشعب،خاصة بعد أن عرفنا أن المعروف والمنكر لاينحصران في الأعمال والمناقب الفردية فحسب، بل أحياناً أخطر وأكبر من ذلك بكثير، وهي المناكير والمواقف السلبية التي ترتكب على الأصعدة السياسية والاقتصادية و الاجتماعية والعسكرية التي تعرض الأمة بأجمعها لمخاطر مصيرية كبيرة.

وعلى هذا فإن إقامة الأحزاب والجماعات السياسية المراقبة والمحاسبة لأعمال الحكومة تعد من الفروض الإلهية التي يجب على الأمة إقامتها من أجل ضمان حرياتها وحقوقها، ولانحتاج في إيجاد ذلك إلى إذن أو ترخيص قانوني يصدره الحاكم أو الملك أو الرئيس؛ لأن الواجب الإلهي الشرعي لايحق لأي أحد منعه أو الوقوف أمامه كما لايجوز للمكلف به أن يستأذن أي أحد في امتثاله والالتزام به بعد أن أذن به الله سبحانه، وأوجبه على الناس.

ومن هنا جعل الإسلام محاسبة الحاكم والاعتراض عليه أفضل جهاد يقدمه المسلم في سبيل الله سبحانه. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( سيد الشهداء حمزة ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)) ([15]).

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (( إذا أُمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله تعالى)) ([16]).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (( والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)) ([17]).

ومما سبق يظهر جلياً أهمية الجماعات السياسية والاجتماعية من أحزاب ومنظمات ومؤسسات دستورية في رعاية حقوق الشعب والحد من الديكتاتورية والاستبداد بأنواعه الحكومي وغيره من عوامل التفرد والتحكم ومصادرة حقوق الآخرين، كما يتضح أيضاً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس منحصراً في إطار المهمات الشخصية ومسلكيات الأفراد من سائر الناس الوسطاء والعاديين، أو متوقفاً على الصلاة والصيام وباقي العبادات والمحرمات الشرعية الأخرى، بل هو في حقيقته وجوهره عملية تصحيحية وردعية أيضاً لأي حاكم ومتكبر ومستغل تحدثه نفسه بظلم الناس والتعدي عليهم أو هضم حقوقهم.

وبتحقيق ذلك تسير الأمة والمجتمع والدولة معاً في طريق الرقي والتقدم والحضارة، حيث تصان من عوامل الهدم وأسباب الانحطاط التي يجرها إلينا الاستبداد السياسي، والذي هو نتيجة حتمية أيضاً للانحراف عن شرع الله ودينه الإنساني الحر..

ثانياً: الضمانات العملية

لقد وضع الإسلام أربعة مبادىء أساسية كدستور سياسي وشرعي يتضمن خطوات عملية فاعلة من شأنها الإحاطة بالحاكم وتحديد تصرفات الحكومة وتقنين صلاحيتها من الناحية العملية والسياسة التنفيذية لكي يضمن للشعب أكبر قدر من الحرية والأمن والسلام بعيداً عن التطرف والاستبداد والاعتداء السلطوي، وهذه المبادىء هي:

1-مبدأ الشورى.

2-مبدأ الحرية والرأي الآخر.

3-مبدأ حرية المعارضة.

4-الأحزاب السياسية.

حيث تشكل هذه المبادىء الأربعة البنية الأساسية للنظام السياسي الإسلامي، وأهم الأركان التي تقوم عليها الدولة المسلمة، ولأهمية كل مبدأ من هذه المبادىء في مجال تنظيم مواقف الحكومة والشعب وتحديد صلاحيتهما سنتناول بعض الجوانب المهمة فيها.

* فصل من كتاب الحرية السياسية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

..................................................

([1]) العلق: 6-7.

 ([2]) عيون الحكم والمواعظ: ص 181.

 ([3]) الفقه ((السياسة)):ج 105، ص187-188.

 ([4]) نهج البلاغة: ج1، ص160، الخطبة 90.

 ([5]) نهج البلاغة: ج2، ص216، الخطبة 224.

 ([6]) نهج البلاغة: ج2، ص218، الخطبة 224.

 ([7]) عيون الحكم والمواعظ: ص304.

 ([8]) عيون الحكم والمواعظ: ص 427.

 ([9]) نهج البلاغة: ج4، ص41، الحكمة 160.

 ([10]) الغدير: ج10، ص195.

 ([11]) كنز العمال: ج6، ص89، ح14972.

 ([12]) نهج البلاغة: ج1، ص187، الخطبة 96.

 ([13]) آل عمران: 104.

 ([14]) تفسير ابن كثير: ج1، ص398.

 ([15]) تاريخ مدينة دمشق: ج35، ص416.

 ([16]) الكافي: ج5، ص 59، ح13.

 ([17]) رياض الصالحين: ص 152.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 25/تشرين الثاني/2009 - 27/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م