رياضة داحس والغبراء

توفيق أبو شومر

تابعتُ في ألأيام السابقة بمرارة كثيرا من وسائل الإعلام العربية والأجنبية ، وهي تحرض الجماهير العربية في الجزائر ومصر بصراحة على الاقتتال والنزاع من خلال ما تعرضه من أخبار طوال اليوم عن الحدث ، وكنتُ أتوقع أن تتولى الأمر جهاتٌ مُعادية تستفيد من حالة الشرذمة والاقتتال ، غير أن التحريض كان للأسف من وسائل إعلام تنتسب إلى العروبة ، مما يبرهن على أن دور الإعلام في ألفيتنا الثالثة تجاوز رسالته السامية.

 ورسالته السامية تتمثل في أن الدور المركزي للإعلام هو الإخبار للربط والتثقيف كغاية سامية يحمل رسالة ثقافية ، هدفها وغايتها النهوض بالفرد من أقبية الجهالات إلى عالم التنوير الديموقراطي المنفتح، وهو جهة محايدة يستعصي على الاحتواء بما يقدمه من أخبار ورؤى متوازنة.

قد تجاوز الإعلام منذ بداية الألفية مبادئه السامية ليصبح - للأسف- عبدا في مؤسسة التجارة العالمية يسوّق الإدمان والإرهاب ، ويسوغ كل الموبقات ، فأصبح جزءا من مؤسسة التجارة العالمية وسرية عسكرية من سراياها.

ولم يكتفِ الإعلامُ بهذه النقلة الشاذة ، فقد تحوّل إلى صيغة أخرى أكثر خطورة ، وهو التحريض المباشر ، أو صناعة الأحداث، ومن خلال رصدي لهذه المرحلة الإعلامية الخطيرة وهي ( كيفية صناعة الأحداث ) وجدتُ بأن إعلام الألفية الثالثة التحريضي الرياضي والسياسي والاجتماعي قد أقام بنيته التحتية وفق الأسس التالية :

- رصد ميزانيات ضخمة للإعلام ، وهذا واضح في المرتبات الخيالية لرجال الإعلام من المصورين والمراسلين ومقدمي ومنتجي البرامج الإعلامية وحتى حاملي كاميرات التصوير ممن أصبحوا يحظون بالتكريم وينالون الجوائز الرفيعة بسبب عدسات كاميراتهم لا غير، في الوقت الذي يعيش فيه المبدعون في ضائقة وبؤس !

- تكثير المراسلين للقنوات والمحطات الإعلامية في كل دول العالم ، بل في كل مدينة من مدن العالم ، وقد أصبح لكل فضائية أو وكالة أنباء جيش من المراسلين يلبس الدروع الواقية من الرصاص وقريبا سوف يُزود المراسلون بوسائل قتالية ملائمة للمكان الذي يتواجدون فيه ، يأخذون تعليماتهم المباشرة من سلطة صناعة الحدث ، وأصبح تواجدهم في أي مكان في العالم يعني أن هناك مشكلة ستقع عما قريب.

- التركيز الإعلامي على بؤرٍ بعينها لغرض صناعة الحدث كما حدث في مباريات الفريق الجزائري والمصري ، فقد قامت عدة قنوات فضائية بجعل خبر الصدامات الفردية التي وقعت بين جماهير الفريقين حدثا عالميا ، له الصدارة ، فجعلته الخبر الأول مقدما على التفجيرات والإضرابات والسياسات ، مع العلم بأن تلك المحطات هي محطات إخبارية وليست رياضية.

- قيام محطات التحريض الإعلامية برشّ البهارات على الأخبار ، وتشمل البهارات ، اقتطاع صور من موقع الكتروني اسمه يو تيوب وهو مخصص للفضائح والطرائف وبعض التلفيقات ، مع العلم بأن هذا الموقع لا يُعد مصدرا موثوقا وفق أسس ومبادئ وأبجديات الإعلام ، وهذا يشير بوضوح إلى نية الفضائيات في تعميم الاقتتال بين الشعبين ، باستعمال حدث رياضي بريء جدا !

- اختراع طواقم جديدة للدعم اللوجستي التحريض الإعلامي ، وهي طوائف المحللين والمعلقين الرياضيين، الذين امتهنوا مهنة تفسير حركات أرجل اللاعبين في الملاعب ، وقاموا بوضع خرائط لسير الكرة المستديرة في الملاعب ، وصاروا يحاكمون اللاعبين المهزومين كما يُحاكم المجرمون والقتلة ، فيتهمونهم بالتقصير والتواني والتواطؤ ، ويقيسونهم بمباريات وأحداث أخرى كانوا فيها نجوما عندما انتصروا ، ثم يشرعون في نصب مقصلة الإعدام لمدرب الفريق ورئيسه باعتباره مسؤولا مسؤولية مباشرة عن أقدام لاعبيه !

 أما الفريق الغالب، فله أقدامٌ ماسية وذهبية ، وله أيضا مايسترو رائع يعزف سيمفونية رياضية بأقدام لاعبيه، أما الفريق الغالب يرفع رأس الوطن عاليا في السماء، وينال الجوائز والمكرمات والحوافز.

- ومن البنية التحتية أيضا استقطاب الصفوة المجتمعية نحو الرياضة ، فلم تعد الرياضات مقصورة على الشباب ، بل أصبحت حدثا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ، له الأهمية القصوى ، فإذا دارت مباراة بين فريقين لدولتين ، فإن رؤساء الدول وأبناؤهم وحاشيتهم يحضرون المباراة للتشجيع ، ويلتحق بهم الممثلون والمطربون ووجوه المجتمع كلهم ، لغرض إثارة الحمية في نفوس اللاعبين ، مع العلم بأن وجود هؤلاء في الملاعب الرياضية يشكل عبئا نفسيا على اللاعبين.

وهذا التحشيد التحريضي الإعلامي الجديد لغرض صناعة الحدث ، أو افتعال الفتنة هو أحد أبرز مسارات إعلام الألفية الثالثة ، وهو مسار خطير يشير بوضوح إلى أن مالكي الإعلام هم وحدهم رؤساء العالم وقادته وسادته.

وهؤلاء أقصوا بالطبع دور قادة الفكر والرأي وأقعدوهم بحيث أصبحوا عاجزين عن التأثير في مجريات الأحداث.

 أعادتني مباراة الجزائر ومصر التي جرت يوم الأربعاء 18/11/2009 إلى قصة الحرب الطويلة والمريرة التي دارت في العصر الجاهلي بين قبيلتي عبس وذبيان ، وهي قصة الفرسين المشهورة جدا في التاريخ العربي، وهما داحس والغبراء :

فقد كان ولعُ العرب شديدا برياضات عديدة أبرزها سباق الخيول ، وداحس اسم فرسٍ لقيس بن زهير من قبيلة عبس أما فرس الغبراء فهي لحذيفة بن بدر من قبيلة ذبيان.

واشتعلت الحرب بين القبيلتين أربعين عاما عندما قام نفرٌ من قبيلة ذبيان بعمل مكيدة لفرس عبس فضربوها على وجهها وهي تسبق فرسهم الغبراء ، فكان الانتصار حليفا للغبراء على داحس.

 وعندما اكتشفتْ المكيدة وقعتْ الحربُ بين القبيلتين العربيتين ، وفي هذه الحرب قتل عنترة بن شداد العبسي.

 وقد رصد الحربَ عميدُ الشعراء الجاهليين النابغة الذبياني الذي أشاد بزعيمين عربيين أصلحا بين القبيلتين وتحملا دياتِ القتلى ، وهما هرم بن سنان والحارث بن عوف ومدحهما في معلقته قائلا :

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله

رجالٌ بنوه من قريشٍ وجُرهم

يمينا لنعم السيدان وُجدتما

على كل حالٍ من سحيل ومبرم

تداركتما عبسا وذبيان بعدما

تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 22/تشرين الثاني/2009 - 24/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م