الحج وتطوير الذات

السيد محمود الموسوي

الإنسان دائماً هو محور الشرائع والشعائر الإلهية ، فكل تلك التشريعات إنما تصبّ في تطوير الإنسان وتغييره إلى الأفضل ، فالمراد له أن يتكامل ويعوّض مساحات النقص ليصل إلى درجات كمالية يمكن من خلالها أن يكون إنساناً ناجحاً في حياته وفاعلاً فيها ، و كذلك لكي ينال الخير الأكبر وهو رضوان الله تعالى في الحياة الأخرى.وفريضة الحج من أعظم البرامج التي شرّعها الله تعالى لتطوير الذات في جوانبها المختلفة ، فهي تحتوي على مناسك مميّزة في وقت معدود ومحدّد ، ولا ينبغي أن يغفل الإنسان المسلم عن هذه النعمة بالدخول في هذا البرنامج الإلهي العظيم ، لذلك دعى أهل البيت عليهم السلام لأداء الحج ، بل لإدمانه في روايات عديدة ، وبها من الترغيب ما يعجز عن تصوّره العقل.

ولا ينبغي للحجاج الفعليين الذين يتواصلون في كل عام مع هذا البرنامج أن يغفلوا مسألة أثر المناسك المحكمة من الله تعالى في تطوير ذواتهم.

•قال رسول الله (ص): (انظر إلى أبي قبيس وهو جبل كبير معروف ، فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت ما يبلغ الحاج، ثم قال: إن الحاج إذا أخذ جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات..).

دائماً.. الغد أفضل من اليوم

تطوير الذات هي عبارة عن حالة التكميل في مواصفات الإنسان التي فطره الله عليها ، ليكون أفضل من حالته السابقة ، هذه هي السنّة التي يدعوا لها الدين بشكل عام في مجمل التوجيهات ، بأن لا يتساوى يوماه ، ولا يكون يومه أفضل من غده ، بل لابد أن تكون معادلته بشكل دائم الغد أفضل من اليوم ، ليكون في تطوّر دائم في إمكانياته وقدراته الذاتية ، ولأن الحج فيه المنافع الدنيوية والدينية معاً فحري بالإنسان أن يحرص على تطوير ذاته من خلاله.

•قال الله تعالى : (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ )<الحج 27 و 28>

•قال الإمام علي (ع) : (من تساوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان أمسه أفضل من يومه فهو ملعون ، ومن لم يرى الزيادة في دينه فهو إلى النقصان ، و من كان إلى النقصان فالموت خير له).

•وقال (ع) : (من لم يكن في زيادة فهو إلى نقصان).

لا يمكن أن تحقق شيئاً إلا من خلال قدراتك

لا يوجد إنسان من غير طموح (دنيوي وآخروي) وإن وجد فهو مصنّف من صنف البهائم ، وأن أي طموح لا يمكن أن يبلغه إلا من خلال مجهود ما ، والمجهود يحتاج إلى القدرات ، وإن قيمة الناس ومنزلهم في الدنيا والآخرة هي بمقدار ما يمتلكون من قدرات ، فحتى بركة الله تعالى وتوفيقه لعباده تتنزّل على العاملين والساعين بجد لبلوغ طموحاتهم ، فينبغي الحرص على تطوير القدرات لتحقيق الطموحات كركيزة أساسية لا يمكن التخلّي عنها ، إلا إذا قرّر الإنسان أن يرجع إلى الوراء ، وبالتأكيد هو لا يريد ذلك.

•قال الإمام علي (ع) : (كل أمرىء يُلقى ما عمل).

•وقال (ع) : (قيمة كل أمرء ما يحسنه).

الإفراغ قبل إعادة الشحن

الحج هو البرنامج المهم الذي يمكن من خلاله أن يحقق الإنسان طموحاته ويطوّرمن قدراته ، لذلك فإن في الحج صفة أساسية هي غفران الذنوب ، وإلغاء السلبيات من الحياة ، كخطوة أولى ، فكل خطوة يخطوها لها أثر في غفران الذنوب ، ناهيك عن يوم عرفة الذي يخرج منه الإنسان كمن ولدته أمه.. هذه الخطوة هي خطوة إفراغ للسلبيات المتراكمة في النفس لكي يكون الوعاء نظيفاً ، فيستوعب بعد ذلك كل كل عمليات التطوير التي تفرغها المناسك على الإنسان.

الإفراغ أو (التزكية) حسب التعبير القرآني ، مهم قبل الشحن والتطوير أو قبل (التعليم) في المصطلح القرآني ، لأن وضع الإيجابيات في مكان ملوّث قد ينتج مركباً آخر.. أو لا أقل لن يكون للإيجابيات أثرها المرجو.

•عن الإمام جعفر الصادق (ع) في وصيته للحجاج : (إذا أردت الحج فجرّد قلبك من كل شاغل وحجاب كل حاجب ، وفوّض أمورك كلها إلى خالقك ، وتوّكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك ، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره..).

بمقدار تصحيح النية يتقوّم المسار والأداء

في كل عام نعاين أكثر من مليوني حاج جاؤا من كل فجّ عميق ، إلإ أننا لا نرى الأثر بنفس المقدار ، وإلا لتحررت الدنيا من كل النواقص ولشاعت الروح الإيمانية في أرجاء المعمورة ، فما (أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج) ، إن السبب في أن كل الحجاج لم يستفيدوا من برنامج الحج في تطوير ذواتهم إلى الأفضل وإلى الخير ، هو الغفلة عن (النية) والصدق فيها ، فعندما لاتولي النية اهتماماً بالغاً ، فلن يكون الأثر على النفس ، وبمقدار ما يصحّح الإنسان نيته وإخلاصه فإن مساره وأداءه في الحج سيكون صحيحاً ، وسيأتي أكله وثماره.

والنية هي الترجمة الحقيقية لأفعال الحج ومناسكه ، فالكثير من الحجاج ينزعون ملابسهم العادية ويستبدلونها بلباس الإحرام ، بشكل سريع وفي حالة من الشرود الذهني ، فهو يحاسب إلى الماء البارد الذي يغتسل به ، أو إلى أصحابه الذين قد يسبقونه إلى المسجد أو الحافلة ، أو غير ذلك.. وهكذا في الطواف والسعي ، فينظر الكثير من الناس إلى الزحام ويفكّر في ساعة انتهائه قبل غيره.. إن هذه الشواغل تشغل النية ولا تدعها تعي ما تقوم به من عمل ، وما هو الأمر الذي ينبغي أن يفكر فيه في تلك اللحظة في حالة إطمئنان..

فالإطمئنان ، والتفكير في حكمة هذا العمل.. هي من تعطي الأثر الحقيقي والكبير للمناسك.

•قال الرسول الأعظم (ص) : (إنما الأعمال بالنيّات ولكل أمرؤ ما نوى).

•قال الإمام علي (ع) : (إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها).

قف جادّاً.. وتصوّر بقلبك ما لا يراه الناس

الناس كل الناس ينزعون ملابسهم ويستبدلونها بالإحرام كعمل روتيني متشابه ، إلا أنك عندما تنزع ملابسك العادية حلّق بقلبك في تصور ربّاني ، أنك خلعت لباس السلبيات و الأخطاء السابقة كلها وتركتها جانباً.. ثم عند لباسك للإحرام تصوّر أنك قد ارتديت لباس الإيجابيات والطاعات..

ها أنت الآن إنسان جديد.. ترتدي لباس الإيجابية والطاعة.. وكل أفعالك التي تليها من مناسك ، هي أعمال قلبية بالدرجة الأولى وتحليق بالنية في رحاب الحياة الطيبة وتطوير الذات عبر رمي مخلفات الماضي.. ولبس رداء المستقبل الجديد.. عندها يمكن للحاج أن يستشعر الروح الإيمانية والإيجابية التي تملّكته..

هذه اللحظات هي التي يريدنا الله تعالى والرسول (ص) وأهل بيته (ع) أن نصل إليها في رحاب حج البيت الحرام ، وإلا.. فسيشملنا خطاب الإمام زين العابدين إلى شبلي الذي لم يلتفت إلى هذه الأمور.. فقال له الإمام.. إذن ما أحرمت ولا لبيت ولا طفت بالبيت ولا سعيت ولا.. ولا..

هذه لحظة التطوير والتغيير ، فينبغي للإنسان أن يعي قواعدها بشكل واضح ، ليفرغ الله تعالى عليه رحمته وتوفيقاته في حياته الدنيا وفي الآخرة.

• مما جاء في وصية الإمام الصادق (ع) للحجاج : (وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش ، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.. وهرول هروباً من هواك وتبرياً من جميع حولك وقوتك ، واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى ولا تتمنّى ما لايحل لك ، ولا تستحقه ، واعترف بالخطايا في عرفات..).

لا تحج حج الصامتين.. فالكلام له أثر المعجزات

كما أن الإنطلاق بالنية لى رحاب واسعة من التصورات الإيجابية والتطويرية له أثره ، كذلك الكلام والنطق باللسان له أثر كبير في تكوين روح تتصف بالإيجاب والحسن ، فعندما يردّد الإنسان بلسانه غاياته وأهدافه ، ويكرّر ألفاظ الخير والصلاح ، ويلح بالتخلّي عن سلبياته ، ستستشعر النفس ذلك حقاً و ستتكوّن بذرة الخير بداخل الإنسان ففي الحج وبخلاف سائر العبادات يستحب التلفّظ بالنيّات المتعددة ، ويجب التلفّظ بالتلبية بعد نية الإحرام ويستحب بعد ذلك ترديد التلبية في طريقه إلى أن يرى بيوت مكّة ، وفحواها أنه يقر بأنه استجاب لنداء الله تعالى واستجاب لما يريده منه ، ليرسّخ صدى الكلمات نور الحقيقة في النفس، كما أن للكلمات الملفوظة أسرار إلهية تتنزّل البركات بسبب المداومة عليها.

•قال تعالى : (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)<البقرة : 200>.

•قال الإمام علي (ع) : (من ذكر الله سبحانه أحيا قلبه ونوّر عقله ولبّه).

•وقال (ع) : (فإن من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير).

يمكن التطوير في كافّة المجالات

ما الذي يمكن أن تطوّره في حياتك عند حج بيت الله الحرام ؟.. كل عادة سيئة و في أي مجال من المجالات يمكن للإنسان أن يطوّرها بنسخة جديدة ، فمادام أنه قد نزع ملابس السلب كما تصوّر عندما خلع ملابسه فهو مستعد لكي يلبس الثوب الجديد في أي جانب ، فلا تكن من الذين يستسلمون للعادات السيئة ، ويرددون كلمة المستحيل..

في الحج الكثير من الحطّات التي يمكن للإنسان أن يراجع نفسه فيها ، ثم يقرر التغيير ، على المستوى الفردي فهل هو ملتزم بعباداته على أكمل وجه ؟ وهل يريد أن يتسلّق سلّم المجد بعمل إيجابي ؟.. وعلى المستوى الأسري ، هل يربّي أولاده تربية حسنة ؟ وهل يتعامل مع زوجته بالأخلاقيات الحسنة ؟.. ومع الناس ، هل يحب لهم الخير ؟ و يريد أن يساهم في تنمية مجتمعه وواقعه العام؟.. وما إلى ذلك من أسئلة.. محطات كثيرة هي عبارة عن المناسك..

* يطوف بالبيت ليكون محور أفعاله التوحيد.

* ويسعى بين الصفا والمروة ، باذلاً الجهد في حفظ الأسرة و ساعياً لبناء مجتمع سليم ، كما كانت هاجر.

* وفي عرفات نقلة نوعية نحو أبواب الرحمة الواسعة والمغرفة من كل الذنوب.

* والتسليم لله وتنزيهه بذكره تعالى في المشعر الحرام.

* ورمي السلبيات بكافة أنواعها عند رمي الجمرات.

* وفي منى تصاغ الإمنيات والتطلعات لحياة جديدة.

* ويذبح كل مصدر من مصادر الشر والنواقص كالهوى والدناءة.

وهكذا سائر المناسك..

•قال الإمام علي (ع) : (من أراد دنيا وآخرة فليؤم هذا البيت).

www.mosawy.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 22/تشرين الثاني/2009 - 24/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م