تفاعلات الخوف والحذر

في سوق الدنيا وسوق الآخرة

السيد محمود الموسوي

لا شك أن "العقل يوجب الحذر"، وأن " الحذر يغلبه القدر"، إلا أن الإنسان قد يشغله هاجس الحذر وهو متلبّس بالخوف، فيكون أسيراً مرتهناً لذلك الخوف، فلا يحرك ساكناً تجاه ما ينفعه.

الداعي لهذا الكلام هو ما رأيناه في موسم الحج لهذا العام 1430 للهجرة، حيث أصاب الناس الهلع والخوف جراء انتشار الوباء الشهير بانفلونزا الخنازير, الذي اتخذت الدول إزاءه الإجراءات الكبيرة من أجل محاربته وانتشاره، كونه وباءاً عالمياً.. وقد تسبب في موت بعض الناس في كافة أرجاء العالم.

لقد ظهرت التأثيرات على موسم الحج بدءاً بالحديث في أروقة حكومات الدول الإسلامية عن فكرة منع الحج أو تقييده أو وضع اشتراطات على الحجاج، بهدف الحد من ذلك الوباء، وبسبب نلك الأحاديث الرسمية، إضافة إلى التناول الإعلامي الواسع، بدأ الناس في إعادة التفكير في التوجه لبيت الله الحرام، وقد تجلت بالفعل تلك التخوفات في إعلان الكثير من أرباب الحملات التي تقدم خدمات الحج، بالامتناع هذا العام عن التوجه للحج لمعاناتها من عدم تسجيل العدد الكافي، وقد تقلصت بالفعل أعداد الحملات، بل أعداد الوافدين إلى بيت الله بشكل عام نسبةً للأعوام السابقة، حتى أن بعض الدول الإسلامية أعلنت أنها ألغت 50% من عقود إيجارات العمارات التي تستأجرها في كل عام، وأعلنت العديد من الدول أن أكثر من 50 % من حملاتها ألغت ذهابها إلى الحج.

وقد طالعتنا صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 28 ذو القعدة1430هـ أنه قبل يومين من إغلاق أبواب تصاريح حجاج الداخل – بالسعودية - نقلاً عن رئيس لجنة الحج والعمرة أن انخفاضاً يعد بـ 70 % من أعداد حجاج الداخل نسبة عن كل عام لنفس الفترة، وأعلنت أن هذا سيكبد شركات ومؤسسات حجاج الداخل خسائر مالية تقدر بمئات ملايين الريالات، وعزا هذا التراجع الكبير في أعداد حجاج الداخل إلى الخوف من تفشي مرض انفلونزا الخنازير بين حجاج هذا العام. 

فهذا العزوف النسبي يعد كبيراً أمام أهمية الحج بالنسبة للمسلمين، وأمام أهمية الحج بالنسبة لبناء الشخصية المؤمنة، وهنا نحن بحاجة لوعي التوازنات المفاهيمية في مسألة الخوف والحذر والقدر، لكي يكون سلوكنا متوازناً ولا تفوتنا بسببه الفوائد العظمى في رحاب بيت الله الحرام.

يمكننا أن نلاحظ النظرة العامة لارتياد الأسواق والمناسبات الاجتماعية والترفيهية في مقابل النظرة حول الإقبال على الحج، فإن المقطوع به لمن يخشى شيئاً فانه يأخذ الحيطة والحذر لكي يؤدي حياته بشكلها الطبيعي، وهذا ما حدث بالفعل في مسألة ارتياد الأسواق من أجل أن يوفر الإنسان لنفسه الغذاء أو اللباس، بل حتى لكي يمارس حياته الاجتماعية والترويحية بشكل طبيعي، فقد بدأ الناس بأخذ احتياطاتهم في الأسواق والمدارس والمناسبات لتجنب أي إصابة بالمرض. إلا أن هذا التوجه لم يحدث عند الكثير من الناس إزاء فريضة الحج فامتنع الكثير منهم عن أصل الذهاب إلى الحج..

ويبدوا أن أهم الأسباب هو في ذلك العزوف هو التلبس بالخوف الذي يجعل الإنسان ينشغل بالحذر ويتعذر به، متناسياً أو غافلاً عن الفوائد العظمى لحج بيت الله الحرام، فعندما شعر الإنسان بفائدة سوق الدنيا في أطعمتها وألبستها، وعندما شعر بفائدة التعليم في المدارس والجامعات وكذا شعر بفائدة التواصل الاجتماعي، أخذ على عاتقه اتخاذ إجراءات الحيطة العادية من أجل الوقاية من الوباء بناءاً على أن "العقل يوجب الحذر" وأن "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، كما يقول الإمام علي (ع).

إلا أن الكثير من العازفين عن الحج لم يستشعروا تلك الفوائد التي لا يمكن أن تقدر بثمن في سوق الآخرة وهو الحج، كما في الأحاديث الكثيرة، ومنها قول الإمام علي (ع): ((الحاج والمعتمر وفد الله وحق على الله تعالى أن يكرم وفده ويحبوه بالمغفرة)).

وقال الإمام علي بن الحسين (ع): ((حجوا واعتمروا تصح أبدانكم وتتسع أرزاقكم وتكفون مؤونات عيالكم)).

ويتحدث الإمام الصادق (ع) عن هذا السوق العظيم بقوله: ((الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة اللازم لهما في ضمان الله، إن أبقاه أدّاه إلى عياله وإن أماته أدخله الجنة)).

فأمام هذا الفضل العظيم لابد أن يجدّ الإنسان في التفكير على الحرص بأن يكون ضمن وفد الله، خصوصاً أولئك الذين أدمنوا الحج في أوقات الرخاء والدعة، فيتركوه عند أول خوف، فكما أخذت الاحتياطات لأسواق الدنيا فينبغي أن تؤخذ الاحتياطات لأسواق الآخرة، بغية نيل فوائدها الجمّة.

فالحل هو استحضار عظمة الحج، والإيمان الحقيقي بتلك الفوائد التي ترجع إلى الحاج في الدنيا والآخرة معاً..

فإن قلب الإنسان عندما يميل إلى تبرير واقعه بناءً على موازين الهوى، فإنه ينحرف ولا يتخذ القرارات الصائبة، فلابد أن يستحضر العقل والإيمان من أجل الوصول إلى النضج في القرارات..

يقول الإمام علي (ع) في هذا الصدد: ((أعجب مافي الإنسان قلبه، له موارد من الحكمة وأضداد من خلافها – إلى أن يقول- وإن سعد بالرضا نسي التحفظ، وإن  ناله الخوف شغله الحذر)).

ففي نهاية المطاف ومع أخذ الحيطة والحذر، فإن القدر لا مفر منه، فعلى الإنسان أن يسعى ويعمل ما في وسعه لكي يدفع عن نفسه الأمراض، وكافة أشكال الأذى، ولكنه لا يملك أجله، لهذا قال أمير المؤمنين (ع): ((القدر يغلب الحذر)). مع الفارق بين أسواق الدنيا وأسواق الآخرة، في أن الأذى في أسواق الآخرة يثاب عليه الإنسان وهو بعين الله تعالى، "فإن أماته أدخله جنته" كما قال الإمام الصادق (ع).

بل إن إدمان أسواق الآخرة أمانٌ في الدنيا والآخرة، فعن الإمام الصادق (ع): ((عليكم بحج هذا البيت فأدمنوه، فإن في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم، وأهوال يوم القيامة)).

* مكة المكرمة 28 ذو القعدة 1430هـ

www.mosawy.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/تشرين الثاني/2009 - 18/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م