الإسلام في دول الخليج

أحمد شهاب

حال التمذهب والرغبة في اشعال أوار الفتن الطائفية، هل تعتبر حالا طارئة ومفتعلة مفروضة على المنطقة الخليجية، أم هي من صنع أبناء المنطقة ومنسجمة مع توجهاتهم الدينية والفكرية؟

هذا السؤال لا يأتي من فراغ، بل ينطلق من بروز ظاهر تورط أعداد من أبناء المنطقة الخليجية في أعمال عنف، سواء في داخل المنطقة أو خارجها، ربما آخرها ظهور متحدث كويتي جديد باسم تنظيم القاعدة.

خلال السنوات السابقة برز نفر من «مشايخ» العنف في الخليج بصورة غير مسبوقة، وانخرطت أعداد كبيرة من الشباب في تنظيمات موصوفة بالتشدد الديني والفكري، وأفصح العديد من الكتّاب والخطابات عن ميول متطرفة وتحريضية لم يسلم منها كل المختلفين مع توجهات هذا الكاتب أو ذاك الخطيب. وذهب بعضهم إلى تأجيج المسألة الطائفية بحدة، وتحولت المذهبية في غضون سنوات قلائل إلى عقيدة جديدة تقف مقابل عقيدة التوحيد، وتحاربها وتعلن انتصاراتها عليها في العديد من المواقع.

واللافت في الأمر أن التمذهب، أو التطرف الطائفي، ليس له مذهب أو انتماء قبلي أو عرقي محدد، بل يكاد يتحول إلى حالة عامة وموجة عاتية تجتاح المجتمعات الخليجية من أدناها إلى أقصاها، وتجذب أبناءها نحو مواقع الصدام والتفجر، ويتزامن ذلك مع انخفاض درجة التفاعل مع القضايا العامة، أو ما كان يطلق عليه في السابق ضرورات الأمة، لمصلحة القضايا الخاصة، وما يتفق عليه اليوم بضرورات الطائفة.

ضرورات الطائفة لا تعبر عن ضرورات مذهبية دائما، ولكنها تعبر عن رغبة راسخة في التأكيد على تصورات محددة للدين، وطرد ما عداها، أي التحول من الدين السماوي الجامع إلى الدين الفئوي الضيق بأتباعه. لذا فإن ميول بعض مشايخ التشدد في الخليج لا تقف عند استعداء المذهبيات المغايرة، وإنما تحاول في حراكها الديني اليومي أن تصنع قالبا ضيقا (الفرقة الناجية) يستوعب أتباعها ويحرمهم من الاتصال الفكري والروحي مع الآخرين.

يميل الإسلاميون في الخليج بصفة عامة إلى التشدد في القراءة الدينية، ويظهر أن مزاج العادات والتقاليد المتشددة وجدت مناخا خصبا لزيادة التضييق على عقول الناس الحرة، وحصرها في زوايا محددة باسم الدين. وأظهر الإسلام الخليجي مفاهيم للتدين مغالية في مبانيها الفكرية والعقدية، ولا تنسجم مع سماحة الشريعة الغراء، بل ولا تنسجم مع القراءة المنطقية للتصورات الدينية وأحكام الشريعة.

إذ تُصر بعض التيارات الإسلامية في الخليج على الاهتمام بالمظاهر الدينية، وتعتقد أن هذه المظاهر هي الحصن الذي يحمي الإنسان من الوقوع في الخطأ، وتُعيده إلى جادة الاستقامة والهُدى، وإن كانت بعض تلك الوسائل التي تستخدمها تُخالف أبسط مبادئ الشرع الحنيف، وتحاول أن تُقسر الناس على تطبيق فهم محدد للدين، وترك ما عداه، بما يسلب حرية الاختيار من الناس، وهو الأمر الذي يخالف شرع الله القائم على حرية الاختيار والقرار، ولاسيما في القضايا العبادية، وما يتصل بعلاقة العبد بربه.

ويمكن وصف غالبية الجماعات الإسلامية في الخليج بالتشدد المبالغ فيه في فهم القضايا المطروحة للحوار، والتعامل بغلظة وحدة مبالغ فيها، والدخول في الكثير من التفاصيل الهامشية، والتعاطي مع المسائل الخلافية بطريقة تميل إلى التصادم وقطع شبكة التفاهمات الداخلية، واستجماع كل اصطلاحات التكفير والطرد الديني عند الصراع، وافتعال الخصومة مع الآخرين.

ويعود ذلك باعتقادي إلى طبيعة البيئة الخليجية المغلقة من الناحيتين الاجتماعية والثقافية، إذ إرتدَّت عُزلتهم الاجتماعية والثقافية على هيئة عزلة فكرية وعلمية وحضارية قاتمة، فالكثير منهم لا يعترف بالآخر، لأنهم لا يعرفون الآخر من الأساس، ولم يكتب لهم أن يحتكوا به إلا بصورة سطحية، ولم يتفهموا دواعي اختلافه، وهم لا يرغبون بذلك أصلا.

أما السبب الثاني فيرجع إلى غياب الاجتهادات الفكرية داخل المنطقة الخليجية، فغياب القامات الفكرية القادرة على توليد الأفكار وتفعيل حركة الاجتهاد الفقهي والفكري، أدى إلى تصدّر الخطاب اللفظي والكتابات المقالية ومدونات الإنترنت -احيانا- سدة التوجيه الديني والفكري. ومن المعروف أن الخطاب اللفظوي يعتمد في الغالب على مخاطبة العواطف والمشاعر، وتهميش الأفكار الخلاقة والجديدة، لأن نجاح الخطاب يعتمد في الدرجة الأولى على تفاعل الجمهور مع الخطيب.

وعندما يغيب الخطاب المعقلن، فإن الدين يتحول إلى برنامج للتشدد والتضييق على الحريات العامة، ويتحول المتدينون إلى أجهزة رقابة تلاحق الناس في مخابئهم الخاصة، وتفتش في عقائدهم، ويكون إصدار الفتاوى أحد أهم وظائف رجل الدين في الدول المطلة على بحر الخليج.. وكأن كل ما ينقص هذه الدول، هو المزيد من التحريم والتحليل، ويجري ذلك في الوقت الذي انتقل العالم الإسلامي، غير العربي بالخصوص، في سؤاله الديني إلى مرحلة النهوض والانتباه والتجلي، عبر الاستفهام عن طرق تحويل القيم الدينية ذات الأبعاد الأخلاقية والتربوية إلى قيم سياسية ومؤسسية بالصورة التي تسهم في إعادة تنظيم علاقة الدولة والسلطة بالمجتمع.

وفي الوقت الذي يبحث فيه العالم عن صور الشراكة والتفاهم مع الآخرين، ويحاول المسلمون غير العرب أن يؤكدوا موقعيتهم بين الدول المتقدمة، عبر احترام هويتهم الخاصة من دون انغلاق، أو انقطاع عن تجارب الآخرين وعلومهم، وينتهجون سبل الحوار والتواصل والتلاقح الفكري بحثا عن منافذ التطور، فإن التيارات الإسلامية في الخليج، لاتزال تتعاطى مع شركاء الوطن، فضلا عن غيرهم، على قاعدة (مع الدين أو ضد الدين) في مساحاته السياسية، وهو ما انتهى إلى خنق الدين في مساحاته الحضارية، وهذه الظاهرة تكاد تعم جميع أطراف العالم العربي، وليس الخليج بمفرده.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 12/تشرين الثاني/2009 - 13/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م