رياح العصر الجلكاني

كاظم فنجان الحمامي

تؤكد سجلات الحرب العالمية الثانية على إنّ اللفظ الصحيح (للجلكان) هو (جيريكان), ويتألف من مقطعين : (Jerry), أو (Gerry), وهي مفردة انجليزية شائعة للإشارة إلى كل من ينتسب إلى القومية الألمانية. أما المقطع الثاني فهو (Can). ويعني بالانجليزية: علبة, أو وعاء, أو حاوية. وكان الجنود الألمان هم الذين ابتكروا هذه العلبة. واستخدموها عام 1939 في الميادين القتالية.  وأسموها بلغتهم (Wehrmachtskanist). ثم قام جنود العم سام بتصنيعها بطريقة الهندسة العكسية. وأطلقوا عليها (جيري كان), أي الحاوية الألمانية. وشاع استخدامها منذ ذلك الحين في التشكيلات العسكرية.

وشاءت الأقدار أن تكون الجلكانات هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام سكان شط العرب لعبور أنفاق ودهاليز  ما يصطلح عليه محليا بالعصر الجلكاني, الذي يمثل المرحلة المعاصرة بكل تداعياتها. فقد مر أبناء الرافدين بكل العصور التاريخية ابتداء من العصر الجليدي, ثم العصر الحجري الأول, والعصر الحجري الثاني, وعصر الكتابة والتدوين. ثم مر العراق بسلسلة من المعارك الحربية المتلاحقة, فشهد كل أنماط الحروب والمعارك من عالمية أولى, وعالمية ثانية. إلى مسلسل الصراعات والانقلابات الداخلية. وما رافقها من حروب إقليمية واستنزافية وثقافية وإعلامية واقتصادية. واشتملت أيضا على الحروب الاغتصابية، والمحدودة، والشاملة، والدفاعية، والأهلية، والنفسية، والطائفية، والخاطفة، والرخيصة، وبالنيابة، والوقائية، والحرب على الإرهاب، حتى انتهت هذه السلسة بحرب المياه, وتعرضت أوردة وشرايين شط العرب للتقطيع والتجفيف, فتدفقت نحونا  المياه البحرية المالحة حتى وصلت القرنة, وتسربت إلينا التيارات المدية القادمة من جهة البحر, وصار شط العرب امتدادا جديدا للخليج العربي, وكان لابد لنا من التحلي بالصبر والحكمة. فاعتمدنا على إستراتيجيتنا الفطرية, وهرعنا لتوفير المياه العذية التي تحتاجها عوائلنا. وتوفير كل ما يغذي عصب الحياة ويمده بعوامل البقاء. وارتفعت درجة الاستعداد الشعبي في قرى وأرياف شط العرب لمواجهة رياح الأزمة العاتية. وانشغلنا بجمع واقتناء كل أصناف, وشراء أنواع الجلكانات, والحاويات, والأوعية البلاستيكية.

وصارت هذه الإستراتيجية هواية وطنية عامة وشاملة. ثم تحولت إلى ظاهرة محلية عجيبة. فأصابت عوائل البصرة بهوس اقتناء اكبر عدد ممكن من الجلكانات. حتى صرنا نمتلك من الجلكانات ما لا يمتلكه أي شعب من الشعوب الفقيرة على وجه كوكب الأرض, والأجرام السماوية في مجرة التبانة. ولدينا الآن جلكانات من كل لون, وشكل, وحجم, وصنف. ويكاد لا يخلو بيت في البصرة من مجموعة من الجلكانات المعدة لكافة الأغراض.

وانصبت اهتمامات الناس على القيام بجولات يومية لملء جلكاناتهم بالبنزين, أو النفط الأبيض, أو الماء العذب, وبالقدر الذي يكفي لسد احتياجاتهم المنزلية, ولو ليوم واحد فقط. ومن المتوقع أن تشير سجلات (غينز)  للأرقام القياسية إلى رياح الظاهرة الجلكانية, التي اجتاحت البصرة من شمالها إلى جنوبها, ووضعتها في صدارة المدن المتجلكنة. الأمر الذي جعل المنظمات الإنسانية تحرص كل الحرص على إدراج فقرة الجلكانات في مقدم المساعدات المرسلة إلينا لمساعدتنا على اجتياز المحنة الجلكانية, التي ابتلينا بها منذ أن وضعت الحرب ماكياجها.

فتكاثرت في البصرة أكشاك بيع الوقود والكاز قرب محطات التعبئة, على شكل أكداس هرمية متكونة من الجلكانات المعبئة بالبنزين, وزيت الغاز, فتراها موزعة على امتداد الطرق الرئيسية, وصرنا في أمس الحاجة لتعبئة جلكاناتنا بالماء والوقود, وإنفاق ثلاثة أرباع مرتباتنا الشهرية لتغطية تكاليف شراء زيت الغاز والبنزين من الأسواق السوداء, أو من الطرق الخارجية. أو ملء جلكاناتنا بالمياه العذبة من الخزانات العامة, ومحطات التصفية المنتشرة في الأحياء الشعبية. فليس أمامنا أي خيار سوى إرهاق ميزانيتنا المتواضعة, واستنزاف مدخراتنا من اجل شراء الجلكانات, ومن ثم ملئها بكمية الوقود اللازمة لتشغيل المولدات الكهربائية, التي أصبحت عندنا من السلع المنزلية المعمرة, والمرتبطة مصيريا بالمرحلة الجلكانية التي نمر بها اليوم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 11/تشرين الثاني/2009 - 12/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م