الفساد وتهديد منظومة القيم الإنسانية

عدنان الصالحي/مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

تحظى ظاهرة الفساد (Phenomena Corruption) باهتمام واسع من قبل غالبية دول العالم والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية ومراكز البحوث والدراسات، فمنذ النصف الاخير من سبعينيات القرن الماضي، بدأت الأصوات تتعالى بضرورة وضع حلول حقيقية للظاهرة وإيجاد المضادات الفعالة تجاهها، نظراً للآثار السلبية التي تخلفها على التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية.

وقد ظهر منذ ذلك الحين العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت ظاهرة الفساد، قدم فيها الباحثون عرضاً لصور ومظاهر وأسباب ودوافع الفساد، في محاولة منهم لكشفها والدعوة إلى مكافحتها والحد من انتشارها.

ورغم الجهود المبذولة إلا إن الحالة تحولت من ظاهرة محلية إلى ظاهرة عالمية وانتشرت واستشرت بشكل كبير، حيث وصلت في السنوات الأخيرة الى درجة تورط بعض أعضاء في المنظمة الدولية للأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية الأخرى وقادة الدول العظمى في قضايا فساد أخلاقية وإدارية ومالية.

القضية تستوجب تعاون دولي مشترك (حكومات، وبرلمانات، ومنظمات غير حكومية، والقطاع الخاص، ووسائل الإعلام المختلفة) لمواجهتها وإبداء قدر أكبر من الاهتمام بها، ووضع استراتيجيات تُحدّث باستمرار لضمان مواجهة المشكلات الناجمة عن كل صور الفساد المعاصرة.

هذه الجهود لا تقتصر على الدول المتقدمة فحسب، وإنما يجب ان تشمل أيضاً الدول النامية التي تعاني هي الاخرى من تفشي هذه الظاهرة بصورة أكبر مما تعانيه الدول المتقدمة، حتى أضحى موضوع الفساد يتصدر قائمة اهتمامات الحكومات فيها.

 وحيث يعرف الفساد لغةً:- هو في (فسد) ضد صَلُحَ (والفساد) لغة البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، واصطلاحا له معان عديدة ولكنه يجمل بسوء استخدام المنصب العام لغايات شخصية الا ان المفهوم في عصرنا الحالي بدأ يأخذ أبعادا أخرى كثيرة ليكون أعم وأشمل بحيث يشمل كل اختلال مقصود في الحياة العامة سياسيا كان أم اقتصاديا أم اجتماعيا أم ثقافيا أم أخلاقيا ام دينيا.

انواع الفساد

يتنوع الفساد بأشكال ومظاهر اهمها :

1- الفساد الاداري والمالي:

 ويعرف بالانحرافات الإدارية والمالية والوظيفية أو التنظيمية والمخالفات التي تصدر عن الموظف العام أثناء تأديته لمهام وظيفته في منظومة التشريعات واستغلال المناصب المشغولة من قبله والصلاحيات المخولة إليه في الوظائف العامة ومخالفة القواعد والأحكام المالية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي والرقابي في الدولة ومؤسساتها، واغلب أسبابه ناتجة من محاول الكسب السريع والإثراء على حساب المصلحة العامة.

ويتجلى بعدة صور منها: سوء استخدام واستغلال النفوذ الوظيفي، سوء الإدارة، تبادل المصالح الخاصة، الرشوة، السرقة، الوساطة، الاختلاس، التزوير، الروتين والبيروقراطية، المحاباة، اللامبالاة، الابتزاز، حجب المعلومات، تشويه الحقيقة، سوء التصرف، الكسب غير المشروع، تأخير العملية الإنتاجية وتعطيلها، عدم احترام الوقت العام، الامتناع عن أداء العمل أو التراخي والتكاسل وعدم تحمل المسؤولية، تخصيص الأراضي، المحاباة والمحسوبية في التعيينات الوظيفية، إعادة تدوير المعونات الأجنبية للجيوب الخاصة، قروض المجاملة التي تمنح دون ضمانات، عمولات البنية التحتية، العمولات والأتاوات المحصلة بحكم المنصب.

2- الفساد السياسي:

 ويكون فيه الخطر كبير كونه يؤسس لحالة تمتد الى مشروع متبنى من قبل جهات حزبية وكتل لها تأثيرها في توجيه الرأي العام من خلال مشروعها المطروح ويكون هدفه الأساس هو الوصول الى مصلحة ذات الحزب او التكتل في السلطة او الحكم بعيدا عن المصلحة الوطنية للبلد، وتتمثل مظاهره في: الحكم الشمولي الفاسد، فقدان الديمقراطية والمشاركة الحقيقية في صنع القرار، فساد الوزراء ومن برتبهم، سيطرة نظام حكم الدولة على الاقتصاد، تفشي الفئوية والعشائرية والطائفية والعرقية، تولي الأقارب للمناصب كبديل عن اختيار الأكفأ والانزه، تفشي المحسوبية والمحاباة والواسطة، تأثير الأحزاب الحاكمة على مشاريع القرارات المصيرية، التدخل في قرارات القضاء وعمله.

 قد تتباين حالة الفساد هذه من الدول الديمقراطية الى المحكومة بنظام شمولي بنسب متفاوتة لكنها في نتيجتها تعطي اثارا سلبية مدمرة على المصلحة العليا للبلاد عموما ويعزى بأهم أسباب شيوعه الى الأنانية الحزبية والارتباطات الخارجية والمراهقة السياسية.

3- الفساد الاخلاقي:

ويكاد يكون اكثر الانواع ظاهريا كونه يرتبط بالحريات الخاصة وتصرفات الافراد ويتمثَّل بمجمل الانحرافات الأخلاقية المتعلقة بالسلوك داخل منظومة التعاملات اليومية وانتهاكه للقوانين الشرعية والاخلاقية التي يدين بها مجتمعه المنتمي اليه، متمثلة بالقيام بإعمال مخلة بالحياء او التعرض للحريات العامة ويرتبط بذات الفرد وان كان بمجموعه يشكل قاعدة خطرة على الساحة العامة، وكثيرا ما ينتشر في الدول التي تعاني من ضعف الثقافة الدينية على الساحتين السياسية والاجتماعية.

4- الفساد الاجتماعي:

ويختلف عن سابقه كونه يشغل مساحات اخرى في المجتمع وبفعل جماعي تقريبا من بث الإشاعة وإضاعة الحقائق وتشويه الصور وخلط الأوراق وإشاعة الفوضى والتجاوز على القوانين وعدم الالتزام بقواعد السلوك العامة وهو ناتج في اكثر صورة من حالة الجهل او التجهيل التي تشيع في البلدان النامية والفقيرة خصوصا.

5- الفساد الديني:

 ويعتبر من اخطر أنواع الفساد على الاطلاق كونه يستخدم الاديان كغطاء لإضفاء الشرعية على التصرفات غير القانونية و اللا اخلاقية، متذرعا ببعض المسميات والرموز لتمرير مايصبوا اليه من اهداف بعيدة كل البعد عن المنطق العقلي والشرعي، ليجعل الامم تسير نحو الهاوية بدون استشعار لمستقبلها, حيث يتصور البعض بان البحث في هذا المجال تجاوز على قدسية الاديان او المساس برموزها، ويتمثل في: التعصب والارهاب والتطرف والتقليد الاعمى، ويكون ناتج في اكثر صوره من الانحرافات العقائدية والفكرية. ويرى المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي أن: العلم الذي اعتبره الإسلام نوراً هو العلم المقرون بتقوى الله تبارك وتعالى. لأن العلم بلا تقوى يؤدّي إلى الضلالة والإفساد والفساد كما في الرواية عن الإمام زين العابدين (ع): «..فإنّ العلم إذا لم يُعمل به لم يزدد صاحبه إلاّ كفراً ولم يزدد من الله إلاّ بُعداً»، فعلماء السوء عبر التاريخ أفسدوا الأمة وأفسدوا التاريخ أيضاً.

6- الفساد الاقتصادي:

 وكما يبدو من تسميته فهو يقتحم الجانب الاقتصادي للدول حيث يتسلط اصحاب رؤوس الاموال الجشعين على مصادر الحركة التجارية في البلدان وعلى الغذاء بصورة خاصة، ويتحكمون بتواجده وغيابه من الاسواق ولاسيما في الدول التي تكون الحكومات فيها ضعيفة او في طور النشوء، ويتمثل باجلى صوره في: التلاعب باسعار المواد، الاحتكار، الغش الصناعي والتجاري، التهرب الضريبي والجمركي، اغراق السوق بالمواد في فترات محددة واضاعتها في فترات اخرى، حسب سياسة متبناة لذلك من قبل البعض، ويعتبر من اهم اسبابه هو ضعف رقابة الدول والحكومات على الجانب الاقتصادي وعدم وجود سياسية اقتصادية ثابتة، اضافة الى وجود الازمات الاقتصادية المستمرة في تلك الدول وسيطرة جهات احادية الجانب على السوق.

من يتحمل المسؤولية؟

مما لايخفى بان للقيادات بشتى انواعها الدور البارز في المساهمة بشكل مؤثر في شيوع هذه الظاهرة كونها قد دخلت الساحة اولا فمهدت الطريق للاخرين كي يدخلوه فمن طبيعة الانسان الفطرية ان يتبع من يقلده في اي ميدان يشغله سياسيا كان ذلك الميدان او دينيا او اقتصاديا او غير ذلك، وللنخب الدور التالي في المسؤولية حيث بدل ان تكون المحارب المهم والبارز في التصدي للظاهرة نرى على العكس فان اغلب ممن اتهموا بالفساد (سياسيا، اداريا,.....) هم ممن يشغلون مناصب مهمة وبدرجات وكفاءات كبيرة. ويرى المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي رحمه الله ان حل مشكلة الفساد تبدأ من القادة والمسؤولين لانهم النموذج الذي يقتدي بهم الشعب، فاذا فسدوا فسد الشعب، واذا صلحوا صلح الشعب، فأن زهد الحاكم يوفر على الأمة أقصى قدر ممكن من المال إذ المال ليس مالا للحاكم بل هو مال الأمة فإذا كان المال دولة بين الحكام وخاضعا لتصرفاتهم المطلقة وتعرضهم الطاغي - ومن الواضح أن الحاكم ليس فردا أو عشرة أو مائة بل تحتف به حاشية كبيرة من المتملقين والعاطلين والموظفين- لم يبق شيء للامة كما نشاهد ذلك في الحكام المستبدين الذين يصرفون أموال الأمة في اللهو والعبث والتطبيل لأنفسهم.

ويجمع الاغلب ان للفساد انعكاسات خطيرة وكبيرة بحيث يمكن ان تبلغ مستويات كارثية تتمثل بتهديد منظومة الحقوق البشرية عموما وسيادة الفوضى العارمة والتي تؤسس بدروها لمرحلة انهيار كامل للمنظومة الانسانية، هذه التهديد اصبح من الخطر بحيث لايمكن لاحد التنكر له فهو اليوم بدأ باستنزاف واسع لميزانيات الشعوب ومبادئها وحرياتها واستحكام قبضة المفسدين على مصائرها، ومما لاشك فيه بان السبب الرئيس في جميع ماتقدم هو وجود اختلال في منظومة القيم الانسانية لكل من يمارس الفساد بجميع الوانه او انواعه، وغياب الرقيب الذاتي والوازع الاخلاقي.

ما نحن بحاجة اليه

 مما لاشك فيه بان كل إصلاح يجب أن يبنى على أرضية صالحة وقاعدة متينة وهذه القاعدة يجب أن تكون مهيأة لتحمل ما سيبنى عليها من بناء مهما كان حجمه وثقله ولعل النفس البشرية هي في الحقيقية من أهم المواد والأسس التي تحدد فشل أو نجاح العمل، وإصلاحها هو الخطوة الأولى التي يجب أن تسبق جميع الخطوات الأخرى بل يتوقف نجاح وفشل ما سيلي على ما سينتج من ذك العمل فيقول الإمام الشيرازي رحمه الله في مجال تثقيف وبناء الذات (....إنّ مسألة الثقافة من أهمّ المسائل في كلّ أُمّة وحضارة، وقد يصحّ ما يقال بأنّ العالَم يدور على عجلة الاقتصاد والسياسة، ولكن الأصحّ من ذلك هو القول بأنّ الثقافة هي التي توجّه الاقتصاد والسياسة، فبقدر ما يحمل الفرد من ثقافة وعلم في كلا المجالين، فإنّه لا يَخسر ولا يُغلَب، إنّ الثقافة الصائبة وحدها القادرة على مواجهة وتصحيح ما نراه من ثقافة ضحلة في عالم اليوم، لأنّ القوّة أو المال أو غير ذلك يعجز عن مواجهة الثقافات وتغييرها، إذ لا يقارع الثقافة إلاّ الثقافة..... ومن هنا كان العمل الثقافي من أهمّ الأعمال في المجتمع، فهو يمثّل البناء التحتيّ لغيره من الأعمال....).

ويرى الإمام الشيرازي بأن (من الضروري على الدولة التي تقوم في العراق محاربة الفساد بأقسامه، وغير ذلك فأن الفساد يوجب تأخر الأمة وتدمير الشعب بعد أن يسلب اطمئنانهم بالدولة).

الحلول والمعالجات

أما ما يجب إجراءه على حالة النمطية الإدارية والفنية لمواجهة وباء الفساد فيمكن حصره في:

1- إجراء تغييرات حقيقية وواسعة تشمل جميع المؤسسات تتركز حول إصلاح مافسد منها وايجاد سياسة ثابتة وواضحة تعتمد الشفافية مبدأ لها.

2- العمل بشكل كبير على مبدأ القيم الاخلاقية واصلاح المنظومة البشرية بطبيعتها الانسانية باستخدام جميع الوسائل الممكنة والعودة بالانسان لشكله الحقيقي البسيط غير المعقد.

3- أهمية الديمقراطية المنضبطة كآلية للعمل الحر والتنافس السلمي الخلاق، وتداول السلطة سلميا في جميع الميادين وعلى اساس الاستحقاق القانوني والعقلي.

4- تربية افراد المجتمع بجميع الوانهم واعمارهم على ثقافة احترام القانون، وتصحيح جميع الثغرات في تلك القوانين.

5- تصدي علماء الأديان الأفاضل للمفسدين باسم الدين أي كان لونه وصفته وفضح أهدافهم ونواياهم وحماية البسطاء من الناس من الوقوع في شراكهم.

6- معاقبة كبار المخالفين واللصوص والمفسدين المحترفين وفضح سيرهم وتاريخهم بجميع الميادين وبغض النظر عن مكانتهم.

7- العمل بمبدأ الشفافية والوضوح الكامل في جميع الميادين الحياتية والانفتاح على المجتمع وعدم الترفع بالمواقع العليا او الانزواء بعيدا عن الانظار بحجج واهية.

8- تفعيل دور المواطن كأساس في مكافحة الفساد بشتى أنواعه بجعله القيمة العليا في جميع ذلك وتحريك مدركاته الأخلاقية والدينية والثقافية والحضارية في مواجهة التحديات.

9- وضع الاتفاقات الدولية الواقعية قيد التنفيذ والخاصة بمحاربة الفساد والإفساد وجعلها في مصاف الإرهاب الدولي.

10- استخدام الإعلام المهني الصادق المبني على الدلائل والوثائق في عمليات كشف وفضح الفساد صغيره او كبيره، وتحرير السلطة الرابعة من أي قيود.

11- إقامة المؤتمرات وإعداد البحوث والدراسات الخاصة بمكافحة وباء الفساد ووضع التوصيات والقرارات موضع التنفيذ.

إن مواجهة هذا المد الهائل من الفساد المتنوع يكون عبر الارتقاء بثقافة قيم انسانية سليمة ترتكز على تحملنا جماعيا للمسؤولية وعدم الهروب الى مستنقع الانانية والنفعية واللا مسؤولية.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 26/تشرين الثاني/2009 - 6/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م